كثرة أوجه العمل الطوعي التي تعكسها كثرة المنظمات والجمعيات التي تُعنى بكثير من القضايا الإجتماعية التي هي في نهاية الأمر عبارة (نواقص) وتقصير تتحمَّله الدولة إنطلاقاً من رداءة الأداء العام لمنظومتها الإدارية والفنية ، حتى أصبح الأمر عندنا معكوساً من حيث الوضع الطبيعي لكثير من الخدمات والمشكلات التي تُعتبر عبر العرف والقانون والمنطق مسئوليات حكومية بحتة ، والأصل في الموضوع أن يكون العبء الأكبر والأعم على عاتق الدولة ثم تبقى التكملات و(الرتوش) واللمسات الدقيقة على عاتق المسئولية المجتمعية التي تمثلها عادةً المنظمات والجمعيات الطوعية وشركات ومؤسسات القطاع الخاص ، ولما كانت البنية الأساسية للمشاريع المتعلَّقة بالخدمات الإجتماعية وإستراتيجياتها التنموية من حيث الفعالية في قيامها بدورها المطلوب تتطلب نظاماً حكومياً إدارياً وفنياً قادراً على صناعة الخطط وتقديم القالب الأساس الذي تنبني عليه فكرة تقديم الخدمة للناس بأسرع وقت وأقل تكلفة وأجود الأساليب ، كان لابد أن تضرَّر منظومة العمل الطوعي من هذا القصور عبر مشكلات كانت وما زالت تواجهها أهمها كثرة أعدادها المسجلة لدى الجهات المختصة وكذلك إزدواجية أو تكرار أو تشابة إختصاصاتها ، فضلاً عن توسُّع دائرة نشاطها في مسائل تأسيسية وأخرى متعلَّقة بالبنى التحتية التي كان من واجب الدولة توفيرها ، فالمتفحص الآن لحال فعالية العمل الطوعي عبر جميع أو معظم تخصصاته يجد أن أغلبها غارق فيما هو إختصاص حكومي بحت ، بل وربما إستحال تحقيقة دون الإستعانة بقدرات الدولة وسلطاتها وإمكانياتها في الإطار التمويلي والإنشائي والقانوني ، فإنقلب الحال الطبيعي لمحور الموضوع من منظور أن العمل الطوعي أصبح يطلِّع بمسئوليات أكبر من مسئولية الدولة تجاه الكثير من القضايا الإجتماعية التي يعمل عليها العمل الطوعي عبر المنظمات والجمعيات ، فعلى سبيل المثال كان في السابق الشعار أو العرف السائد أن الدولة مسئولة وعليها أن تعمل على إستهداف العلاج المجاني أو المدعوم للطبقات المحتاجة وكذلك مبدأ الحصول على الدواء ، لتنقلب الآية الآن في إتجاه أن الدولة ترفع يدها عن دعم العلاج والدواء بالقدر الذي ضاعف من عدد المستهدفين الواقعين في دائرة إختصاص الجمعيات الطوعية العاملة في القطاع الصحي ، لأنها في السابق كانت تعمل على دعم شرائح بسيطة لم تستطع لأسباب موضوعية التمتع بدعم الدولة ، أما حالياً فدائرة إختصاصها أصبحت ممتدة إلى (أغلبية) بل جميع الطبقة الكادحة التي كانت تستفيد من أداء الدولة لدورها في تخفيف أعباء الإستشفاء والتداوي ، مثال آخر ما تقوم به جمعيات ومراكز ومنتديات العمل الثقافي من إثراء لفعاليات ومهرجانات ومخططات ثقافية ، وما يقابلهُ من عجزٍ واضح ومرصود لوزارة الثقافة عن القيام بذلك الدور الذي هو من صميم إختصاصاتها أو حتى على الأقل المساهمة بالدعم والمساندة ، ليتكشَّف لنا بوضوح أن الصورة في هذا المقام أيضاً مقلوبة ، فالأصل في الموضوع أن توفِّر الدولة عبر وزارة الثقافة التخطيط الإستراتيجي والبنية التحتية للعمل الثقافي والإبداعي ثم تدعمه ، ثم من بعد ذلك ياتي دور المراكز والمنتديات والمنظمات والجمعيات الثقافية لتساهم في ترتيب وتنظيم وإثراء الواقع الثقافي عبر مخططات تفرضها الوزارة وليس العكس ، من كل هذا يمكننا القول أن السودان في مجال الخدمات والحاجات المُلِّحة وخصوصاً تلك المتعلِّقة بـ (عامة الناس) والبسطاء تحكمه دولة العمل الطوعي (مكتوفة الأيدي) حتى ترتاح دولة الظِّل السلطوي وتغفو ثم تتفرَّغ لصراع المصالح ومقاعد السلطة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة