|
دعوة للقراءة إصدارات جديدة ومهمة للمفكر شيخ النيّل أبوقرون (2) كتاب الإسلام والدولة/د. عادل عبدالق
|
كما وعدت فى المرة السابقة أعود اليوم لأواصل الحديث عن الكتب المهمة التى أصدرها الكاتب والمفكر المتميز الشيخ النيّل عبدالقادر أبوقرون – (وأعتذر عن التأخر الذى كان بسبب محاولات فاشلة لنشر هذا المقال وغيره فى صحف الخرطوم) - ولا يضر التذكير بأنه أحد أشهر القانونيين السودانيين ، ومن أشهر الكتاب والمفكرين المعاصرين ذلك أنه عرف باهتمامه بقضايا التشريع والفكر والتاريخ الإسلامى وبطرحه كثيراً من الآراء الجريئة حول بعض ما يكتنف هذه القضايا من إشكالات ومفاهيم موروثة مما أدى بدوره إلى محاورات فكرية ساخنة كتلك التى دارت حول إعادة قراءة بعض الوقائع التاريخية مثل قصة أسري بدر وقصة سحر النبي صلى الله وبارك عليه وآله وتفسير بعض الآيات مثل تفسير سورة عبس وهو موروث أخذ به المسلمون كمسلّمات دون النظر إلى ما صاحبه من إشكالات خطيرة كطعنه فى عصمة النبوة وهو تراث تراكم على مر التاريخ الإسلامى دون البحث فى تناقض كثير من الروايات التى انبنى عليها والإكتفاء بما هو مكتوب من التفاسير بل والنظرإليها بعين التقديس حسب ما أوضح فى طرحه. كنت قد نوهت فى المرة السابقة للإصدارات الجديدة للشيخ النيّل أبوقرون وتوفرها بالمكتبات مما يعد فرصة عظيمة لكل باحث ولكل طالب علم ولكل من ينشد معرفة الحقيقة من مصدرها الأصلى دون اللجوء إلى بناء معرفته ومن ثمَّ بعض أو كل مواقفه إستناداً على مصادر سماعية لا يمكن إلا أن تحمل إنطباع ورأى الغير. ذكرت فى المرة السابقة أيضاً أن المحور الأساسى الذى يدور حوله الطرح الفكرى للشيخ النيّل أبوقرون هو الرحمة العظمى التى أرسلها الله للعالمين سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله وبارك عليه وآله ، الذى سبق أبانا آدم فى الخلق وختم رسالات الله إلى خلقه. الرسالة الخاتمة التى أخطأ المسلمون بأن فصلوها عن الرسول صلى الله وبارك عليه وآله وظنوا مخطئين أنهم يعرفونها ويبلغونها خيراً منه وجوّزوا لأنفسهم بذلك محاكمة جنابه الشريف إلى رسالته وأن يخطّئوه فى أدائها فكان هذا باباً لانحراف الأمة ووقوعها فى كثير من الضلالات لقصورفهمهم عن إدراك الرحمة التى أرادها الله لعباده. يؤكد الكاتب الكريم أن الرسالة لا تنفك عمن جاء بها وهو المُرسَل رحمةً لكافة الناس ، قال تعالى: {إنا كنا مرسلِين ، رحمة من ربك إنه هو السميع العليم} وقال: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} وقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ، ثم إن النبى الأكرم صلى الله وبارك عليه وآله كان أعظم خلق الله خُلُقاً إذ كان خُلقه القرآن ، قال تعالى: {وإنك لعلى خُلقً عظيم} فلا يمكن أن يصدر منه أى خطأ كما يصدر من غيره من عامة الناس أو أن يتصف بما يخل بمكارم الأخلاق ، علماً بأن المقصد من البعثة الشريفة كان كما أخبر عنه النبى صلى الله وبارك عليه وآله {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} لذلك جاءت الرسالة الخاتمة مكملة لما جاءت به الرسالات السابقة ولم تأت ناسخة لها ولذا كانت هذه الرسالة الخاتمة هى المرجع ومطلب الكمال الإنسانى. وهذا يمثل أيضاً المدخل الذى ولج منه الكاتب الكريم لتحليل علاقة الدين بالدولة فى الكتاب موضوع اليوم.
يحتوى كتاب [الإسلام والدولة] على ثلاثة عشر فصلاً ، يؤكد الشيخ النيّل فى مفتتحها أنه لا يقصد بما كتبه الطعن فى مذهب أو معتقد أو أن يحْمل أحداً على الإعتقاد بشئ عنده لأن حرية الفكر والإعتقاد قد أمر بها الله وختم بها الرسالات التى بنيت على عدم الإكراه أو القهر - وهو تعبير أكثر ضبطاً وتوصيفاً من مصطلح الحرية - إذ يقول تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وقال: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} وقال: {لا إكراه فى الدين}. من هذه الآيات وغيرها ينطلق الكاتب الكريم لمناقشة علاقة الدين بالدولة حيث يؤكد أن الحكمة من وراء النهى عن الإكراه هى أن الدين ليس بالشئ البغيض المكروه حتى يجبر عليه الناس أو يقاتلوا وتراق دماءهم وتستباح ممتلكاتهم وأموالهم فالله عز وجل لم يعط رسوله المعظم صلى الله وبارك عليه وآله وأعلم الناس بدينه ورسالته حق التسلط على الناس ليكرههم على ما جاء فيه {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ} ... {وما على الرسول إلا البلاغ} ... {لست عليهم بمسيطر} ، بناءاً على هذا فلا صحة لحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) - (صحيح البخارى) – وما يؤكد على عدم صحة الحديث أن الرسول صلى الله وبارك عليه وآله لم يفعل ذلك وإنما كانت كل حروبه دفاعية حتى وإن حوكمت على أى مدرسة عسكرية هذا بعد استحضار تاريخ وجغرافية المنطقة ، ولكن نجد أن المسلمين قد تعمدوا إطلاق إسم غزوات على هذه الحروب حتى يجدوا لأنفسهم المبررات للقيام بحملاتهم الإستعمارية التى كانت عربية وليست إسلامية . يبين الكاتب الكريم أن الله عز وجل لم يبعث النبى المعظم صلى الله وبارك عليه وآله ليكون حاكماً ، ملكاَ ، أميراً أو سلطاناً بل لم يأمره ولا أمر المسلمين بإقامة دولة إنما كان الأمر رسالة سماوية والرسالة ليست هى إنشاء الدولة وإلا لكان إكتمال إنشاء الدولة هو الغاية والفراغ من الرسالة ونهايتها ولكن الواقع أنها مستمرة إلى يوم القيامة ، وكذلك لم يرسله ليكوّن حكومة لنشر الرسالة لأن للحكومة عمراً وأجلاً لن يدوم إلى قيام الساعة ولذا فقد كانت دعوة وليست دولة ... {وما على الرسول إلا البلاغ} .... ولذا فلا يحق لأحد أن يدّعى أن كيفية البلاغ يدخل فيها ويلزمها إقامة الدولة فإن الدولة تقوم على فرض سلطتها على الناس وهذا هو الإكراه الذى يتنافى والإسلام ، كما أن الآية المذكورة لا تنفى إكراه الناس على الإسلام فحسب بل تمنع حتى الحرص على قبول الآخر للدعوة وهذا ما توضحه أيضاً آية أخرى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء}. يناقش الكاتب الكريم معنى مصطلح (الإسلام) فى فصل من الكتاب عنونه بعنوان: <دين الإسلام أم دين المسلمين؟> مؤكداً أن الله عز وجل بعث الرسل كلهم بدين الإسلام وهذا ما أشارت إليه الآيات الكريمات: {إن الدين عند الله الإسلام} ، {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} وعن سيدنا إبراهيم عليه السلام يقول تعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} ويقول: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون} وغيرها من الآيات. إذاً فمعنى الإسلام هو أن يسلم الإنسان نفسه لله رب العالمين فيتبع الرسول {من يطع الرسول فقد أطاع الله} الذى جاء {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب} أى التوراة والإنجيل {ومهيمناً عليه} ولا تعنى الهيمنة الإلغاء لما سبق من تلك الكتب والديانات وما أنزل الله وإنما تعنى الوسع والشمولية لما تضمنته {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه} وحتى يكون النبى الخاتم رسولاً لسائر الناس السابقين واللاحقين { وما أرسلناك إلا كافة للناس} ، لذلك فالذى كفر بما أنزل على سيدنا محمد صلى الله وبارك عليه وآله هو الذي لم يؤمن بهذه الكتب كما نزلت ولم يصدق بما شرع الله فيها وهو من لا يحترم أولئك الرسل ويحبهم لاختيار الله لهم كرسل وأنبياء. يتناول الكاتب الكريم موضوعاً مهماً ومعقداً أيضاً فى تقديرى ألا هو آيات الحاكمية التى اتخذتها الحركات الإسلامية شعاراً سياسياً بل اتخذتها بعض التنظيمات الإسلامية ذريعة لتكفير مجتمعاتها وشن الحرب على الأنظمة الحاكمة فى بلدانها بدعوى أنها لا تحكم بما أنزل الله ، حيث يدلل الكاتب الكريم بعد مناقشة طويلة ورصينة لمعانى الآيات أن المقصود هو الأحكام القضائية وليس نظام الحكم السياسى وذلك من خلال النقاط التالية: أولاً: يدلل الكاتب الكريم أن النبى صلى الله وبارك عليه وآله لم يُرسل حاكماً أو متسلطاً كما هو مذكور أعلاه ، ثانياً: أن أهل الديانات السماوية مخول لهم الإحتكام لما عندهم من تشريعات وبالتالى المسلمون يمكن أن يقوموا بالحكم بينهم إذا طلب أهل الكتاب ذلك وارتضوا على حسب ديانتهم حيث يقول الله عز وجل: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وهى لا يمكن أن تعنى إلا القضاء ، يعضد ذلك أيضاً قوله تعالى: {كيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} وحكم الله لا يعنى إقامة دولة فلم ينشئ موسى عليه السلام دولة يهودية ، ثالثاً: أن اختيار التحاكم إلى الله ورسوله مبنى على حرية الإختيار ولا مجال لفرضه بالقوة {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} فالناس هم الذين يحكمونه صلى الله وبارك عليه وآله وليس هو المتسلط عليهم. يشير الكاتب الكريم من خلال طرحه لقضية الدين والدولة لإنحراف أتباع الرسل على مر التاريخ وجنوحهم نحو التعصب الدينى الذى سرعان ما يتحول إلى تعصب عرقى (كما حدث عند اليهود والمسيحيين والمسلمين وغيرهم) وما قاموا به من إنشاء دول دينية باسم الله ورسله تحولت إلى أنظمة ظالمة ومستبدة بغير حق ومتسلطة على البلاد والعباد وانتهت إلى حملات استعمارية بادعاء نشر دين الله وتبليغ رسالة رسله وما كان ذلك ليتم لولا ما جرى من تزوير للتاريخ ووضع وتأليف للأحاديث والروايات الباطلة على لسان أنبياء الله حتى يجد من أراد مسوغاً وتبريراً لإنفاذ اجندة دنيوية تحت غطاء الدين. وهذا ما حدث تحديداً بعد انتقال النبي صلى الله وبارك عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ، ألا وهو إنشاء دولة وإمارة بإسم الدين ولو كان إنشاء دولة ضرورة فى حفظ الدين لما ترك الرسول الأعظم صلى الله وبارك عليه وآله الناس دون أن يعين لهم رئيساً لذلك ، فحاشاه صلى الله وبارك عليه وآله أن يبلغ رسالته منقوصة أو أن يترك أمته دون هدي وهو الحريص عليها {حريصٌ عليكم} كما أن حفظ الدين قد تكفل به الله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون}. أقول معلقا على هذا الفهم المتقدم كثيراً على ما يعتقد غالبية المسلمين أن مختلف طوائف المسلمين قد أخطأت بأن إعتقدت أن الهجرة النبوية قد كانت من أجل تأسيس وقيام دولة المدينة (وهذا ما تم إدخاله حتى فى مناهج التعليم) ، فقد أخطأ أغلبهم بأن انحازوا ودافعوا عن بيعة السقيفة التى تمت بدون مسوغ شرعى ثم أخطأ آخرون بأن عدّوها إنقلاباً على وضع سياسى كان يجب أن يكون وشرعية منتزعة والأمر فى مجمله ما كان هكذا. وهذا ما يناقشه بدقة وبتفصيل فصل من الكتاب بعنوان <سنة الخلفاء الراشدين> والذى يسرد فيه الكاتب الكريم كيف أنه قد قام البعض بالتفكير والتخطيط لإنشاء الدولة وقيام السلطان والرسول صلى الله وبارك عليه وآله بينهم وعلى قيد الحياة ، وأضيف على ما أورده الكاتب الكريم أن هذا البعض كان قد تآمر على قتل رسول صلى الله وبارك عليه وآله أكثر من مرة تسريعاً لهذا الأمر واستعجالاً به ، ولذا كان كل إهتمام القوم هو هذا الأمر فقط حتى حين انتقل صلى الله وبارك عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ولم يلتفتوا إلى ما يمليه الواجب الدينى والإجتماعى ، بل انطلقوا لتلقى بيعة ممن بايع والجسد الشريف مسجىً حتى أنهم لم يحضروا الصلاة عليه ولا دفنه صلى الله وبارك عليه وآله. بقيت نقطة مهمة يشير إليها الكاتب الكريم وهى أن الدين الإسلامى ليس ضد إقامة دولة أو نظام سياسى ولكن الأمر المرفوض هو أن تكون بإسم الإسلام أو الدين. بل المطلوب هو قيام دولة مواطنة غير منحازة لأى دين أو متسلطة به وأن يتساوى فيها الناس مهما اختلفت عقائدهم وأن يتراضى عليها الناس حتى ترعى مصالحهم الدنيوية وتنظم حياتهم. وبعد ، فهذا استعراض لبعض ما ورد فى كتاب الإسلام والدولة وبالطبع فليس من الممكن تغطية كل ما جاء ولكن كانت تلك هى النقاط المحورية التى حواها ، والكتاب ملئ بنقاش ثر ومفيد عن هذا الموضوع المهم. ختاما ًأود أن أشكر الشيخ النيّل عبدالقادر أبوقرون على إصداره هذا الكتاب المرجع و أقول أنه قد أوضح لى كثيراً مما استعصى كما أنه أشار إلى سبل الحل لكثيرمن الإشكالات السياسية والإجتماعية. تأتى أهمية الكتاب أيضاً من أنه يطرح ومن خلال نقاش هادئ رؤية تخالف بل تقوض ما انبنى عليه الفكر السياسى للطائفتين الكبريين الشيعة والسنة. أعتقد أنا شخصياً أن أكبر إشكالية تواجه المسلمين هى الإنحباس فى الماضى وتقديس التاريخ والمصيبة الأكبر هى قبول ما لايمكن ولا يصح قبوله فى حق الجناب الشريف لسيدنا رسول الله صلى الله وبارك عليه وآله كما أورد الكاتب الكريم فى أكثر من كتاب مما فتح الباب على مصراعيه لحدوث ما حدث على مر التاريخ الإسلامى فانتهينا إلى ما انتهينا إليه ........
د. عادل عبدالقادر بابكر
|
|
|
|
|
|