بسم الله الرحمن الرحيم يعاني السودان من تنوع كبير في تركيبة مجتمعه، وتعدد مشاربه وقبائله وثقافاته، وهذا التنوع الإجتماعي الثقافي أدى لتنوع فكري وسياسي قام بتعقيد المشهد العام في السودان، يتضح ذلك من العدد الضخم للأحزاب السياسية ومشتقاتها، وكثرة المبادرات التي يتنافس البعض على إطلاقها. ومما يضر بالوحدة الوطنية، هو التنوع السياسي الكبير غير المنضبط والإستقطاب الحاد في ظل تدني نسب التعليم والوعي في كثير من المجتمعات القبلية بالسودان.
وفي ظل بطء عملية تحويل الموارد الطبيعية إلى موارد مالية لولايات السودان، وجد أغلب الطامحين في المجتمعات القبلية أن التكتل القبلي والولاء الضيق يحقق لها مصالح شخصية وجهوية قد لا تتوفر لهم بدون هذا الغطاء. فتم استغلاله استغلالا غير أخلاقي وقاموا (بالنزوح بهذه الأفكار) إلى داخل كل التكوينات السياسية في البلاد والمؤسسات غير الرسمية، وأدخلوا عليها ممارسات غير سوية، فأضروا بها وبالوحدة الوطنية المنشودة.
لذلك تبدو عملية صناعة الدستور سواءا كان دائما أو مؤقتا، هي عملية صعبة أو شبه مستحيلة في ظل هذه الظروف، ما لم يتم تهيئة البيئة السياسية والإجتماعية والأخلاقية لصياغة الدستور الدائم.
تبرز واحدة من المهام الوطنية السامية والمهمة لمنظمات المجتمع المدني، في معالجة هذه الإشكالات بصورة منهجية، و (بالتنسيق مع بعضها بعضا)، كي تتحقق المصالح الوطنية المشتركة.
(فالدور الإسنادي) لهذه المنظمات، سواءا كانت اتحادات أو نقابات أو حركات أو غيرها من مسميات المنظمات، هو دور لا تستطيع الإستغناء عنه أكبر دول العالم وأغناها.
وهي واجهات تستعين بها الحكومات لحشد طاقات الشعوب في قضايا وطنية لن تجمع المواطنين في حزب واحد، فيصير العمل عبر المنظمات لخدمة الوطن أكثر تقبلا لمن لا يريدون تصنيفا سياسيا لهم سوى أنهم مواطنون صالحون.
وتزداد قيمة المشاركة السياسية عبر المنظمات عندما تعمل بالتنسيق مع مراكز الأبحاث والدراسات في طرح القضايا الوطنية للنقاش المفتوح دون لافتات سياسية تثير حساسية طرف ضد الآخر.
حيث يمكن لهذه المنظمات أن تطرح دون قيود زمنية أو تنظيمية أو فكرية، مسألة صياغة الدستور على المواطنين، وتقوم بتشجيعهم على المشاركة فيه بالأفكار، ثم تقوم بتقديم رؤى المواطنين جاهزة لكل الأحزاب لتبحث فيها من مناظيرها الآيديولوجية بعد ذلك إن شاءت.
لذا يصير لزاما على المنظمات هذه أن تقوم بالخطوة الأولى الإستباقية لجميع الأحزاب كي تتواصل مع المواطنين، وتصبح عليها مسؤولية تشجيعهم لاحقا للإدلاء بأصواتهم عند الإستفتاء أو عند الإنتخاب، دون أن يكون عليها حرج أن تدعوهم للتصويت لتيار معين، وإنما تقوم بدفعهم للمشاركة السياسية كواجب وطني.
وهناك أمثلة جاهزة للعمل عليها، ففي دستور السودان الإنتقالي لسنة 2005، هناك بنود في الباب الأول و الباب الثاني، فيما يتعلق بمراعاة الفروق الإثنية و الثقافية وأعراف الشعب و معتقداته، والعدالة الإجتماعية. فهي فقرات عامة تحتاج تخصيصا وتوضيحا، ويمكن أن تسهم منظمات المجتمع المدني (في الولايات) بطرح رؤيتها حول التعديل في هذه البنود.
وإن بعض التساؤلات التي يجب أن تبحث فيها منظمات المجتمع المدني بالتنسيق مع مراكز الفكر والدراسات هي: هل القوانين الولائية في ظل الفدرالية تناسب التركيبة العقلية و النفسية للفرد السوداني ؟ أم أنها تجنح به للتمرد على المركز، وتجنح بالولاية للطمع في الإنفصال حال أن قوي عودها وازدادت مواردها المالية ؟ وهل الفدرالية نفسها تناسب العقلية السودانية بوضعها الحالي، وتناسب درجة التعليم في الولايات المطالبة بالفدرالية ؟ وكيف يقوم الدستور بمراعاة هذه الخصوصية الثقافية في الفصل الرابع من الباب الأول للدستور الحالي 2005 ، والمختص بلامركزية الحكم، والروابط بين مستويات الحكم التي كانت أربعة و أضحت ثلاثة بعد الإنفصال..
فهناك كثير من الحالات في الدستور الذي يجب إعادة صياغته بمشاركة منظمات المجتمع المدني، والتي يجب فيها (مراعاة الفروقات النفسية) والمعرفية بين مواطني الولايات، قبل الشروع في تحديد العلائق بين المركز والولايات والمحليات، كيلا نعاني من توترات و انفصالات ونزاعات أهلية جديدة أو متجددة.. وهذا مجال كبير يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تتحرك فيه، إشراكا لكل كوادر الولايات ومواطنيها في تحديد المستقبل السياسي لها ضمن المنظومة الوطنية المتكاملة.
وإن من التحديات الخطيرة التي تبرز لهذه المنظمات هو مصادر التمويل لها، حيث إن الدور الإصلاحي السياسي لها يعني بالضرورة أن تكون الجهات الممولة ذات اهتمامات سياسية، مما قد يوجه مسارات المنظمات إلى اتجاهات معينة نحو مصبات الجهات الممولة، فتضيق بالأفق مرة أخرى عن المرامي الوطنية الواسعة، وتتململ رادارات الأجهزة الأمنية الوطنية بطبيعة الحال.
ولكن البحث عن مصادر تمويل شعبي، وإلزام المنظمات بأن يكون جزء من مصادرها أهليا، قد يخفف الآثار السلبية المذكورة. حيث يضغط ذلك على المنظمة بأن تتواصل بصورة أوثق مع المواطنين للدرجة التي تقنعهم بالتبرع لها للقيام بنشاطها وكي تستمر في تقديم خدمات التنمية لهذه المجتمعات بما فيها التنمية السياسية الوطنية.
ولكل ذلك يجب أن يكون العمل عبر المنظمات تنسيقيا وجماعيا وشفافا، ويمكن أن يصل لإعلان ميزانياتها في اللقاءات التنسيقية الجامعة لها، بحيث يتم طرح كل القضايا والأهداف التي يجب إنشاء برامج لتحقيقها على جميع المنظمات المشاركة في عملية البناء الوطني، ويتم تبادل الأدوار بقناعة تامة بين هذه المنظمات بألا تؤثر خلفياتها السياسية سلبيا على الوصول للأهداف المشتركة بينها جميعا.
إن مشاركة المنظمات في عمليات التنمية بأنواعها، تشكل إسنادا ليس للحكومات فحسب، وإنما تشكل إسنادا للشعب المستهدف بالبرامج التنموية، مما يقلل من الإستقطابات والعصبيات، ويهيئ لمشاركة سياسية هادئة وأقل انفعالية في المجتمعات التي يصيبها شئ من التنمية والتلبية لاحتياجاتها.
وإن البرامج التي تقوم بها المنظمات، تؤدي لاستكشاف القيادات في المجتمع، في بيئات قد يصعب الوصول إليها عبر الأحزاب أو غيرها من الجهات، فتقوم المنظمة بتقديمهم إلى مجتمع أوسع كقيادات سياسية جديدة تم اكتشافها، تفيد الوطن وتسهم في ابتكار الحلول الجديدة لمشاكله وقضاياه المتجددة.
ويبدو جليا من الخطورة ترك المنظمات الأجنبية دون رقيب لذلك، حيث تقوم بنفس الدور الإستكشافي هذا، ولكنها (توظف هذه القيادات المجتمعية للقيام بأدوار غير وطنية)، تصل أحيانا لدعمها بالمال والسلاح، مما يؤثر على المشهد السياسي للبلاد بصورة سلبية ويضرب الإستقرار فيها.
وفي ظل تبني الدولة للفدرالية وأن تحكم الولايات نفسها بنفسها بقدر كبير من الإستقلالية المضرة بالوحدة الوطنية، يتوجب على منظمات المجتمع المدني أن تسد الثغرات التي يمكن أن يخلفها التنافس الحزبي في هذه الأوساط، بل و (تسد ثغرات التدخل الأجنبي تحت ذريعة العمل الإنساني).
فعملية التوعية الوطنية والسياسية تكون من أولويات المنظمات، فالإعلام والتعليم هما رأس الرمح في سد كثير من ثغرات تطبيق الفدرالية في المجتمعات النامية والمتعصبة لقبائلها ومناطقها الجغرافية، ويكون الإعلام هو الأسرع أثرا لو قامت المنظمات في تلك المناطق قليلة الوعي بتوجيهه بما يتوافق مع المصالح المشتركة لجميع المواطنين في البلاد.
وهذا ينقل لمسألة (الحوار الوطني) الذي انتظم البلاد بعد دعوة الرئيس، حيث قد يحتج المواطنون على أن الحوار هو مقتصر على الأحزاب السياسية وقياداتها، ويرتهن الشعب لدى بعض الأحزاب التي تتحدث بإسمهم دون أي تفويض شعبي لأي حزب معين في الساحة. فيأتي دور المنظمات في امتصاص هذه المشاعر الشعبية ضد الأحزاب وضد الحوار نفسه إن كان يفضي لغير ما يريد المواطنون، ويأتي دور منظمات المجتمع المدني في التبصير بأن الحوار الوطني ليس معنيا به حفظ مناصب ومقاعد للأحزاب في الحكومة والبرلمان دونما تفويض شعبي عبر الإنتخابات، ((حيث إن مطالب الشعب هي أوسع من المطالب الحزبية الضيقة))... بل قد تكون مطالب المواطنين مخالفة تماما لما تطرحه بعض الأحزاب من مقترحات مثل الحكومة الإنتقالية أو تأجيل موعد الإستحقاق الدستوري.
ويبرز تحد آخر، وهو (تعصب منظمات المجتمع المدني) لنفسها ولآرائها، ومحاولتها فرض الوصاية على الحكومات أو الشعوب، خصوصا مع مساحة التواصل الكبيرة لها بجهات أجنبية غير وطنية، وتلقيها دعومات علنية وخفية منها. فننتقل بذلك إلى حكم ديكتاتوري لمنظمات المجتمع المدني!
وفي أدوار (التمكين السياسي للمرأة)، لا يخفى إمكانية تمكينها عبر المنظمات وبرامجها الطوعية بصورة تدريجية، حيث إن المشاركة السياسية المباشرة لها في حزب قد لا تناسب بعض المجتمعات التي لا زالت متحفظة متوجسة من أن تصدع المرأة برأيها، فبذلك تكون المنظمة عبارة عن سلم تدريبي وتدريجي لتهيئة المجتمع للإستفادة من آراء النساء والشابات في المجال السياسي وفي صنع السياسات وفي قيادة العمل الطوعي والسياسي، بخطوات تدريجية هادئة لصنع جيل جديد من الشابات القياديات.
وهذا ينقل لمسألة (التنشئة السياسية) political socialisation ، فهي مسؤولية مشتركة بين عدة جهات تظل المنظمات هي الداعم الأكبر فيها، لتدريب المواطنين جيلا وراء جيل على العملية الديمقراطية وتقبل الآراء المغايرة والحث على المشاركة بالرأي والتصويت في الاجتماعات والتثقيف السياسي الوطني بشكل عام، والتدرب على صنع السياسات وتنفيذ القرارات والمتابعة وبصورة مستمرة لعدد من السنوات، وهو ما لا يتوفر في أي حاضنة سوى منظمات المجتمع المدني، وربما يتسنى لبعض الأحزاب بصورة أضيق وأقل كفاءة من منظور ديمقراطي.
وأهم ما تتضمنه التنشئة السياسية هذه بالبرامج العملية، هو تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، والتطوع من أجل الآخرين، وهي قيمة إسلامية نابعة من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ، فارتبط الأمر بالإيمان مباشرة.
ومن إيجابيات التنشئة السياسية في حاضنات هذه المنظمات، هو توليد وصناعة قيادات جديدة مستقلة غير ذات صبغة آيديولوجية محددة، مما يثري المشهد السياسي بقيادات غير متعصبة لتيار يساري أو يميني أو طائفي، وإنما تغلب عليها المصالح الوطنية المجردة، حيث إن التنشئة قامت في ظل منظمة ترفع شعارات وطنية بحتة لا تتجاوز حدود دين البلاد، وتضع المنظمة برامجها تبعا لذلك، فتتم برمجة الناشئ فيها على الوصول للأهداف الوطنية بكل تجرد، وليس على أساس تحقيق الفوز في انتخابات عبر تنفيذ هذه البرامج كسبا لتعاطف المواطنين وإعجابهم ، أو من الطرف الآخر كأحزاب معارضة، تكون التنشئة السياسية فيها لتحقيق الفوز قائمة على إفشال برامج التنمية للحزب الحاكم، وإثارة المواطنين عليه.
فتظل بذلك المنظمات هي بيئة أكثر صحية من بيئة الأحزاب كلها في عملية التنشئة السياسية الوطنية. وتكون إحدى أدوات تحجيم التعصب، ففكرة المجتمع المدني ثم فكرة منظماته ثم العقد الإجتماعي جاءت أساسا منذ بدايات تشكلها عند أرسطو مرورا بأحداث القرن السابع عشر وحتى العصر الحديث للقضاء على السلطة المطلقة وهيمنة مؤسسات الدولة بطريقة ظالمة بدون قوانين حاكمة على مكونات المجتمع، بل وجاءت منعا لوضع القوانين بصورة أحادية من الحاكم يكون فيها ظلم للمجتمع وتكليف للنفوس فوق وسعها.
ولأن رسول الإسلام محمد قد دعا ربه أنه "من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه" ، كان من الحكمة على ولي الأمر أن يشرك كل شرائح الأمة الممثلة في منظمات المجتمع المدني، في شأن الأمة ومشاورتها، حتى إن كتب الله الشقاء على الأمة، لا يكون على ولي الأمر في ذلك مسؤولية، فيكون بالتالي توسيع الماعون الشوري فيه منجاة للحاكم قبل المحكوم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة