|
خواطر يوم الجمعة : زمان الناس صلاح الباشا ( السعودية )
|
خواطر يوم الجمعة : زمان الناس
صلاح الباشا ( السعودية )
وانا قادم من صلاة الفجر ، ونسمات البرد بدأت تهب علي منطقتنا التي نقيم بها ( إمارة القصيم ) بالسعودية وهي منطقة جميلة يكسوها الهدوء ، وتتسيد عاصمتها ( بريدة ) هذا الجمال النابع من اشجار النخيل الذي تحيط مزارعه بها إحاطة السوار بالمعصم ، ومدينة بريدة الهادئة الجميلة ذات الخصوصية الدينية الرفيعة تتوسط الطريق مابين الرياض والمدينة المنورة تقريباً ، وهذا ما يزيد من اهميتها الجغرافية ، وهي المدينة التي يقام فيها مهرجان التمور السنوي الذي يمتد لسبعين يوما ً نظرا لما تعطيه نخيلها من انواع عديدة للتمور حلوة المذاق والذي نسميه في السودان البلح ، وقد كانت في الماضي السحيق تصدر هذه التمور لكل مدن المملكة ولبلاد الشام عن طريق قوافل البعير ، فقد كانت التمور واللبن وهو الغذاء الرئيس للحجيج لما فيهما من طاقة تساعد علي اداء المناسك الشاقة وقتذاك حين كان التحرك بالأقدام من مكة الي مني وعرفات وبالعكس.
بدأت عند رجوعي إلي داري في الفجر في كتابة خواطر الجمعة التي دأبت منذ عدة شهور خلت ان اسطر فيها ما يجيش بذاكرتي الممتلئة حد التضخم بأشياء ومواقف وذكريات وتقاطعات الحياة ، منها المفرح وفيها المحزن ، غير ان حب البلد مذ غادرناه مغادرتنا الاولي في 31 اغسطس 1975م الي مدينة جدة ، ثم تعددت العودة الي البلد ، وسرعان ما تأتي ظروف لهجرات اخري طلبا للرزق الحلال عدة مرات بلغت الاربعة حتي اللحظة حيث ان الرزق الحرام في بلدي كان ( علي قفا من يشيل ) لكننا نتقزز منه ونركله برغم إتاحة الفرص لنا للهف واللهط والتمسحة التي باتت منتشرة في بلادنا ، فمجال تخصصنا العملي منذ التخرج في الادارة المالية يتيح لنا ( لطش كل شيء ) .
غير ان الهجرة المتعددة في عدة دول عربية خليجية علي مدي 38 عاما متقطعة كانت تستر حالنا دائما ( فالغربة سترة حال ) وقد افادتنا في زيادة المعرفة والإلمام بعادات وتقاليد شعوب وقبائل وسحنات من كل انواع البشر في كل المحطات التي ظللنا ننتقل اليها كلما ضاق حالنا في بلادنا عندما يدير لنا القوم ظهورهم ووجوهم ومنهم من كنا نتوسم فيهم الخير والعون في التوظيف الحلال .
وعندما ضاقت بلادنا بأستاذنا عبدالكريم الكابلي وهو من اعز وانبل اصدقائنا ، هجر هذا الفنان المرهف البلد مثلنا في العام 1977م الي العاصمة السعودية الرياض وعمل بها خبيرا اداريا في إحدي مؤسساتها الخاصة ، وقد اعادنا ونحن بمدينة جدة نعمل وقتذاك ، إلي الوطن الجميل وعاصمته التي كانت اكثر جمالا ، حين كانت كل العائلات بمختلف طبقات المجتمع تتسوق في السوق الافرنجي بشارع الجمهورية بالفاخر من القماش بشارع الجمهورية ، وحين كانت العديد من العائلات تخرج كلها في ( الويك إند ) لمشاهدة احدث افلام السينما في الدور الثاني بعد ان يخرج منها طبقات الشعب العادية بعد مشاهدتهم للدور الاول ، حيث لم يكن في الامر صعوبة مادية مطلقا ، فقد كان التاكسي الطلب خاص مشواره بربع جنيه فقط ( طرادة ) وساندوتشات العشاء مع زجاجة البارد داخل بوفيه السينما بعشرة قروش . اما حفلات رأس السنة في حدائق مقرن النيلين فلاتزيد تذكرة الحفل عن خمسين قرشاً ، ومثلها لعشاء فاخر .
كتب الكابلي من مهجره الاختياري وكنا نعيش رهافة المعني ونستعيد الذكري ، ذكري شبابنا الباكر ونحن في عز الشباب نلتقي العلم بكل فرحة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم الفاخرة والممتلئة بكل ما هو جميل في مساءاتها الدراسية ، حيث البنات المصريات القادمات من الثانويات المصرية بالسودان يتزين بآخر خطوط الموضة ، بمثلما كانت زميلاتنا من السودانيات يتبخترن بالثوب الابيض التوتال الانجليزي ناصع البياض قبل ظهور موضات الاسكيرت والبلاوز والعبايات عند الطالبات .
عشنا حلو الذكري مع الكابلي ، واعادني الي حيث كنت اسكن في حي ( بيت المال ) بأمدرمان والتي اتيتها قادما من ودمدني الجميلة ( بركات ) متخرجا من مدني الثانوية وفي العشرين من عمري ، ملتحقا بكلية التجارة بجامعة القاهرة ، وملتحقا ايضا بالتدريس بمدارس امدرمان بالصباح ... ولكل ذلك ونحن في اغترابنا الاول كنا نعيش رهافة صوت الكابلي وهو يعيدنا بزمان الناس الأغنية ، إلي زمان الناس البلد ، وقد ظللت اعتقد جازما بأن الكابلي الذي كان يخاطب فيها نفسه ، يخاطب إحساسي انا ايضا حيث كان الاغتراب حينذاك اكثر من قاس ومؤلم ويبلل خدودنا بالدموع في مساءات الغربة الصعبة . والكابلي قد كتب معظم اغنياته ، حيث خاطبنا قائلا :
زمان الناس هداوة بال ..... وإنت زمانك الترحال
قسمتك يا رقيق الحال ..... ومكتوب ليك تعيش رحال
تسامر في الغيوم اشكال ... روائع تذهل المثال
شي سيرة .. وزفة بي طبال ... عروسة وفي جبينا هلال
*****
لكنني كنت استغرق في نشوي مجترا شريط ذكرياتي في ام درمان وبيت مالها حيث كنت اسكن في ذلك العمر الباكر ، وصنعت من الصلات ما ظلت متجددة حتي اليوم برغم مرور 43 واربعين عاما عليها حين سكنتها في العام 1970 مع بدء العام الدراسي الجامعي عازبا مع بعض الزملاء الكرام . أستغرق في طرب لا متناهي وكابلي يخاطبني بأغينته من شريط الكاسيت وقتذاك بمدينة جدة :
وقبـّال ما الصور تنشال ... علي خيوط الامل والفال
وصٌبح الناس يجيك مرسال
يشيلك شوق وسط عينين .... يوديك مقرن النيلين
يخضـّر فيك عقيد ياسمين
وتقوم شتلة محنـّة مثال ... اريجا دعاش وحزمة نال
قبال توتي أنم خضاراً شال .. عيون ام در لبيت المال
*****
فتعودي بي الذكري وانا ابن السادسة وعشرين مغتربا ، إلي إستمتاعنا بمقرن النيلين ، وحديقة النيلين ، والريفيرا ، والجندول ، وحديقة الموردة الوسيعة مع وجبات السمك البلطي وبخسمة وعشرين قرشا ايضًا .... فكلها كانت حدائق غناء مفتحوة للشعب قبل ان تلتهمها صالات الافراح ( البرجوازية ) كلها حاليا فتموت الحدائق وتفتقدها الجماهير الي غير رجعة ، فهاهي امدرمان كووووولها من ام بدة والعرضة وحي العرب والسوق وعبدالله خليل والشهداء ، كما قال كابلي بعيونها تنظر من عل إلي شاطيء النيل عند بيت المال ( عيون ام در لبيت المال ) .... وتتواصل الهدهدة في الاغنية لإحاسيسنا المرهفة في زمان كان الإغتراب فيه ضربا من المغامرة وربما الجنون :
غريب .... والغربة اقسي نضال
غريب ... والغربة سترة حال
قريب وبعيد .... حضور وزوال
ده روماً أصلو ... ما بنطال
تشاهد في المجرة زوال .... عيونك ما عيون اطفال.
وماذا عساني اضيف من خواطر ، فهذه الخاطرة قد اتتني فجراً وانا استعيد ذكريات مسيرتي العملية الممتدة حتي اللحظة حيث ابي الاغتراب وبشكله الحالي ان يغادر حياتنا ، بل ويضغط علي خاصرتنا في كل مرة ، فأسال نفسي كثيرا ، هل سبب عدم الاستقرار لي أو لغيري في بلدي هو عدم استقرار بلادنا سياسيا واقتصاديا بحيث نلجأ للخيار الصعب وهو البحث للرزق خارجه ، والتي وصفها الكابلي ( الغربة سترة حال ) ... أم أن العيب فينا ؟؟؟؟؟
فهذا السؤال والخاطرة برغم طولها ، نطرحها للجميع بعد أن إبتعدنا عن رغي السياسة الممل.... رد الله غربتكم ... وجمعتكم مباركة ،،،
[email protected]
|
|
|
|
|
|