عندما ينبع نظام الحكم في دولةٍ ما من مستنقع الإستحواز بالذات الإنفرادية في تدوير عملية الإدارة السياسية والإقتصادية والمدنية والثقافية ، لا يمكن لقواده إلا أن يعتمدوا في الإبقاء عليه وحمايته سوى إستعمال سلاحين ، أولهما القوة الجبرية وإعلاء مقام التدابير الأمنية والمخابراتية من أجل الحصول على إنذار مُبكر لأول إرهاصات الثورة والمخاطر الأخرى ، وثانيهما تجفيف مغالق الدولة السياسية والإدارية والثقافية من كل معارض أو ذو إتجاه فكري مُغايِّر ، والإتجاهات المُغايرة تشمل أيضاً الواقفين في سواحل الحِياد تحت إسم المستقلين أو غير المُنشغلين بالسياسة ، وبذلك يتم القضاء على مخاطر العصيان المدني فضلاً عن التكتلات السياسية النقابية المؤثرة داخل الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة الإستراتيجية ، فعلى سبيل المثال إستغرقت عملية إرساء فقه التمكين في السنوات الأولى لحكومة الإنقاذ وقتاً وجهداً كبيرين تطلب صبراً وأصراراً مارسه المستفيدين من التجربة من منطلق أن (التمتع) بثماره ومآثره يحتاج إلى وقت طويل يُقدر بالسنوات العديدة وها قد جاء اليوم الذي مفاده شعور كل منتمي للحزب الحاكم بأنه يملك كل مغالق الأمور ومفاتيحها ، وفي المقابل شعور كل صاحب إتجاه سياسي وفكري مُغاير كونه (ضيفاً) أو مجرد متفرج في ساحة هذا الوطن الذي هو في طريقه إلى أن يتفتت ثقافياً وإجتماعياً وقومياً ، كما بدت مظاهر تفتته وإنقسامه جغرافياً وعرقياً وسياسياً ، وليعلم أولئك الذين ما زالوا يدافعون في كثير من المنابر عن مزايا التمكين السياسي والإداري لصالح دولة الإسلاميين الإقصائية أنهم لا يرون الجوانب الخفية من آفة التمكين والتي إتخذت لها دولة الإنقاذ في بداياتها الكثير من المسميات الحركية والإستخفائية ومثال على ذلك الحرب الشعواء على الفن والأدب والثقافة خصوصاً تلك المُغايرة بالمضمون والأشخاص للإتجاهات الفكرية للدولة بالقدر الذي جعل أول عهد الإنقاذ هو عهد (الفرار) الإبداعي من ساحة المعركة غير المتكافئة الإمكانيات ، فهاجر الكثير من المطربين والتشكيليين والشعراء والأدباء وخصوصاً أصحاب القدر المُعلى والأسماء الأكثر شهرة لأنهم شعروا بأن فقه (التأصيل) سيصبح مُهدِّداً شخصياً بعد أن كان مُهدِّداً ثقافياً ، عشرات من السنوات أفسحت فيها الدولة المجال الإعلامي وأمعنت الدعم المادي والفني للمجموعات والأفراد والمؤسسات التي تمُجِّد الخط الثقافي والفكري للدولة والمشروع الحضاري المزعوم ، فكان من الطبيعي أن تتغوَّل المصالح الذاتية على حركة المصلحة الثقافية القومية العامة ، وأن يجد أنصاف الموهوبين من الفنانين والمبدعين في شتى المجالات فرصة للإنقضاض على الفن النبيل ، وإيقاف عجلة التطور الطبيعية المتعلقة بنمو الفن والفكر والأدب والإبداع السوداني ، وذلك عبر تشريد الأجيال الوسيطة التي لم تجد فرصةً و لا جيلاً مؤهلاً لأن يستلم الراية لأنها وصلت إلى نهايات عطائها الإبداعي في أجواء غير طبيعية سيطر عليها العوز والإذلال والمحاربة في شتى منافذ البث الإعلامي ، لهذه الأسباب يجب أن لا نستغرب إستغراق الفنانيين في إجترار أغاني الرواد ، وخلو الساحة من التجريب والتجديد في شتى المجالات الإبداعية .. و لكن هيهات فإن صنعت السلطة والجاه والنفوذ المناصب والقصور والشهرة المصطنعة فهي ستظل على الدوام غير قادرة على صناعة الفكر والثقافة والإبداع والنجومية الحقة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة