|
دولة جنوب السودان تحتمها مشاهد دارفور
|
بعد المشاهد المروعة عن معاناة المواطنين في إقليم دارفور والتي صنعت أحداثها الحكومة السودانية ومليشياتها المسلحة، يجب أن نؤكد على نحو لا جدال فيه أن الحكومة السودانية وأتباعها العرب قد فشلوا في إثبات النوايا الحسنة التي أشارت إليها برتوكول مشاكوس بشيء من الاهتمام باعتباره أساس ومحور الاتفاق، ولا يمكن بعد الان أن نسمح بتكرار هذا القول: "علينا الانتظار بضعة سنين أخرى لتعميق الثقة بين الشمال والجنوب". فقط يجب علينا أن نضيف على الفور: أن قصة الشمال والجنوب قد انتهت وبدأت حكاية جديدة هي ـ مشكل المركز في الخرطوم "المسيطر" مع الأطراف "المهمشة". في الوقت الذي يختلف أهداف الأطراف بعض الشى تبعاً لاختلاف ظروف الأقاليم السودانية سياسياً منذ الاستقلال عن الاستعمار البريطاني.
لقد ادركتُ للتو من مشاهد دارفور أن هناك أفكار غريبة تطوف في أذهان العرب، ويحاولون إملاءها على الحكومة السودانية لتتخذها كموقف للتعاطي مع المشكل، صحيح أن أفكارا كثيرة تطوف في الذهن، ولكن ما نقصدها هي ـ الأفكار التامرية ـ يتبجحون بنظرياتهم المؤامرة الجديدة، لكنهم يسقطون في مهاوى عدم الوضوح، وهم يخلطون بين ما يسمونه "حبهم لدارفور" وفى المقابل "كرههم للغرب"، ولكن الحقيقة الناصعة كالشمس هو حبهم لثروات دارفور وأرضه وليس لشعب دارفور، ثم غيرتهم الشديدة من التدخل الامريكى السريع في القضية "الدارفورية" والاهتمام البالغ من المجتمع الدولي، بل العطف الذي يؤليها الغرب بشكل عام على الضحايا في دارفور ـ ويقارنون ذلك بمواقف الجهات المذكور أنفاً من قضيتهم الكبرى ــ القضية الفلسطينية ــ وهذا ما دفع بعضهم لتقليل من شان قضية دارفور بالتساولات الرهيبة: لماذا هذا التهافت على دارفور؟؟ وما سر التدخل الامريكى في دارفور؟؟ لماذا عن دارفور وليس فلسطين؟؟.
دعنا نفتح عيوننا وندرك، أن الكارثة الكبرى اليوم في السودان هي التطفل العربي في شاننا القطري، اهولاء يريدون أن يقيموا علاقات مصلحة مع الغرب ويطلقون عدة دعوات على المجتمع الدولي أن تتدخل في قضاياهم عسكريا كما هو الحال في مطالب الفلسطينيين بقوات دولية في حدودهم مع الاسرائليين. ويصرون في الوقت نفسه أن الأمر مختلف في دارفور ــ دعوني اسأل كل من يدعى العروبة في السودان ـ هل سمعتم يوما أن القوات الاسرائلية اغتصبت فتاة فلسطينية؟؟ اتحدى من يثبت لى ذلك، ولكن هذا طبيعي في دارفور وفى الجنوب. إذن الاختلاف موجود فعلا ولكن، ليس بالتصور العربي الذي يضخم الانتهاكات في فلسطين ويقللها في دارفورــ العرب لا يتحدثون عن حل المشكلة في دارفور، ولا يتكلمون عن جذورها ولا يقبلون بالتدخل الخارجي غير تطفلهم ولا يريدون تقديم إرشاد على الحكومة للعدول عن مواقفها المتشددة، فقط يصرون على أن ينتحر المواطنين في دارفور أو تهبط الحلول من السماء.
اننى لا أريد التطرق إلى ما يجعلنا نكره اهولاء الذين يكرهوننا وإنما اننى في محاولة لمعرفة ما إذا كان بوسعنا التحرك نحو هدفنا الأسمى وهو (الوحدة) بقرار وتصميم من العرب، وتجب الإشارة إلى ان هناك مشاعر ضيق شديد في جامعة الدول العربية ولدى الشعوب العربية والمثقفين العرب تجاه الأقليات العرقية ويتعاملون مع قضاياهم على أساس أنهم تحت السيطرة، وان باستطاعتهم إقرار مصائرهم، وهذا اعتقاد سأزج لان العرب في الأيام التي كانت الحكومة تشرب دم الشعب كانوا يتمددون على عروشهم دون ان يسالوا عن شيء كانوا يلزمون صمتاً عنيداً، وغير ذلك دعنا نطرح السؤال الأروع تعبيراً عن حال العرب: متى استطاع العرب يوماً من معالجة مشكلة بادروا لحلها؟؟ حتى مشاكلهم العويصة تقلبهم...وما ان تدخلوا في اى مشكلة حتى فسدوها، اهولاء لا يبذلون اى محاولة حقيقية للمساعدة في حل مشكلة دارفور ولا اى محاولة لتبرير تايدهم لحماقات الحكومة وجرائمها ضد الشعب في دارفور، ومع ذلك يفيضون في الحديث لتبرير مواقفها وتصرفاتها الغير أخلاقية أمام المجتمع الدولي، بدلا من وصف الوضع الكارثى في دارفور والاعتراف بالمعاناة ينصرفون في قضايا تافهة جدا ويلعبون بالعقول قائلين: "لإسرائيل ايادى خفية في دارفور" واعلق على ذلك بالقول: إذا كانت ايادى إسرائيل طويلة لهذا الحد فاننا نستطيع القول ان الحكومة نفسها فعلت كل هذا لإرضاء إسرائيل لان الأخير هي التي طلبت من الحكومة والجنجويد ان يحرقوا القرى ويغتصبوا فتيات دارفور ويقتلوا الشيوخ والأطفال .
ان العرب يهاجمون بضراوة، ويعكسون قضايانا بالصورة التي لا تليق بسمعتنا كأفارقة أصحاب الأرض، وهنا أتقدم بنصح متواضع إلى رفقائنا في دارفور والى الأعلام الثوري الدارفورى بالا يقف مكتوفاً اذاء هذه الهراء العربي وإعلامه المجحف والعدواني.. واسمحوا لي ان أقول للعرب: هذا قوادة غير مقبول بالمرة.
أما فيما يخص شان جنوب السودان فلستُ محايدا هذه المرة في التحليل، حيث لم يبقى ثمة ما ننتظره، لقد ضقنا زرعا وفرغ صبرنا، فلا احد بعد اليوم باستطاعته إقناع الشارع الجنوبي ان التعايش ممكن مع الذين ينفذون وصايا الدول العربية ويعيدون التاريخ السئى عن الجنوب في دارفور.
وبهذا أترجى المثقفين والساسة والنخبة الجنوبية والقادة ان ينظموا الأمور التي تؤمن التجانس السياسي للدولة الجنوبية التي بدأنا نتلامس واقعها لاسيما الجوانب التشريعية والأمر الأعظم: ان يحاولوا التأمل والنظر بدقة إلى الأحزاب السياسية الجنوبية ومصيرهم السياسي بعد الاستقلال، وهنا لابد من نقد ذاتي في هذا الشأن.
وإذا كان من الأهمية بمكان التكهن عن دولة جنوب السودان الموعودة، فأنها لن تقوى وتتجانس وتتماسك وتستمر في وحدتها إلا بتشريع قوانين دستورية ذات صرامة وحرية متوازنين، لذا كان اقتراحي في احد مقالاتي السابقة والذي أجدده اليوم: ان يتبنى الدستور المرتقب في جنوب السودان نظام حزبين فقط لضمان نجاح العملية السياسية، حيث من الممكن تسمية الحزبين والانتماء اليهما وفقا للميول والانسجام بين المثقفين الجنوبيين، فالحزب الأول قد يتكون من مناصري الحركة الشعبية لتحرير السودان وأعضاءها، أما الحزب الأخر من تجمع الأحزاب الجنوبية الأخرى والذين بوسعهم التخلي عن الأسماء الصغيرة وتبنى "اسم جامع" وبرنامج سيأسى موحد. واحُزر في إطار النقد الذاتي من صراع طويل ومستمر إذا ما تبنت الدولة الجنوبية في دستورها نظام متعدد الأحزاب باعتبار التجربة مازالت تعانى من عيوب لا تستطيع الوضع السياسي في الجنوب تحملها.
صفوة القول: ليس لدى اى بصيص من الأمل في قدرة الحكومة على تحسين ومعالجة القضايا المصيرية في السودان بشكل عام ــ عقب السلام ــ أو خلال الفترة الانتقالية، يفوق ما كان لي من أمال قبل مشاهد دارفور التي حتمت الانفصال، بل جعلته خيار ليس بمقدور المواطن الجنوبي تجاهله بعد التطفل العربي.
|
|
|
|
|
|