بسم الله الرحمن الرحيم "الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ"
في الواقع د. النور محمد حمد، يعمل على نقد وتشويه كل شيء يتعلق بالفكرة الجمهورية، والإسلام.. وهو يحرص، أشد الحرص على أن يكون تشويهه هذا من الداخل، وباسم الفكرة نفسها!! وهو من حيث المبدأ، وبصورة عامة، يجعل الدين غير عملي ومثالي!! وكالعادة لا يورد أي تدليل على زعمه، بل يورد ما يدحض زعمه!! يقول د. النور، ضمن كتابته عن البراغماتية، التي نحن بصددها: (وأنا مِن مَن يميلون إلى وضع الماركسية اللينينية بسبب عدم عمليتها في خانة الأيديولوجيا المثالية شأنها في ذلك شأن الفكر الديني..).. وهذا قول _كعادة د. النور_ عكس الواقع تماماً.. والواقع أن الماركسية والدين، كلاهما، عملي بصورة جلية، لا يمكن في الأوضاع الطبيعية الاختلاف حوله، فهو أمر يلحق بالبداهة!! وضع د. النور معياراً لما يعنيه بفكرة عملية _غير مثالية_ وذلك بقوله: (وعموماً فالذي يدل على عملية فكرة ما، ربما يكون تحقيقها في الواقع الزماني الذي ضمها..).. فوفقاً لهذا المعيار، هل الماركسية والإسلام، لم يتحققا في الواقع!؟ حسب زعم د. النور، الذي جاء في قوله: (وأنا مِن مَن يميلون إلى وضع الماركسية اللينينية بسبب عدم عمليتها في خانة الأيديولوجيا المثالية شأنها في ذلك شأن الفكر الديني..)..إذاً، عند د. النور، الماركسية والإسلام لم يتحققا في الواقع الزماني الذي ضمهما!! هذه مغالطة لا يجرؤ عليها إنسان طبيعي!! فالإسلام تحقق في الواقع الزماني الذي ضمه، وانتشر انتشاراً واسعاً، وبسرعة شديدة، لا زالت تستوقف المؤرخين.. وكذلك الحال بالنسبة للماركسية، التي استطاعت في فترة وجيزة أن تسيطر تقريباً على نصف العالم.. الإسلام في كل شيء يقوم على العمل، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).. وحتى العلم فيه يقوم على العمل، في التقوى، يقول تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).. يقول الأستاذ محمود عن عملية الماركسية: (لقد كان ماركس فيلسوفاً "عملياً".. ولقد لجت به "عمليته" هذه حتى أصبح نبتاً أرضياً، صلته بالسماء واهية، وفروعه في الأعالي قريبة..).. ولقد ظل الدين يوجه حياة البشر، منذ أن كان البشر، ولم يكن هذا ممكناً، لولا أن الدين كان دائماً عملياً.. وكعادته، في التناقض الحاد، يقول د. النور من نفس المصدر، عن أصحاب الأديان الكبرى، سواء أكانت سماوية أو غير سماوية، أن: (تعاليمهم عاشت آلاف السنين، ولا تزال تعيش بدفق وقوة عظيمتين..)!! فإذا عاد بعد هذا ليقول أن الدين غير عملي، فإنما ذلك لغياب الفكر، والأمانة الفكرية عنده!! ثم هل توجد أي مقارنة، بين عملية الماركسية والدين، وعملية البراغماتية.. لم تقم، عبر التاريخ، أي دولة، على أساس البراغماتية، ولا ينتظر أن تقوم، ذلك لأن البراغماتية لا تملك ما يكون به قوام الدولة.. بل أكثر من ذلك، لم تقم أي حركة شعبية، على أساس البراغماتية، ولا ينتظر أن تقوم.. فد. النور فهمه للأمور، والأساسية بالذات، دائماً معكوس، ومناقض للواقع!! وهذا لأنه لا يفكر، وإنما فقط يقرر في أهم الأمور وأخطرها، دون روية. المهم، أن د. النور بقوله هذا، يحكم على الفكرة الجمهورية، كدين، بأنها غير عملية.. ود. النور كما ذكرنا، يتعمد دائماً، مناقضة أقوال الأستاذ محمود، فهو يقول مثلاً: (غير أن الأيديولوجيا، سواءً أكانت دينية أو علمانية، تشترك في طرح مشاريع كبرى mega projects . هذه المشاريع الكبرى، تقوم على رؤية شاملة، تزعم لنفسها معرفة البدايات والنهايات وبناءً على هذه المعرفة بالبدايات والنهايات، فإن الأيديولوجيا تقوم برسم المسار كله، ومراحل حركة السير، فيما بين بداياته ونهاياته..).. وهذا الذي يعتبره د. النور مجرد زعم "تزعم لنفسها"، هو ما يقوم عليه الإسلام بصورة أساسية.. يقول الأستاذ محمود في ذلك: (فالتوحيد يقرر أن الوجود كله مصدره واحد، وطريقه واحد، ومصيره واحد.. من الله صدر، وإلى الله يعـود، وإنما يعود فرادى "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة". وليست العودة إلى الله بقطع المسافات، وإنما هي بتقريب الصفات من الصفات. بتقريب صفات المحدود، من صفات المطلق. وإنما تكون عودة الفرد إلى الله بوسائل العودة إليه، ومنها وسيلة الإسلام، ووسيلة القرآن، ووسيلة الجماعة..).. ويقول د. النور: (يقودنا هذا إلى فحص ما ظل عليه كثير من الجمهوريين من عقيدة مفادها أن الفكرة الجمهورية فكرة شاملة، رأت المسار البشري بين الصدور والورود، ورسمت طريقاً سالكاً بين نقطتي الصدور والورود..).. هذا ما عليه كل جمهوري، ومن يرى خلاف ذلك، هو غير جمهوري!! والأمر بسيط وواضح.. الفكرة الجمهورية هي دعوة لأصول القرآن.. والقرآن هو كلام الله.. بدايته عند الذات ونهايته تنزلت إلينا في الأرض، لنسير من واقعنا الأرضي، إلى الله في إطلاقه، والقرآن هو وسيلة هذا السير.. ومحمد صلى الله عليه وسلم، هو أكبر من جسد القرآن.. فهو القرآن الحي.. ومنهج الفكرة الجمهورية، هو "طريق محمد".. محمد صلى الله عليه وسلم، هو وسيلة سيرنا من المحدود إلى المطلق _ذات الله.. وقد ورد قبل قليل أن السير هو تقريب الصفات من الصفات.. ولما كان د. النور يستنكر هذا، فلماذا يزعم أنه جمهوري أو مسلم!؟ هذا الذي ذكره د. النور، هو ترديد أعمى، لقول وليم جيمس.. فهو قد قال مثلاً: (وعلى الرغم من وجود بوصلات السفن "ذلك ما يبدو أنهم يقولونه"، إلا أنه لن يكون أمامها قطب تشير إليه، انهم يصرون على وجوب وجود تعليمات ملاحية مطلقة مقضي بها ومبرمة من الخارج إبراماً، وكذلك خارطة للرحلة "مستقلة" مضاف إلى الرحلة "المجردة" ذاتها، إذا أردت أن تصل إلى مرفأ على الإطلاق..).. 1-442.. ووليم جيمس لا يؤمن بالغيب، ولا يرى وسيلة للعلاقة به، فهو يقول مثلاً: (كيف يعرف مشايع الحقيقة المطلقة ما يأمره "هذا" بأن يفكر فيه؟ ليس في وسعه النظر المباشر إلى المطلق، وليس لديه وسيلة للرجم بالغيب لمعرفة ما يريده منه سوى إتباع العلامات المفتاحية الإنسانية) 1 ـ 443.. الإجابة في الإسلام، عند من يؤمن به، واضحة وبسيطة، وهي أنه يعرف عن طريق الوحي _القرآن.. فالمطلق، تنزل من إطلاقه إلى مرتبة القيد، ليعرف.. فمعرفة الخالق _المطلق_ إنما تكون بالخلق _المقيد. الفكرة الجمهورية، كدعوة إسلامية، تعرف البدايات والنهايات، وتمتلك خريطة طريق للسير.. فالإنسان كما قلنا، من الله صدر _البدايات.. وإلى الله يعود _النهايات.. وإنما يعود بوسائل العودة، وقد ذكرناها.. فالأمر جد بسيط، لمن يؤمن به.. فإذا كان وليم جيمس لا يؤمن بالمطلق، فما بال د. النور يردد أفكاره، وهو مسلم يفترض فيه الإيمان بالمطلق!؟ ولماذا اعتبر د. النور معرفة البدايات والنهايات مجرد زعم!؟ (تقوم على رؤية شاملة، تزعم لنفسها معرفة البدايات والنهايات..).. أليس هذا إنكار واضح!؟ ومعرفة البدايات والنهايات، ليس وقفاً على الأيدلوجيا.. فالعلم المادي التجريبي أيضاً، يزعم أنه يعرف البدايات.. فنظرية "الانفجار العظيم"، عند العلماء، هي بداية الكون.. والعديد من العلماء لهم سيناريوهات علمية، لنهاية الكون.. فد. النور يحعل من جهله فضيلة، فما لا يعرف لا يكون.. وهو قليلاً ما يعرف. من أخطر ما قرر د. النور، زعمه أن الاعتماد على الضمير أمر غير عملي!! اسمعه يقول: (البراغماتية الغربية لا تحتفل كثيراً بموضوع الضمير، ولا تعول عليه في إدارة شؤونها اليومية، والسبب هو عدم عملية الاعتماد عليه. ففي المقابل، هي تعول على التشريعات والقوانين والنظام القانوني والقضائي في إحقاق الحقوق..).. ولكنك مسلم، أو هكذا يفترض أن تكون!! في الإسلام، تربية الضمير هي الأخلاق.. والأخلاق هي جوهر الدين، وجوهر إنسانية الإنسان.. يقول المعصوم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق..).. وبين الأخلاق والقانون علاقة تكامل.. وهما في الحقيقة، شيءٌ واحد، وكل الاختلاف بينهما هو أن القانون يطبق عن طريق سلطة خارجية، والأخلاق التزام ذاتي.. القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية، شيء واحد.. وفي حالة غياب الأخلاق، يصبح حكم القانون مستحيلاً.. فنحن نحتاج إلى الأخلاق عند سن القانون، وعند تطبيقه، وعند تنفيذه.. وأزمة الحضارة القائمة، هي أزمة أخلاق.. وهي أزمة جعلت حكم القانون بفعالية غير ممكن.. مثلاً، رغم الضرر الواضح من السلاح الشخصي، في الولايات المتحدة، إلا أن المشرع فشل تماماً، في سن قانون يمنعه، رغم المحاولات المتكررة، وسبب الفشل هذا هو غياب الأخلاق، عند جماعة لوبي السلاح، فهي بما لها من نفوذ، كانت دائماً تحول دون سن القانون.. وبالنسبة لتجارة المخدرات، القوانين التي تمنعها متوفرة، لكن لضعف الضمير الأخلاقي، استحال تطبيقها بفعالية.. فلأن التجارة تدر أرباحاً طائلة، أصبح من المستحيل تطبيق تحريم المخدرات، بفعالية، لأن التجارة سدت كل الجهات التي لها صلة بالتطبيق.. ومجال الأخلاق هذا، مجال واضح التناقض فيه بين الإسلام والبراغماتية.. والاتجاه البراغماتي الذي يقوم على "القبول بما هو ممكن" ليس بحل، بل هو توكيد للفشل في إيجاد حل.. والمطلوب هو جعل القانون الضروري، ممكن التطبيق أو ممكن التنفيذ.. وهذا من المستحيل أن يتم دون الأخلاق، إلى جانب التشريع، ومن هنا تأتي ضرورة الدين. على كل، الإسلام، سوى في مستوى الشريعة أو مستوى السنة، لم يترك التشريع، ليعتمد على الأخلاق فقط، كما لم يترك الأخلاق، ليعتمد على التشريع فقط. الطريق: التزمت والعزلة: هاجم د. النور المجتمع الجمهوري كثيراً، وبصور قاسية، ولقد رأينا نماذج لذلك، في الحلقة الأولى.. ونحن هنا نواصل عرض هجومه، وتبخيسه لمنهج السلوك عند الجمهوريين، فهو مثلاً يقول عن حياة الجمهوريين: (تعود الجمهوريون ذلك النمط من العيش البسيط المنحصر، وأصبحوا من ثمَّ يستوحشون من حياة المجتمع العريض. وقد خلق ذلك العيش المنحصر الذي يشبه خلوات الصوفية، شقة من نوع ما، بينهم وبين اهليهم وذويهم، وأصدقائهم. ويمكن القول إن الجمهوريين قد أحبوا تلك العزلة السلوكية واستمرؤوها..).. ويقول: (مدخل التسليك الذي صممه الأستاذ محمود محمد طه، ورعاه بنفسه كان مدخلاً محاطاً بإطار محكم من العزلة عن حياة المجتمع العريض. وهي عزلة فرضها ما تم استعارته من مناهج التصوف، خاصة مفهوم الخلوة..).. ود. النور لأنه يعلم أنه يكذب، بصورة فاضحة، استدرك فقال: (هذا مع ملاحظة أن الأستاذ محمود محمد طه قد ذكر حين دعا إلى طريق محمد أن عهد الخلوة في الفلوات والمغارات قد انتهى. فالخلوة العصرية في الأدب الجمهوري المكتوب، هي خلوة الثلث الأخير من الليل. أما الجلوة فهي جلوة النهار، حيث يختبر السالك محصول عبادته في الليل، فيما يصدر منه من قول وعمل حين يحتك بالمجتمع العريض، في نهار كل يوم جديد..).. هو يعلم تماماً، أن ما قاله عن عزلة المجتمع الجمهوري، هو عكس الواقع، وإن الدعوة كلها تقوم على "الدين المعاملة"، وعلى خدمة الناس، في اخلاص وتفاني.. هو يعلم، مثلما جاء في كتاب طريق محمد، عن الطريق (لقد كانت طريقة محمد عبادة بالليل، وخدمة بالنهار.. خدمة لله بالليل، وخلوة به ومناجاة له بحديثه، على تقلب وسجود. وخدمة لخلـق الله بالنهـار، وبراً بهـم، وكلفاً بتوصيل الخيـر إليهـم، في محبة وفي إخلاص وفي إيثـار. وبهذا وذاك تصبح حياة الحي كلها عبادة.. وهذا هو مراد الله من العبادة حين قال "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". وطريقة محمد جماعها هذه الآيات: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، دِينًا قِيَمًا، مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ".. كل شيء فيها لله.. معاملة للحق في الحق، ومعاملة للحق في الخلق.. وهذا ما عناه المعصوم حين قال "الدين المعاملة"..). هذا هو منهج الجمهوريين الذي أقاموا حياتهم عليه، خصوصاً في التجربة التسليكية.. وهم يعلمون تماماً أن العبرة بالعمل، وليست بمجرد القول، ويعلمون أن القول بلا عمل قد يؤدي إلى مقت الله!! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).. ولذلك كانت حياتهم كلها، أن يعيشوا دعوتهم، خصوصاً في المعاملة.. ومن الواضح جداً، أن الجمهوريين أينما وجدوا مشهود لهم بذلك.. ولكن د. النور، لأمر في نفسه، أراد أن يعكس الأمر، ويجعل حياة الجمهوريين كلها عزلة، كعزلة الصوفية!! ولما كان لا مجال له لهذا القول، بحق، جنح إلى المبالغة في الكذب.. وأول الكذب، زعمه أن التجربة التسليكية التي صممها الأستاذ محمود بنفسه، استعارها من مناهج التصوف، فهو قد قال: (وهي عزلة فرضها ما تم استعارته من مناهج التصوف، خاصة مفهوم الخلوة..).. د. النور يعلم تماماً أن دعوة الأستاذ محمود لطريق محمد صلى الله عليه وسلم، قائمة على عبارته الواردة في كتاب الطريق، والتي تقول: (لم تعد الطرق الطرق، ولا الملل الملل، إلا طريق محمد..).. وأن الأستاذ محمود، دعا مشايخ الطرق أن يخرجوا أنفسهم من بين الناس ومحمد، فقال: (إن على مشائخ الطرق منذ اليوم، أن يخرجوا أنفسهم من بين الناس ومحمد، وأن يكون عملهم ارشاد الناس إلى حياة محمد بالعمل والقول، فإن حياة محمد هي مفتاح الدين..).. فزعم د. النور أن التجربة التسليكية، مصممة على المناهج الصوفية، هو قول متهافت، وأفتراء عظيم، يدل دلالة قوية على اختلال ميزان القيم عند صاحبه.. ومن يكذب على الأستاذ محمود، فينسب له أنه في دعوته الأساسية (طريق محمد)، فعل عكس ما يقول، بأن صمم لتلاميذه منهاجاً، لا يقوم على الطريق، وإنما على مناهج الطرق الصوفية، من يقول مثل هذا، ليس من الغريب أن يكذب على الجمهوريين، وعلى كل شيء!! بعد أن تذكر د. النور قول الفكرة، أن محصول الليل، العبادة، يمتحن في النهار، في المعاملة، حيث يختبر السالك، محصول عبادته في الليل، فيما يصدر منه من قول وعمل، حين يحتك بالمجتمع العريض، في نهار كل يوم جديد.. بعد قوله هذا ذهب ليقول: (غير أن النظر الفاحص يمكن أن يقود إلى ملاحظة أن ذلك الاطار من الخلوة الذي مارسه الجمهوريون في تجربتهم، لا يختلف كثيراً من خلوة المغارات والكهوف. فقد اتسمت حياة الجمهوريين باعتزال المجتمع..).. فبعد أن تذكر، لم يتعظ، فيتخلى عن كذبه، بل تمادى فيه أكثر، وزعم أن هذا ما يعطيه "النظر الفاحص"، بل هذا ما تعطيه النظرة المغرضة، التي لا تتورع من عكس الأمور عكساً تاماً!!
برنامج التسليك: الآن لنعرض برنامج التسليك، كما أورده د. النور بنفسه، لنرى: هل هو مأخوذ من التصوف؟ وهل هو يقوم على العزلة التي تشبه خلوات الصوفية ومغاراتهم؟ يقول د. النور: (كنا نصحو لصلاة الليل قبل، أو بعد، الثالثة صباحا. ننام قليلا، ثم نصحو لصلاة الصبح. نقيم جلسات المنازل، حتى طلوع الشمس، ثم نذهب عقبها، إلى بيت الأستاذ لجلسة الإنشاد. حوالي الثامنة، نذهب إلى أعمالنا. نعود في حوالي الثالثة ظهرا. نتغدى، ونرتاح لمدة ساعة، أو يزيد قليلا، ثم نذهب للذكر، الذي نستمر فيه، وقوفا، قرابة الساعتين. نصلى المغرب، ونذهب للحملة. نظل وقوفا في الأسواق، نحاور الناس، نحتمل جهالاتهم، وسوء أدبهم، وإساءاتهم لساعات، نعود بعدها للجلسة المسائية حوالي الثامنة، أو التاسعة. تستمر الجلسة، وكلنا جالس على الأرض، في مساحة قدرها قدمين مربعين، حتى منتصف الليل. وكثيرا ما تمتد، إلى ما بعد منتصف الليل. نعود بعد ذلك للمنازل لننام، على "البروش" لسويعات قليلة، نعود بعدها لنفس البرنامج مرة أخرى، وهو برنامج يبدأ قبل الفجر، كما تقدم. يضاف إلى ذلك أننا كنا نأكل، قليلا جدا، وكان ما نأكله لا يحتوي، إلا على أقل القليل، مما يقيم الأود..).. هذه الصورة، بصورة عامة كهيكل صحيحة، إلا أنها في بعض جوانبها تقوم على المبالغة الشديدة، بغرض التشويه.. فمثلاً قوله: (ننام على البروش)، قول غير صحيح، وهو يصور بيوت الأخوان وكأنها خالية من الأسِرّة، والأمر خلاف ذلك، فالقاعدة الناس ينامون على الأسِرّة بمراتبها (وملاياتها)، وعندما يكون هنالك ضيوف، ويزيد العدد عن الأسِرّة المتوفرة، ينام البعض على البروش.. قوله بالوقوف في الذكر لمدة ساعتين غير صحيح.. القول عن الجلسة، عقب الحملة، أن كل من فيها جالس على الأرض في البروش غير صحيح.. البعض جالس على الأرض والبعض على الكراسي والأسِرّة.. هذا البرنامج، حتى بالصورة التي صورها به د. النور، ليس فيه عزلة، ولا يشبه خلوة الصوفية، التي زعمها، لا من قريب ولا من بعيد.. ولو حسبت الساعات، حسب تقديره هو: هنالك فترة العمل، وهي حسب د. النور من حوالي الثامنة وحتى الثالثة _حوالي سبع ساعات.. ثم حسب عبارته (نتغدى ونرتاح لمدة ساعة)، حتى إذا تجاوزنا عن المبالغة، يصبح الزمن خارج الحركة ثمانية ساعات.. الجلسة المسائية، حسب قوله حتى منتصف الليل.. بعدها ننوم حتى قيام الليل، عند الثالثة، يعني ثلاث ساعات.. وهذه مبالغة شديدة.. ولكن على كل، يصبح الوقت خارج الحركة إحدى عشر ساعة.. قل صلاة الصبح وجلسة الشاي ساعتين، يصبح الزمن الكلي خارج النشاط ثلاثة عشر ساعة.. فبعد تجاوز المبالغة الشديدة، وتجاوز الأوقات بين النشاط والنشاط، يصبح زمن الحركة في اليوم إحدى عشر ساعة.. هذه الفترة تتضمن زمن حملة الكتاب، وهي بعد المغرب، زعم د. النور أنها حتى الثامنة، وهذا مستحيل، فالوصول إلى بحري والخرطوم يكون حوالي الثامنة.. فهي حتى العاشرة تقريباً. هل هذا البرنامج، حتى في صورته التي صورها به د. النور فيه عزلة تشبه خلوة الصوفية!؟ هذه مبالغة في الكذب.. خلوة الصوفية، يدخل الصوفي في حجرة، تغلق عليه، ولا يتصل به أحد، ولا يتصل هو بأحد، سوى الفرد الذي يخدمه!! ليس فيها ساعات عمل _وكلها اتصال بالناس.. ولا حملة كتاب _وكلها اتصال بالناس.. ولا جلسات جماعية، مثل جلسة ما بعد الحملة، وجلسة ما بعد صلاة الصبح.. في الواقع، كل النشاط جماعي، ما عدا صلاة الليل.. النشاط، عموماً، لا علاقة له بالتصوف لا شكلاً، ولا مضموناً.. ليس للتصوف علاقة بحملة الكتاب، وحملة الدعوة، والمحاضرات، وأركان النقاش. هذا، مع ملاحظة أن الصوفية هم أيضاً أخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم أضافوا للمنهاج النبوي، أشياء ليست منه _بدع حسنة.. كما أنهم أخذوا بما كان عليه المعصوم من عبادة، حتى قبل البعث النبوي.. ومنهاج (الطريق)، يستبعد العبادة السابقة للبعث النبوي، كما يستبعد ما سمي بالبدع الحسنة. برنامج د. النور الذي ذكره، أهمل الكثير من النشاط الهام جداً.. فالنشاط أكثر تكثيفاً مما ذكر د. النور، وأكثر تنويعاً، وأكثر عمقاً.. فحملة الكتاب، مثلاً، ليست كما ذهب النور (نذهب للحملة. نظل وقوفا في الأسواق، نحاور الناس، نحتمل جهالاتهم..).. هي ليست في الأسواق فحسب، وإنما في كل الأمكنة التي بها ناس.. والأتيام تتحرك من مكان إلى آخر.. والناس الذين نقابلهم أشكال مختلفة، ليسوا كلهم جهلة كما صورهم د. النور، وإنما فيهم الكثير المثقفين، والمتعلمين، والأميين، حسب تركيبة المجتمع.. والحوار الذي يتم، هو متنوع بطبيعة تنوع الفئات التي نقابلها.. وكثيراً ما يتحول نشاط التيم المعين إلى ركن نقاش.. والجلسة بعد الحملة، في الغالب تخصص لسماع الانطباعات حول ما جرى في الحملة.. الذهاب من بيوت الأخوان، بعد الغداء، إلى منزل الأستاذ محمود، يكون في مسيرات، تذكر بالاسم المفرد.. بعد جلسة الذكر، هنالك لجنة خاصة باعداد الكتب للحملة، تقوم بتسليم الأتيام الكتب.. الحركة للحملة ببصات معدة، للمدن الثلاث، ويكون هنالك ذكر أثناء سير البصات. اعداد الكتب، عمل دقيق جداً، ومنظم، ويخضع لإشراف بعض المختصين.. فالكتاب توكل كتابته لأحد الأخوان أو الأخوات، ثم يراجعه الأستاذ محمود، ثم يذهب للطباعة بمكنة الطباعة.. ثم تأتي مرحلة الرونيو واعداد الكتاب في شكله النهائي.. وهذا عمل يقوم به عدد من الأخوان، يتولون لف الرونيو، والتطبيق والتدبيس، ليخرج الكتاب في صورته النهائية.. وعنوان الكتاب يكون بخط أحد الأخوان الفنانين.. وعندما تجهز الكتب تسلم اللجنة الكتب التي تعدها للحملة. هنالك أركان النقاش التي تكون في الأسواق، والأماكن العامة، وفي المؤسسات الجامعية، في العاصمة وفي مختلف مدن السودان. وهنالك الوفود الطائفة، ووفود حملة الكتاب، والوفود التسليكية.. وكلها تجوب مختلف مدن السودان وقراه، حتى جنوب السودان والنيل الأزرق ودارفور.. وقد يسمى الوفد بالمنطقة التي يذهب إليها: وفد الشمالية.. وفد الغرب البعيد.. وفد جوبا ...إلخ.. وهنالك حركة وداع الوفود في محطة السكة حديد، والمواقف، واستقبالها.. والوفود المختلفة تربط المركز والأقاليم، بتقارير عن حركتها. وبالطبع هنالك المحاضرات والمناظرات.. والمعارض، وهي تشمل لوحات جميلة يخطها الفنانون، تعرض في مكان المعرض، في نادي أو جامعة، وتعرض معها الكتب.. ويكون هنالك عدد من الأخوان والأخوات حول المعرض، يتولون الإجابة على أسئلة الزوار ومناقشتهم.. وهذا يتم في العاصمة والمدن الأخرى. وهنالك المؤتمرات، التي تقوم في الأعياد، والإجازات.. وقد تخصص هذه المؤتمرات لنشاط معين، أو أنشطة متباينة.. مثلاً، هنالك مؤتمرات تدرس فيها الكتب الجديدة التي يكتبها الأستاذ محمود، مع نشاط فكري وانشاد متنوع.. وهذه تسمى مؤتمرات جالسة.. وهنالك مؤتمرات متحركة. ومن أهم النشاط حملة الدعوة الخاصة.. وهي عمل في مقابلة الناس في منازلهم، وطرح الفكرة عليهم ومناقشتهم فيها.. وهي تشمل مختلف الفئات.. الزعماء السياسيين.. المفكريين والأدباء.. رجال الأحزاب.. مشائخ الطرق الصوفية.. ائمة المساجد.. الأكادميين.. رجال التعليم ...إلخ.. وهي تجري في العاصمة، وفي مختلف مدن السودان.. كما أنها تشمل المعارضين وغير المعارضين.. وقد شملت حملة الدعوة الخاصة، حتى مدينة القاهرة.. وقامت بعض أتيام الأخوان بزيارة الأدباء والمفكرين والصحفيين.. وكانت هنالك زيارات جماعية لبعض بقع التصوف، مثل أبو حراز والمندرة.. هذه صورة معممة ومفككة للحركة.. وهي كلها حركة حية جداً، وممتعة جداً.. ونحن لا نزال نجترها في مجالسنا الخاصة ونحن إليها.. هذا ينطبق في تقديري علينا جميعاً، ما عدا د. النور. خلاصة الأمر، ليس في الحركة أي عزلة، كما زعم د. النور، وإنما الأمر عكس ذلك تماماً.. من المؤكد، هنالك مشقة جسدية، ولكنها غير مشعور بها إلا قليلاً، بسبب الروح العالية، والمتعة في العمل. صور د. النور النشاط بأنه ابتعاد عن الحياة، ولأهمية الموضوع سنفرد له حلقة خاصة، توضح أن الأمر، على عكس مما زعم د. النور، كله انصراف للحياة الحية!! يجب ملاحظة أن النشاط الذي ذكره د. النور بنفسه، لا علاقة له بالعزلة والتصوف، كما لا علاقة له بالسياسة، كما زعم د. النور _وهو أمر سنتعرض له لاحقاً. والسلوك كله مبني على منهج طريق محمد، في ملء الحياة بالفكر والذكر، والتخلي عن الفضول: فضول الكلام، وفضول المنام، وفضول الطعام.. وعلى ذكر الطعام، من المؤكد أن الطعام الذي كنا نتناوله، كان متقشفاً، ولكنه في مستوى ما يأكله عامة أهل السودان في الوسط.. ولم يكن الأستاذ محمود يريد لنفسه، ولا لتلاميذه، أن يعيشوا في مستوى أرفع من مستوى عامة السودانيين.. أذكر بهذه المناسبة أن أحد من ينتسبون إلى التصوف، ويدعى (راجل الغرب) دعاه الأستاذ محمود مرة لتناول الطعام معه _وكان راجل الغرب هذا جريئاً_ فقال للأستاذ محمود: أنا لا أكل مثل طعامك المتقشف هذا.. وأضاف: هل يا أستاذ محمود الأكل المرفه حرام؟ فرد الأستاذ: لا ما حرام.. ولكن نحن لا نأكله إلا إذا أكله عامة الشعب السوداني.. فالتقشف الذي ينكره د. النور هو من السنة، يقول المعصوم: (حسب المؤمن من الزاد لقيمات يقمن صلبه..).. والأحاديث في هذا الصدد عديدة.. وقد كنا نأكل حتى نشبع، ولا أحد يقوم قبل أن يشبع إلا باختياره.. والأكل يحوي معظم المواد، ما عدا اللحم.. وعلى كلٍ كنا نستمتع به، ولا نزال نحن إليه. خالد الحاج عبدالمحمود رفاعة السبت 18/2/2017م
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة