|
دبلوماسية النعجــة ؛ هل تعيد الإستثمار إلى السودان؟ مصعب المشرّف
|
دبلوماسية النعجــة ؛ هل تعيد الإستثمار إلى السودان؟
مصعب المشرّف: على وقع ما رشح من أخبار عن سفر وزير الإستثمار مصطفى عثمان إسماعيل على رأس وفد رسمي رفيع من الخرطوم إلى السعودية خصيصاً لتكريم الراعي الطيب يوسف الزين أحمد ... فإن الأسئلة التي تقفز إلى الذهن منذ الوهلة الأولى هي:-
هل تصلح دبلوماسية النعجة في إعادة الدفء إلى العلاقة بين الخرطوم والرياض ..... وكذا إعادة الإستثمار العربي الخليجي الي السودان ، بعد أن كان قد هرب منه بجلده ؟
هل وزير الإستثمار ومدراء الإدارات بوزارته فاضين شغل ، وخالين مسئوليات إلى هذا الحـــد الذي يفرغون فيه (وقتهم الثمين) والسفر لتكريم راعي كان يؤدي واجبه ، ويتصرف وفق التربية السليمة التي نشأ عليها في بيت والديه ؛ ثم ووفق هدي دينه الحنيف؟
وهل تمتلك وزارة الإستثمار من الميزانيات المرصودة الفائضة ما يجعل وزيرها والوفد المرافق له من أركان وزارته يسافر بهذه البساطة والوتيرة (إسماعيلية رايح جايي) للسعودية على حساب ميزانية الدولة العجفاء ؛ والتي يقول وزير ماليتها أنها على شفا حفرة من الإفلاس؟
أم أن المسألة إنتهاز فرصة لتغيير الجو واللتسوق في جدة ، ولابأس من سياحة دينية على هيئة عمرة مجانية على حساب أموال الشعب؛ عسى ولعل أن يغفر الله بها ما تقدم من ذنوب. على أية حال فقد أدرك الشعب في ظل حرية المعلوماتية وشيوع الأسرار في الشارع السوداني إعتياد المسئولين في الحكومة على إنتهاز الفرص في شراء الحلى الذهبية والمصاغ والتياب وقمصان النوم واللباسات النسائية على حساب ميزانية وسائقي وسيارات السفارات السودانية في الخارج ؛ وشحن الأثاث والألكترونيات والمشروبات والمأكولات مجاناً على حساب ميزانية الدولة داخل طائرات سودانير المغلوبة على أمرها ؛ والتي أصبح الهدر يأتيها من فوقها وتحتها وبين يديها ... ويجعل مال قارون لا يستطيع إصلاحها وفق ما صرح به " حاميها " السابق الشريف أحمد ود بدر.
أين ترشيد الإنفاق الحكومي إذن وضغط النفقات والمنصرفات؟.. وهل تم رفع الدعم عن السلع والخدمات الضرورية والمحروقات ووضعه فوق كاهل المواطن لأجل توفير مقابله لتغطية تكلفة السفريات الرسمية . وما يصاحبها من نفقات ومصاريف إقامة وأكل وشرب ولحـس وتحلية ، وغسيل ومكوة ، ومواصلات ونثريات وبدلات ومكافآت للوزير والوفد المرافق له؟
لماذا لا يتم إستدعاء الراعي إذن إلى الخرطوم لتكريمه داخل بلده بدلاً من سفر وزير ووفد مرافق لمقابلته في السعودية ؟ وأيهما أفضل وأقل تكلفة على ميزانية الدولة التي باتت مثقلة بالمنصرفات والديون الربوية ؟
ثم ولماذا يزعجون هذا الراعي المجتهد ويعطلونه عن عمله فيما لا طائل من ورائه ؛ وبما قد يعرضونه للمساءلة من جانب كفيله؟ ... هل يظن المسئولين في الحكومة السودانية أن المغترب السوداني الذي يعمل في السعودية وفق متطلبات إنتاجية محسوبة بدقة وشروط عمل صارمة .. هل يظنون أن لديه من الوقت الكثير لإضاعته في مثل هذه المظاهر من التنبلة والفراغ ؛ وقعاد الضللة ، وونسة التكايا ومقيال الرواكيب ، وقَـرْش الفـول والتـمُـر والكلام الفاضي ؟
ثم أن السؤال الذي يقفز إلى ذهن الدهماء والبلهاء لا بل والأغبياء والمتخلفين عقليا أمثالنا هو: هل يظن وزير الإستثمار أن أمانة الراعي الطيب يوسف الزين أحمد كافية لهطول أمطار دولارات وريالات ودراهم المستثمرين العرب؛ وبهذه المجانية والتلقائية على أرض السودان؟
وهل تظن الحكومة في الخرطوم أن "دبلوماسية النعجة" يمكن أن تزيل حالة الجفاف والتكلس وشبه القطيعة بينها وبين الرياض؟ .. وبهذه البساطة؟
ما الذي سيقوله وزير الإستثمار ويبرر به لمن يرضى بتكبد مشاق الحضور للإستماع إليه من بعض تجار السعودية؟
هل سيقول لهم أنني والوفد المرافق لي تركنا أشغالنا ، وجيئنا للسعودية للقاء هذا الراعي الذي كان في واقع الأمر يؤدي واجبه.
ألا يخاف وزير الإستثمار من أن يعطي هذا الذهول والإنفعال الغير طبيعي بأمانة الراعي العادية الإنطباع لدى المستثمر الأجنبي أن السودان يعج باللصوص والحرامية .. وأن الأمانة فيه هي الإستثناء وليست القاعدة؟ .... أو كما قال أهل قرى سدوم : "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" .. فأتينا نحن في السودان بمثلها ؛ ولكن في الإتجاه المعاكس بقولنا : "أدخلوا الراعي الطيب قائمة الأبطال القوميين لأنه أمين".... وهل ضيعت الأمانة في السودان إلى هذا الحد؟
لماذا هذا الذهول الغير طبيعي ، والإنفعال الرسمي الحكومي الإستثنائي المبالغ فيه بأمانة هذا الراعي إذن؟ .... وعلى نحو يتفق مع المثل القائل: "حلم الجيعان عيش". أم هل سيقول الطبيب مصطفى عثمان إسماعيل للمستثمرين أن أمثال هذا الراعي يوجد لدينا بالكوم والردوم ، وعلى قفا من يشيل وبكثرة عدد الحصا وحبات الرمال في وزارة الإستثمار وكافة وزارات الحكومة المركزية والولايات؟ .... وأن هلموا إلينا بملياراتكم فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون؟
إذا كان وزير الإستثمار يفكر على هذا القدر من البساطة . فإن الذي يجب عليه أخذه في الإعتبار هو أنه :- إذا كان المتحدث مجنون فإن المستمع عاقل.
واضح إذن أن هناك تبسيط وتسطيح حاصل .... وأن هناك سوء فهم لعقلية المستثمر العربي ، وتفشي إنطباع نمطي خاطيء عنه خارج حدود بلاده .. وحيث يظنه البعض عبيط وسفيه (على طريقة الأفلام المصرية) . ينفق أمواله وينثرها في شارع الهرم بالقاهرة ، وشقق بيروت المفروشة تحت أقدام الراقصات ، وفوق وصدور وأفخاد المومسات بدون حساب ..
لا بل وتسود لدى بعض الذين لم يغتربوا في دول النفط العربية الثرية إعتقاد بأن مليونيرات ومليارديرات تلك البلاد لم يكدّوا أو يتعبوا في جمع أموالهم هذه . وإنما هي مجرد حصيلة بيع براميل بترول إستخرجه في أرضهم الإنجليز والأمريكان ... وأن الكلمة تأتي بهم والأخرى تذهب بهم ...
مثل هكذا إنطباعات مغلوطة عن رجال المال والأعمال العرب تظل ساذجة غبية؛ تفتقر إلى الإحتكاك المباشر بهؤلاء العرب الأثرياء ، الذين يمتازون بقدرات فائقة في مهارات الإتصال والتجارة والإستثمار الخارجي منذ سنوات اللؤلؤ الطبيعي ، وصناعة السنابك والسفن البحرية التجارية خلال العصر الجاهلي . وهي التي وثقها كثير من الشعراء في ديوان العرب وعلى رأسهم الشاعر " طُرفة بن العبد" ...... صاحب المعلقة الشهيرة والتي يقول مطلعها : لخِولة أَطْلالٌ بِبرْقَةِ ثَهْمَدِ ------ تَلُوحُ كَبَاقي الْوَشْمِ في طَاهِرِالْيَدِ وُقُوفاً بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مطِيَّهُمْ ----- يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَلَّدِ عَدُولِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ ----- يَجُوز بُهَا الْمّلاحُ طَوراً وَيَهْتَدِي يَشُقُّ حَبَابَ الَماءِ حَيْزُومُها بها ------ كما قَسَمَ التِّرْبَ الْمَفايِلُ باليَدِ وكذا على وقع كلمات (مركب الهند) التي ولدت من رحم التراث هناك وتغنى بها محمد عبده: يا مركب الهند يا بو دقلين ... يا ليتني كنت ربانك واركتب على دفتك شطرين .. إسمك حبيبي وعنوانك طال إنتظاري وقلبي جريح ... يا مركب الشوق ليت الريح وقت السحاري .. تملا السواري وابحر بشوقي لنور العين ... وارجع لخلي وأوطاني يا بحر موجك علي عالي .. وطيفه حبيبي على بالي
وعَىَ هذه الأبيات من وعَىَ وقرأ ما بين السطور فيها من قرأ .... وجهلها من جهل في وزارة الإستثمار إياها التي تأسست (يا دوبك عام 2002م) وترعرعت في حِجْـر الشريف المثير للجدل "أحمد عمر ودبدر" ؛ الذي نفخ فيها من روحه فطفقت تعمل وفق توجهات مافيوية وقناعات ضبابية . وجهل تام بواقع العقلية التجارية لدى رجل الأعمال في الدول النفطية الثرية .... قناعات يبدو أنها إستقت معلوماتها عن أثرياء العرب من الأفلام المصرية الكوميدية وحدها ... فكان أن تفاجأ المستثمر العربي بفساد إستثنائي لم يكن في الحسبان .. واكتشف أن هذه الوزارة إنما تمارس إزائه نمطاً مفتعلاً من الإستهتار وتتمنع وهي راغبة .... وعلى طريقة اللبيب بالإشارة يفهم .. وفـتّـح مُخّـك تاكـل ملـبَـنْ. وعانت الأغلبية العظمى من هؤلاء المستثمرين معوقات وأتاوات فلكية منتظمة ؛ ومطالبات ببذل رشاوي وعمولات في كل خطوة ، وأراضي بأسعار خرافية يدفع عنها ثمن بخس على الورق وآخر باهظ تحت الطاولة ... ثم وضغوط بقبول شراكات نائمة مع كبار المسئولين يشيب لها الولدان ... كل هذا في الوقت الذي كان فيه المستثمر العربي يتوقع أن تستقبله وزارة الإستثمار بحفاوة طلع البدر علينا من ثنيات الوداع .... ويجد الطريق أمامه محفوفاً بالرياحين ومفروشاً بالورود. كل هذا إختزنه هؤلاء من رجال الأعمال العرب الذين دخلوا تجربة الإستثمار في السودان . ثم عادوا به إلى بلدانهم وغرفهم التجارية وشركائهم ومعارفهم وأبناء جلدتهم من رجال أعمال ، يحدثونهم به وبالتفصيل الممل ... وحيث دائماً ما يأتي المسافر بخبر ويضيف إليه 10 أخبار من نسج الخيال حتى يكون الخبر الأصلي أوقع في النفس والأثر ..
فهل يظن وزير الإستثمار الجديد مصطفى إسماعيل أن أمر إعادة المستثمر العربي إلى السودان ستكون بهذه البساطة ؟ ... وهل يظن أن أمانة راعي مفترضة في نعجـة كافية لإعادة الثقة المضيعة، وتصحيح الإنطباع السلبي؟.. أو أن تتغاضى الرياض عن العلاقة المريبة بين الخرطوم وطهران ؟
إن على وزير الإستثمار أن يعي بأن لدى هؤلاء العرب مثل يقول " كل ديـرة فيها الزين والشين" .... والمصيبة أن الشين الرسمي لدينا كثير .. كثير لدرجة لا يمكن أن يغطي عليها زيــن راعي مواطن عادي واحد يعيش ويمارس عمله خارج بلاده. وقد أتى من هناك بعادات وتقاليد وقيم ومثل سودانية سادت قبل إغترابه ؛ ثم بادت خلال سنوات غيابه .
ثم وعلى وزير الإستثمار وأركان وزارته وموظفيها أن يستعيدوا وينعشوا ذاكرتهم دائماً خلال سعيهم لإستمالة رجال الأعمال العرب في شبه الجزيرة العربية بإعادة التفكير في جدوى الإستثمار بالسودان ..... عليهم أن ينعشوا ذاكرتهم دائما بسورة "قريش" التي وثقت خبرات العرب التجارية حين أشارت إلى إيلاف هؤلاء رحلة الشتاء والصيف .... ثم وقوله عز وجل من الآية 57 من سورة القصص (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىand#1648; إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) .... وبما معناه أن على وزارة الإستثمار أن تعي جيداً أنها تتعامل بمواجهة رجال أعمال تتوفر أمامهم العديد من الخيارات البديلة والفرص الأخرى المتاحة .... وأنهم أناس قد خبروا الدنيا وتمرسوا على التجارة والإستثمار منذ آلاف السنوات ... وصارت لهم خبرات فيها شملت بلاد الحبشة وفارس وبلاد الروم ...... ثم ومروراً بإنشاء شركة الهند الشرقية التي تأسست عام 1708م عقب إندماج تجاري بين شركتين تجاريتين من كبريات الشركات العالمية وقتها . وما ترتب عن نشاط هذه الشركة في منطقة الخليج العربي من شنغهاي شرقا وحتى أرض الصومال غرباً وراس الرجاء الصالح جنوباً .... وبما نلمسه اليوم من براعة تجار السعودية والخليج العربي في جانب الإستيراد وتجارة الترانزيت وإعادة التصدير من منتجات نمور آسيا والصين إلى معظم دول العالم .... وهو ما نأمل به أن نقنع البعض في ولايات السودان المختلفة كذلك أن مهرجانات السياحة والتسوق في هذا الجزء من البلاد والمواني العربية لم تأتي طفرة ولمجرد المجاكاة ، ولم يكن محض صدفة وعفو خاطر . وإنما ثمرات لآلاف السنوات من الخبرات التجارية المتراكمة المنفتحة بوجه خاص على سواحل الهند والشرق الأقصى والشام وسواحل شرق أفريقيا من عيداب شمالاً إلى راس الرجاء الصالح جنوباً.
فهلاّ والحال من الخبرات التجارية والإستثمارية في أرض الواقع العربي البترولي كذلك ... هلاّ كان تعامل وزارة الإستثمار وأصحاب القرار والموظفين في كافة الدوائر الحكومية في المركز والولايات على القدر المراد من الجدية وحسن الفهم ؛ بدلاً من مجرد أخذ الإنطباع من الأفلام المصرية الهابطة التي لنا تجربة معها نحن السودانيين أنفسنا قبل غيرنا خاصة في شخصية "عثمانة البوّاب" السوداني النمطية . الذي غسلت به الدعاية السياسية المصرية الأدمغة بهدف محو وجود وشخصية السوداني المستقلة عن مصر .... وقد كان المفترض أن يدرك وزير الإستثمار الحالي النوبي الأصل بصفة خاصة هذه الحالة من التنميط السلبي الذي إتسمت به السينما المصرية لكل ما هو غير مصري . ومن ثم ضرورة التعامل مع المستثمر العربي بقدر أوفر من الإدراك والجدية ، والفهم المستقى من خبرات التجربة السودانية الذاتية ، والإحتكاك المباشر دون تأثر وإتسال دماغي بالدعاية المصرية . وقديما قد قيل يا وزير الإستثمار : ( أن العاقل من إتعظ بغيره ) .. فما بالك بمن يطلب منه الناس أن يتعظ بنفسه قبل غيره ؟
|
|
|
|
|
|