|
خطورة مشروع هدم الهويات السودانية بقلم/ ابراهيم علي ابراهيم المحامي
|
سلسلة مراجعات الهوية السودانية الباقر العفيف: أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود ذو ثقافة بيضاء خطورة مشروع هدم الهويات السودانية بقلم/ ابراهيم علي ابراهيم المحامي كتاب "وجوه خلف الحرب" لمؤلفه دكتور الباقر العفيف، صدر قبل عدة سنوات، ويحتوي على ثلاث اوراق بحثية تم نشرها على فترات متفاوتة في مصادر مختلفة. تشكل الورقة الاولى فيه "ازمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود ذو ثقافة بيضاء" الاطروحة الاساسية لدى الباقر العفيف، اذ تهتم الورقة بارجاع جذور الحرب الأهلية الى الهوية السودانية المتنازع عليها. دكتور الباقر العفيف هو باحث وناشط سوداني عمل في جامعة مانشيستر، ومنظمة العفو الدولية، كما عمل باحثاً في بعض المعاهد الفكرية من بينها معهد السلام الامريكي بواشنطن، ويعمل الآن مديراً مؤسساً لمركز الخاتم عدلان للاستنارة. قرأت الكتاب قبل سنوات، كما قمت باستضافة دكتور العفيف في الصالون الذي دعيت له ثلة من المثقفين لتقديم عرض لهذه الورقة في واشنطن. في هذا المقال الثاني من سلسلة مراجعات الهوية نستعرض الاطروحة الاساسية للباقر العفيف باعتباره واحد من الكتاب الذين تناولوا موضوع الهوية السودانية من خلال تناوله او نقده لاحدى الهويات الفرعية السودانية وهي هوية "السودانيين الشماليين" مثله مثل بقية الكتاب الذين تناولوا موضوع الهوية السودانية في العقدين الماضيين من خلال تركيزهم على الهوية في مستواها الادنى والفرعي ونقصد بذلك الناحية العرقية او الثقافية، او من خلال تجريد الحملات ضد هوية السودان الشمالي او ضد "عرب السودان" أحياناً، حتى نتمكن من كشف ضعفها وتناقضاتها وابانة اغراضها السياسية. هدف الورقة: يقول الباقر العفيف في صفحة 60 ان مهمة ورقته هي زعزعة الهوية القديمة كمنطلق لانشاء هوية جديدة، وفضح تناقضات هذه الهوية القديمة عامل هام لزعزعة هذه الهوية. اذن الباقر- كغيره - يهدف الى هدم او كما قال زعزعة الهوية الشمالية واستبدالها بهوية جديدة، بصورة تفوق دعوة فرانسيس دينق الى اعادة بناء الهوية السودانية، والذي راجعناه في المقال السابق. اطروحة الورقة: كتاب المفكر المارتنيكي الثائر فرانز فانون "بشرة سوداء واقنعة بيضاء" الذي صدر عام 1952 ابان الحقبة الاستعمارية لافريقيا وجزر الكاريبي تناول فيه فانون "نفسية الاستعمار" حيث يدرس كيف تم توطين الاستعمار بواسطة ابناء المستعمرات انفسهم. كما يدرس العلاقة بين العنصرية والكولونيالية حيث اعتمد على منهج التحليل النفسي لفهم الاحساس بالدونية الذي يسود وسط المستعمرين المستضعفين ويتمكن منهم، مما يدفعهم الى تقليد جلاديهم المستعمرين. قام فانون بتأليف هذا الكتاب الذي اكتسب شهرة واسعة اثناء دراسته للاستعمار الفرنسي للجزائر التي استقر بها لوقت ما. وقد توصل فانون الى نتيجة ان الجهاز الاستعماري نجح في خلق حساً عميقاً بالدونية لدى التابعين المستعمرين الذين يسعون بوعي او دون وعي الى التماثل مع القوة المستعمرة. اتبع الباقر العفيف في ورقته منهج فرانز فانون في التحليل النفسي للكشف عن الاصول المرضية للهوية السودانية الشمالية، وسار على نفس الهيكل البنائي الذي استخدمه فانون في تأليف كتابه المشهور. ليس هذا فحسب بل ان التماثل بين عنوان كتاب فانون " بشرة سوداء واقنعة بيضاء" و ورقة الباقرالعفيف " متاهة قوم سود ذو ثقافة بيضاء" لا تخطئه العين. ليس هذا فحسب بل ان الباقر في سبيل تقليده لفانون نظر الى السودانيين الشماليين على انهم مجرد زنوج سود يسعون الى التماهي مع العربي الابيض "المستعمر" لدرجة انهم يتوهمون انهم "عرب بيض". وهنا يكمن خلل المنهج والمقارنة. يقول الباقر العفيف في ص 12 من كتابه "بعد انهيار اتفاقية اديس ابابا انفتح الباب لفهم الحرب بحسبانها نزاعاً بين الهويتين الرئيسيتين في البلاد: الشمالية والجنوبية. وبظهور نظرية التهميش بدأ ينزوي النظر للصراع بحسبانه ثنائياً، اي شمال جنوب، ليفهم بحسبانه دائرياً بين مركز وهامش" . يقول العفيف في ص 13" هذه الدراسة تبحث على مستوى اعمق عن جذور هذه الحرب، انها تسلط الاضواء على النزاع داخل الهوية الشمالية الذي يقود الى النزاع الاكبر بين الهويتين الجنوبية والشمالية. "هذه الدراسة تحاول الكشف عن العلاقة بين الانشطارات التي سببتها النخبة الشمالية الحاكمة على مستوى البلاد، وتصدعات النفس الشمالية ذاتها... وهكذا فإن هذه الدراسة تحاول انجاز تحول اخر، بنقل الانتباه من الازدواجية الخارجية التي تميز الانقسام الشمالي/الجنوبي، الى الازدواجية الداخلية التي تعاني منها الذات الشمالية". مثل ما فعل فانون استخدم الباقر العفيف اسلوب التحليل النفسي لمعرفة الاصول المرضية للسودانيين الشماليين لمعرفة الاسرار الكامنة التي تدفعهم للبطش باخوانهم الافارقة السود. وتساءل "هل يمكن ان يكون الجذر الاعمق للحرب سايكولوجيا؟" ورداً على ذلك يقول ان منطلق الحرب هو هوية مأزومة، تعاني منها النخبة الحاكمة، والنخب المتعلمة بصفة عامة، وسواد الناس في منطقة الشمال النيلي والاوسط. اننا في الشمال النيلي لا ندري من نحن؟ وان لنا وعي زائف بانفسنا، نحن مغتربون عن ذاتنا الحقيقية، وهي دون ادنى ريب ذات نوبية. ويقول ما لم يتعرف الشماليون على ذواتهم الحقيقية وما لم يقبلونها ويعيشون في سلام معها فإنهم لن يتمكنوا من العيش في سلام مع الاخرين. يؤكد العفيف انه على يقين من ان جذور الحرب في السودان ليست سياسية او اقتصادية او تنموية فحسب وانما هي ايضاً سايكلوجية: "انني على قناعة بأن الحرب التي تشنها الطبقة الحاكمة الشمالية على المكون الأسود للبلاد، ما هي في حقيقة الأمر الا تعبير خارجي عن الحرب التي يشنها الشماليون على المكون الأسود داخل ذواتهم" ويضيف "الشماليون يعيشون في عالم منشطر فمع انهم يؤمنون انهم ينحدرون من "اب عربي" و "أم افريقية" فانهم يحسون بالانتماء الى الأب الذي لا يظهر كثيراً في ملامحهم، ويحتقرون الأم الظاهرة ظهوراً واضحاً في تلك الملامح ، فهناك اذن انشطار داخلي في الذات الشمالية بين الصورة والتصور بين الجسد والعقل، بين لون البشرة والثقافة، وبكلمة واحدة بين "الأم" و "الأب". وبعدها يسرد فصلا طويلا عن احتقار العرب للون الاسود. ولم يقل لنا الباقر لماذا لا تظهر ملامح الأب العربي طالما انه يقول بنظرية الأب العربي؟ و في ص 66 يقول ان السودانيين الشماليين يعانون من ازمة في الهوية. وان الحرب الأهلية التي ادارتها الطبقة الحاكمة ومثابرة انما هي نتاج لهوية منحرفة ، مأزومة ومغتربة عن حقيقة ذاتها. ان السودانيين الشماليين لا يدركون على وجه الدقة من هم. فبالرغم من ايمانهم بانهم يتحدرون من "اب عربي" و "ام افريقية" الا انهم يتماهون مع الاب ويقمعون الام. المشكلة ان هذه الأم التي يقمعونها متمكنة من كامل سيمائهم لدرجة ان الأب اصبح غير مرئي تماماً، ان لم نقل انه كان اصلا محض اختلاق ومن وحي الخيال. ويشترط لقبول الجنوبيين وافارقة السودان "ان يعترف الشماليون بالمكون الافريقي داخلهم وتحرير الأم المقموعة داخل أنفس الشماليين". ليس هذا فحسب بل يضع للسودانيين خيارين لا ثالث لهما: اما ان يستمروا كعرب من الدرجة الثانية او سودانييين من الدرجة الاولى. اذن الباقر يفترض ان السودايين لو تماهوا مع امهم الافريقية لاصبحوا معافين ومسالمين، دون ان يشير او يقدم لنا تفسيراً عن الحروب الأهلية التي تشتعل في افريقيا بين سكانها الزنوج. هذا افتراض غريب، فهل عندما استرق الرجل الابيض الرجل الاسود الافريقي واستحقره تاريخياً كان ذلك نتاج عقد قديمة يعاني منها الرجل الابيض؟ ام ان هذه الممارسة كانت احدى ظواهر البشرية، اي مجرد صراع اجتماعي كانت فيه للرجل الابيض السطوة والقوة. صحيح ان هناك عنصرية في السودان ولكنها ليست نتاج لأمراض نفسية يعاني منها الشماليون. وبعد ذلك يعمل الباقر العفيف نظرية فرانز فانون من أجل شيطنة السوداني الشمالي، ووضعه موضع الرجل الابيض الاستعماري رغم انه غير ذلك، ويجعل منه زنجي يسعى لتبييض نفسه ليصبح ابيضاً رغم انه غير ذلك، ويجعل منه زنجي افريقي مختل نفسياً رغم انه غير ذلك، وانه تبنى ثقافة عربية بيضاء رغم ان ثقافته غير ذلك، وانه قد اغترب عن ذاته وكاره لنفسه رغم ان ذلك لم يحدث ابداً. الباقر يقول هذا فقط لأن فرانز فانون قال به في وصف السود وتبنيهم للثقافة والهوية البيضاء. فالسودان في تاريخه كله لم يخضع لاستعمار عربي من اي دولة كانت، ولم يكن مستعمرة عربية تتبع لأي دولة عربية بهذا المعنى، كما ان العرب لم يزرعوا فينا عقدة الدونية التي قال بها فانون ابان حقبة الاستعمار، بل ان السودانيين كانوا المعلمين الاوائل للعرب في كافة دول الخليج، وكانوا موظفي دولاب حكمه الاول قبل ان يشهد الطفرة النفطية، ولا زالوا. نظرية فانون لا تصلح للتطبق الا في ظل علاقات استعمار- و- مستعمرين، و غرب وشرق، وابيض واسود. ولا يستقيم تطبيقها في مجتمع اسود كله او في مجتمع ابيض بكامله. فهذه النظرية تصلح لتحليل موقف الافارقة السود تجاه المستعمر الابيض اثناء حقبة الاستعمار، ولكن الباقر العفيف بتطبيقه هذه النظرية على السودانيين الشماليين خلق تطبيقاً فوضوياً لنظرية فانون عن الاستعمار والخاضعين له. وعلى نحو مغاير نجح الايراني حميد دبشي في كتابه "بشرة سمراء أقنعة بيضاء" في تطبيق منهج فرانز فانون في تحليل شريحة مميزة من الكتاب والباحثين المسلمين الذين يعملون في المؤسسات الامريكية أطلق عليهم وصف "المخبريين المحليين" لأنهم يكتبون للامريكان ما يسرَهم عن الاسلام والمسلمين ودولهم! نظرية الانقلاب الهويوي: ورغم ان العفيف يذكر ان الهويات تتكون وتصنع اختيارياً، وهي في حالة مستمرة من التكوين، ولكنه سرعان ما يغادر هذه المقولة ليتبنى نظرية حدوث "انقلاب في هوية السودانيين الشماليين" ليذهب بعدها الى مشروعه في هدم الهوية السودانية الشمالية الذي اعلنه صراحة باعتباره الهدف الاساسي لهذه الورقة في كتابه. يقول العفيف "اننا في ظروف تاريخية معينة خلعنا هذه الذات النوبية، وتبنينا الهوية العربية عن طريق التمثل الثقافي". ولتفسير هذا القول الخطير المعقد الذي يجافي علم الاجتماع في موضوع الهوية يقول "والأمر الراجح إن أجدادنا هؤلاء تعرضوا لحالة مكثفة من حالات الزلزلة النفسية، أدت لخلعهم لهويتهم الثقافية والعرقية، ولتمثلهم ثقافياً وعرقياً مع العرب. فالعالم الذي يعرفونه قد انهار، وهوياتهم النوبية حامت حولها الشكوك، ولم يعد بامكانهم ان يكونوا انفسهم. الحوافز لاجراء انقلاب في الهوية كانت قوية وكثيرة والشروط اكتملت، اضمحلت الذات النوبية امام المثال العربي، وتم امتصاصها كليا بواسطته". ويذهب العفيف أبعد من ذلك ليقول ان هؤلاء الاسلاف فعلوا ذلك لاسباب براقماتية. " فما فعله هؤلاء الاسلاف لاسباب براقماتية بحتة اعتبرته الاجيال اللاحقة امراً طبيعياً. يقول "ان انقلاب الهوية الذي حدث في القرن السادس عشر لخدمة اهداف سياسية، قد اكتمل في القرن التاسع عشر". ان هذا الوصف المختل لمسألة في غاية التعقيد مثل الهوية لا يتسم بالعلمية. وهنا يبتعد الباقر عن الوصف العلمي الذي وضعه مسبقاً لمسألة تكوين الهويات وتفاعلاتها المستمرة، ليتعامل مع الهوية كرداء يخلعه المرء متى ما شاء، وليجعل منها قضية سياسية تمت لخدمة اهداف سياسية لم يفصح لنا عنها، وان هذا الانقلاب تم بناء على حوافز قوية لم يفسرها الكاتب. ان العفيف بقوله هذا لا يجافي حركية ودينامية عناصر الهوية وتعدددها فحسب، بل يجعل منها ايجولوجيا سياسية تبناها السودانيون الشماليون في عملية انقلابية اخذت ثلاثة قرون كاملة! ولعلَ العفيف بهذا يريد ان يقول بامكانية حدوث انقلاب هويوي جديد، ظل يدعو له بوضوح في ورقته، انقلاب يعيد للشماليين هويتهم المسلوبة، ويرجعهم الى نوبيتهم المستحيلة او "افريقيتهم" المهضومة. اذن الباقر العفيف يعتبر سيادة الاسلام واللغة العربية وانتشارهما في السودان حدثاً سياسياً متعمداً من قبل النوبيين الذين خلعوا رداءهم الافريقي ولبسوا الرداء العربي بكل وعي وبشكل متعمد وبقرار واحد، كما يعتبر ان هذا الحدث كان وبالاً على السودان والسودانيين، وينصح بضرورة المعالجة منه بالرجوع فوراً للاصل النوبي الافريقي حتى يتم شفاءنا. وهذا بالطبع قول لا يتسم بالعلمية. ان ما حدث للسودان يوازي ما حدث لدول امريكا اللاتينية مع الفارق في الدرجة، حيث غزت الامبراطورية الاسبانية هذه الدول التي كانت معقل حضارات الازتيك والانكا وقامت بتغيير لغاتها الى اللغة الاسبانية، بل ان هذه الشعوب يطلق عليها الآن الشعب الهسباني. تحليل الاطروحة ونقدها: تقوم نظرية الباقر العفيف التي استقاها من المفكر الثائر فرانز فانون على ثلاثة اضلاع في نظرنا، سنتناولها بالتفصيل لنبين ضعفها وعدم صحة انطباقها على الواقع السوداني. فالاساس الفكري لورقة العفيف هو: قوم سود- ثقافتهم بيضاء- لذلك هم في متاهة دائمة. في حين تقوم فكرة فرانز فانون على محاربة فكرة الاستلاب الذي تعرض له السود ابناء المستعمرات وسعيهم بدون وعي ليصبحوا مثل الاوربيين المستعمرين. اي ان تبنيهم لثقافة الرجل الابيض اصبح مثل قناع ابيض يلبسونه ويتوارون خلفه. يقول فانون في كتابه "بشرة سوداء ، اقنعة بيضاء" على لسان امرأة من المارتينيك " انا زنجية؟ الا تستطيع ان ترى انني بيضاء تقريباً. انني اكره الزنوج. الزنوج يغشون وهم قذرون وكسالى" كذلك فإن مسألة اللغة مهمة للغاية عند فانون في تغريب الشخص الأسود ضمن هذه العملية الاستعمارية، حيث ركز عليها بصورة مكثفة. يقول واصفاً لنفسه عندما ذهب الى فرنسا لتجويد لغته الفرنسية "الرجل الأسود الذي سافر الى العاصمة الامبراطورية هو شبه اله". فهل الشماليين قوم سود بالمعنى الذي اراده فرانز فانون؟ يرى العفيف "ان غزو العرب للنوبة والاتفاقية فتحا الباب واسعاً للعرب ليدخلوا بحرية من اجل التجارة مما دشن عملية الاسلمة والتعريب". وعلى خطى فرانسيس دينق يعتقد العفيف ان هذه الهجرة كان قوامها رجال فقط! يقول العفيف في ص 66 "فبالرغم من ايمانهم بانهم يتحدرون من "أب عربي" و "أم افريقية" إلا انهم يتماهون مع الأب ويقمعون الأم". قلنا في المقال السابق ان هذا القول المطلق غير المثبت بأن عملية تعريب شمال السودان قد تمت بناء على هجرات عربية قوامها "رجال فقط" لم يجد حظه من الدراسة والبحث والتقصي، ورغم ذلك وجد طريقه الى الكتابات السودانية المهتمة بموضوع الهوية السودانية بشكل مريب، حيث اصبح يشكل ركيزة من ركائز بنائها. وقلنا ايضاً ان نقطة ضعف هذه المقولة يكمن في ضعف سندها وانعدام سابقة لها، فالتاريخ البشري لم يحدثنا عن هجرات بشرية قوامها رجال فقط Men Exodus . وقد نبهني الباحث المرموق الصديق دكتور احمد ابو شوك الى ان هجرات المسلمين الى الهند وشرق آسيا كان قوامها رجال فقط. ولكن نظرية الباقر العفيف الخاصة بالتماهي مع الأب العربي تكذبها نظرية اجتماعية معروفة ملخصها ان الأم هي حاضنة اللغة وحارسة الهوية الثقافية. فمثلا هجرات العرب المسلمين كانت من الرجال المبشرين الى اندونيسيا والهند حيث انتشر الاسلام واصبح الناس يتسمون باسماء اسلامية ان لم تكن عربية، الا ان هذه الشعوب بفضل الأم حافظت على لغاتها وثقافاتها الاندونيسية والهندية في الحالتين ونقلها من جيل الى جيل. اذن العفيف يقلل من دور المرأة في هجرة الشعوب و في دورها في المجتمعات المختلطة نتيجة الهجرات والتغيرات التي تصاحبها، كما يلغي دورها تماماً في عملية انتقال اللغة والتقاليد. فالكاتب لم يوضح لنا لماذا شذ السودانيون الشماليون عن هذه القاعدة، باستثناء بعض القبائل الشمالية التي لا زالت تتحدث اللغة النوبية . ولماذا فشلت الأم النوبية في المحافظة على لغتها وثقافتها عبر الاجيال؟ فلماذا لم يحدث لنا ما حدث في الهند واندونيسيا ان كانت هذه الهجرات هجرات رجال فقط؟ د. بركات موسى الحواتي له قول وتفسير مغاير اذ يقول بحدوث هجرات لقبائل عربية بأكملها "رجال ونساء" من الجزيرة العربية ومن وعبر جنوب مصر الى مناطق النوبة واستقرارها هنالك واختلاطها بالعناصر النوبية المحلية. مرة اخرى، هل سكان شمال السودان هم زنوج سود بالمعنى الافريقي المجرد؟ يناقض العفيف نفسه حين يشير الى زيارة المؤرخ غيليود الذي زار مملكة سنار عام 1523 ووصفه للسكان آنذاك. يصف غيليود وكثير من الرحالة قبائل الشايقية والجعليين والرباطاب باعتبارهم برابرة ، اي نوبيين شماليين. يقول غيليود عن هذه المجموعة "انهم نصف صفر ونصف خضر.. وفصيلة الدم التي تغلب عليهم هي تلك التي نجدها عند الاثيوبيين". لذلك يلاحظ ان غيليود لم يصفهم بانهم زنوج او بذلك السواد، كما ميز بينهم وبين العرب القلائل الموجودين آنذاك. ولو كانوا زنوجاُ او عرباً لوصفهم كذلك. ولكن الباقر لم يقرأ هذه الشهادة قراءة سليمة، فهي تثبت انهم اقرب الى الاثيوبيين. اليس الشعب السوداني اليوم اقرب في الشكل من الاثيوبيين والارتريين؟ هكذا كنا وهكذا سنظل. اضافة لذلك فإن قبائل البجا لا يمكن وصفها بأي حال من الاحوال بانها قبائل زنجية او سوداء. ولكن الباقر آثر ان يواصل في تعمية الأمور ودفنها في عموميات عنصر اللون الاسود الافريقي، فهو يخلط خلطاً متعمداً بين الافريقية كموقع جغرافي وكمفهوم ثقافي ذو دلالات عرقية. هل الأم الشمالية افريقية زنجية كما اراد لها العفيف؟ الاجابة لا. فاذا كانت الأم في الشمال نوبية الأصل، فإن هذا لا يعني انها زنجية سوداء. ان وصف السكان المحليين في الشمال "النوبيين" بالزنوج السود فيه احجاف ومغالطة كبيرة. ويتم اطلاق هذا الوصف عليهم من باب التعميم الخاطئ. قلنا في المقال السابق ان الدراسات الاجتماعية الحديثة المسنودة بعلم الجينات شككت في مسألة زنوجة النوبيين، حيث قال بعض الكتاب الاجتماعيين المحدثين انها ليست يقينية. بل ان كثير من الدراسات الحديثة قطعت بعدم زنوجة العنصر النوبي، وأثبتت ان النوبيين ينحدرون من عناصر قوقازية وشرق متوسطية وغيرها. هل ثقافة السودانيين الشماليين ثقافة بيضاء؟ يقول العفيف "السودان الشمالي الحالي هو موطن الثقافة النوبية التي ازدهرت لعدة آلاف من السنين قبل مولد المسيح، وهو موطن الممالك النوبية العظمى". ولكنه سرعان ما يقول في ص 67 "ان السودانيين الشماليين من الناحية الثقافية استلفوا كل النظام الدلالي للثقافة العربية، وكذلك النظام الدلالي للغة العربية. السودانيين الشماليين الذين عادة ما يتراوح لونهم بين الاسمر والاسود قد اخضعوا انفسهم تماماً لهذه الثقافة العربية، والتي هي جوهرياً ثقافة بيضاء". اذن الباقر العفيف يقول ان ثقافة السودانيين الشماليين الحالية هي ثقافة بيضاء. اي انهم على - طريقة فانون - تبنوا ثقافة مستعمريهم العرب البيض، لذلك فإن نفوسهم معتلة. "وطالما ان تلك الثقافة تحقتقر اللون الاسود، فان الشماليين يغيبون ذواتهم و يجسدون المركز". على النقيض من العفيف يقول د. محمد جلال هاشم، وهو احد رواد المدرسة الافريقية ايضاً، ان الغناء والرقص السوداني ليس عربياً. ويضيف د. هاشم "ان ثقافتنا الأفريقية لا يتذوقها العرب". وهذه حقيقة ، اذ أن الثقافة السودانية في معظمها ترجع اصولها للثقافات النوبية القديمة وهي بكل تأكيد ليست عربية وليست بيضاء ولا تناسب ذائقة العرب في معظم جوانبها. وهذا كلام سليم مائة بالمائة، فالختان الفرعوني ليس عادة عربية، ولبس الثوب النسائي السوداني ليس عادة عربية، والعصيدة ليست طبخة عربية، وعادات الزواج ليست عربية، ومفهوم العيب والاخلاق مختلطة بين الافريقي والعربي والاسلامي، وهناك الكثير من المعتقدات النوبية. اذن هي ثقافة ذات اعمدة متعددة، مما يجعل منها ثقافة سودانية بحتة، لاتجدها في افريقيا السوداء، ولا تجدها عند العرب "البيض". فالثقافة السودانية ليست عربية وليست بيضاء وليست زنجية بل هي سودانية مية المية ومتميزة الى هذا الحد. وأحد عناصرها المهمة هي اللغة العربية والثقافة الاسلامية التي يشترك فيها جميع السودانيين المسلمين حتى لو كانوا دعاة علمانية في الحكم او من المناوئين للعروبة، لأن هذه الاشياء تختلف وتتناقض. كذلك فإن التاريخ السياسي السوداني لم يتأثر بالتاريخ العربي. فمثلا الثورة المهدية رغم سندها الاسلامي الا انها كانت ثورة سودانية خالصة لم تختلط بادعاءات عربية او تستند الى مفاهيم حضارية او ايدولوجيا نابعة من العمق التاريخي العربي، بل كانت ثورة سودانية الاصل والمنبع وارادت ان توحد الناس وتنتشر على هذا المرتكز وليس بناء على اصول عربية فيها ام افريقية. خطل نظرية مركز الهوية: يطرح العفيف عدة نظريات اجتماعية لتفسير موضوع الهوية، ويقترح دمجها جميعاً لتسهيل قراءة تعقيدات الهوية السودانية الشمالية، ليخلص الى ثلاث عوامل تستطيع اذا ما تفاعلت مع بعضها البعض ان تفسر كل هوية اجتماعية وهي: 1-تصور المجموعة لنفسها، 2- تصور الاخرين للمجموعة، 3- الاعتراف او عدمه من قبل مركز الهوية بهذه المجموعة. ويضيف في ص 24 "من ضمن العوامل التي تسبب ازمة الهوية في اية جماعة، يمكن وضع اليد على ثلاثة من العوامل تنطبق على السوداني الشمالي: أولا هناك تناقض بين تصور الشماليين لذواتهم، وتصورات الآخرين لهم. فالشماليون ينظرون لأنفسهم كعرب، ولكن العرب الآخرين لهم رأي آخر، فتجربة الشماليين في العالم العربي وخاصة في الخليج اثبتت لهم بما لا يدع مجالاً للشك، ان العرب لا يعتبرونهم عرباً حقاً، بل يعتبرونهم عبيدا". يقول "يمثل عرب الشرق الأوسط وخاصة عرب الجزيرة العربية والهلال الخصيب لباب الهوية العربية التي تهفو افئدة الشماليين اليها وتطمح للانتماء اليها....فهؤلاء العرب الاصلاء الاقحاح يحتلون مركز هذه الهوية". "بتبنى السودايين الشماليين لهوية وضعتهم في تخوم هوية العرب "الاصلاء". اذن الباقر العفيف يعتبر ان عرب الجزيرة والخليج والهلال الخصيب هم العرب "الاصلاء الاقحاح " في العالم العربي، وبالتالي هم مركز الهوية العربية الذين لهم حق صرف "صكوك العروبة" او منعها. تدليلاً على هذا، وعلى نفس خطى فرانسيس دينق، يسرد العفيف وقائعاً عن صدمة السودانيين المهاجرين للخليج عندما فوجئوا بأن عرب الخليج يطلقون عليهم "عبيد". كذلك يشير الى غموض آخر حول الهوية الشمالية عندما يتحدث عن تجربة هجرة السودانيين الشماليين الى اوروبا وامريكا حيث واجههم سؤال اللون بشكل مباشر، فرفض السودانيون الشماليون اختيار انهم سود وشعورهم بالاحباط نتيجة لذلك. كما تطرق الى عدم اعتراف لبنان بالسودان كعضو بالجامعة العربية ان صحت هذه الرواية. رغم ان العفيف يقر يديناميكية الهوية وعدم ثباتها، الا انه اتى بشيء جديد اطلق عليه "اعتراف مركز الهوية بالمجموعة المحددة" كشرط لكسب هذه المجموعة لهويته. ان نظرية وجود مركز للهوية هي فكرة جديدة اتى بها العفيف من اجل هدم هوية السودانيين الشماليين والطعن في عروبتهم. ولا يعرف علم الاجتماع شيئاً يسمى "مركز الهوية" الذي يخول له منح صكوك هويته من عدمها. ولو صحت هذه النظرية لخسر الأمريكان هويتهم الامريكية لعدم اعتراف الانجلوساكسون بهم باعتبارهم "لحم رأس". فالولايات المتحدة تكونت من شعوب اوروبية مختلفة مثل البريطانيين والهولنديين والايطاليين والالمان، اضافة الى الافارقة الذين تم تهجيرهم لاحقاً. ولا ينظر احد من هؤلاء الى اعتراف من دولته الاوروبية الأم. قلت للباقر في ذلك المجلس دعنا نقر بأن السعوديين لا يعترفون بعروبة السودانيين الشماليين، اي لا يمنحونهم اعترافاً باعتبارهم المركز العربي، الا ان الثابت ان السعوديين ينظرون الى اهل حضرموت على انهم أصل العروبة ويهفون لنقائهم العرقي، وفي نفس الوقت نجد ان اهل اليمن وقبائله يزوجون السوداني الشمالي! كذلك نسي الباقر ان الافارقة انفسهم داخل اوروبا وامريكا ظلوا يصنفون السودانيين الشماليين المهاجرين الجدد كعرب، وهذه تجربة واجهناها جميعاً، حيث عانينا من رفض الافارقة لنا في تجمعاتهم باعتبارنا عرب! ومن ناحية اخرى، رغم ان الباقر بذل مجهودا جباراً استلف له نظريات عتيقة وظفها في هدم هوية السودانيين الشماليين، الا انه وقع في فخ التعميم ايضاً حين وصف عرب الهلال الخصيب بانهم "عرب" فهل هذه الشعوب في لبنان وسورية وفلسطين و العراق عربية فعلاً؟ لو صبر الكاتب قليلا لوجد نفس هذا الجدل دائراً ليس داخل هذه الدول فحسب ولكن في مصر ايضاً حول "عروبتهم العرقية النقية" فهم مثلنا يعانون من ازمة هوية ثقافية وعرقية ومشكوك في عروبتهم من الناحية العرقية النقية. وحقيقة تشهد فكرة الهوية العربية الآن تراجعاً كثيراً داخل هذه الدول التي اشار اليها العفيف باعتبارها مركز الهوية العربية والتي "لم تعترف بعروبة السودانيين الشماليين" كما ذكر. فبلاد ما بين النهرين كانت سومرية وليست عربية الاصل، والفينيقيين والاراميين هم سكان سورية الاصليين قبل ان تتعرض للتعريب، والكلدان والاكديين والبابليين والآشوريين والسومريين هم سكان العراق الاصليين قبل التعريب، ولبنان وسوريا وفلسطين سكنها الفينيقيون في القدم وهم ساميون مثل العرب، ولبنان ايضاً اضافة الى ذلك سكنها كل من الرومان والفرس والاتراك، ولم يتكلموا اللغة العربية الا بعد الفتح الاسلامي لهم. ويتكلم اللبنانيون اليوم لغة عربية خاصة مختلطة باللغة الآرامية والسريانية، وبعض الكلمات التركية والفارسية. أما المصريون فهم حاميون شرقيون لهم اصول قوقازية في حين العرب ساميين. وبحسب صحيفة الجارديان البريطانية "انه على الرغم من أن الاسم المعروف لمصر هو "جمهورية مصر العربية"، فإن كثيراً من المصريين لا يرون أنهم من العرب حيث يطلقون هذا الاسم فقط على سكان دول الخليج بينما يحاول البعض الآخر التنصل من فكرة العروبة في حد ذاتها". كذلك يحتدم جدل الهوية داخل دول المغرب العربي جميعاً حول صحة "هويتهم العربية" حيث ان السكان الاصليين هم الامازيغ والبربر. وهذه مسائل معلومة لكل مطلع ومهتم بمثل هذه القضايا. إذن ان كل ما يجمع بين هذه الشعوب العربية مجازاً هو اللغة العربية والاسلام، وليس صفاء ونقاء العرق العربي، كما يتوهم البعض. قضية اللون قضية غربية: الباقر العفيف متاثر بمذهب الافريقانية لدرجة بعيدة اذ يركز على قضية اللون ويجعل منها العامل الحاسم في تحليلاته، وذلك لأن الهوية في افريقيا طبقاً لهذه المدرسة مرتبطة بشكل اساسي باللون والعنصر الزنجي، بعيداً كل البعد عن التاريخ والثقافة والاديان الافريقية. وهذا هو ما زرعه الاستعمار الغربي في القارة. يلعب العفيف على اللون كثيراً ليضفي على نظريته نوع من الميلودراما لحشد تعاطف الناس معها واستقطابهم حولها كأننا لا زلنا في الحقبة الاستعمارية القديمة على أيام فانون. ومن اجل ذلك يغرف العفيف من التاريخ والثقافة العربية المليئة بارث كبير من احتقار اللون الاسود والسود ووصفهم باقذع الأوصاف وأحطها ليلقي بهذا الثقل التاريخي على السودانيين الشماليين. لا يكتفي العفيف بالتاريخ الادبي والدلالات اللغوية في استحقار العرب للسود واللون الاسود فحسب، بل تطرق للمصادر الاسلامية ايضاً ودورها في ذم اللون الاسود، لدرجة انه يفترض ان رسالة الثقافة العربية هي القتل والدمار والعنصرية المقيتة. يقول العفيف ان "الشماليين يسمون سود البشرة عبيداً، وهو ما يعرف ويفسر توجهاتهم القمعية تجاه المكون الافريقي في البلاد". وهنا يصطدم العفيف العفيف مع استاذه فرانسيس دينق. يقول دينق "يركز الكبرياء اللوني الشمالي على اللون الاسمر الفاتح للبشرة، ويعتبره المال والمعيار بالنسبة للشمال، اذا صار اللون "فاتحا" اكثر من اللازم فانه أصبح مهدداً باعتباره خواجة او اوروبياً او عربياً من الشرق الاوسط او وهذا أسوأ الاحتمالات اعتباره "حلبياً"، الوجه الاخر من العملة هو النظر الى الجنس الاسود كجنس ادنى". وهنا يقدم العفيف تبريرات تاريخية وثقافية لاحتقار السودانيين "للحلبة" محاولاً ربطها بالتركية والمهدية وغيرها، في حين يتعمد تقديم تبريرات لكراهية السودانيين للون الاسود من قلب الثقافة العربية التي تكره السود واللون الاسود. وهذا تناقض كبير وقع فيه الباقر العفيف، اذا لم يوضح لنا كيف ولماذا يحتقر السوداني "العربي" اخاه الحلبي طالما انه يهفو الى اللون الابيض ويريد ان يكونه. وعلى الصعيد السياسي السوداني يعيب الباقر العفيف على مؤلفي الكتاب الاسود من ثوار دارفور تسميتهم للكتاب الاسود " بالاسود" ويعزي هذا الى نفسية خربة خربها النظام التعليمي الشمالي. فما كان لثوار دافور تسمية كتابهم بالاسود لأنهم انفسهم سود! ولعل الكتاب الاسود هو من اميز الكتب السياسية التي تم تأليفها والذي يعكس بالأرقام كيف استحوذ المركز على الوظائف الحكومية العليا في الدولة، وهو كتاب قيم كشف للناس ما كان خافياً، واصبح مؤهلا لأن يكون منفستو لحركات المقاومة الاقليمية. وقد استفدنا منه كثيراً نحن ابناء الاقاليم. ظلم العفيف نفسه وظلم السودانيين الشماليين عندما جعل من اللون قضية اساسية في الصراع الاجتماعي والسياسي في السودان. ان مسالة العنصرية في السودان ليست مبنية على اللون بقدر ما هي مبنية على الاصل العرقي بتصوراته المختلفة. وهذا وضع افريقي بحت. فالعنصرية ليست حصراً على العرب وحدهم، بل توجد بكثرة في وسط القبائل الافريقية السوداء. فالسودانيون يعيَرون بعضهم البعض بالأصول العرقية القبلية، فهم سود يعيَرون سوداً او سمر يعيَرون سمراً، او سمر يعيَرون حلباً. واللون البني أو الأسمر "لون أديم الارض" هو اللون السائد في المنظور الثقافي السوداني، كما ذكر فرانسيس دينق. فإذا كان نظام الانقاذ يشكل قمة العنصرية والعنجهية القبلية فإن قضية اللون لم تكن دافعه الاساسي بل هي سياسة قذرة لفتق النسيج الاجتماعي وضرب القبائل ببعضها البعض من اجل ان يكسب النظام سنوات لعمره المتهالك. عندما زار وزير الخارجية الامريكي آنذاك كولن باول السودان كان يعتقد ان مشكلة الحروب الأهلية في السودان هي ثنائية عرب يقتلون ويسترقون افارقة! أو بيض سوداً، ولكنه عندما ذهب في رفقة نائب الرئيس آنذاك علي عثمان طه صعق لدرجة انه صرح قائلا "انني وجدت جميع السودانيين سوداً ولكنهم يختلفون في درجة السواد، ومعروف ان على عثمان مدبر ومنذ الانقلاب وراعي المشروع الحضاري هو أسود للغاية بل هو اسود من كولن باول الذي كان يقف الى جواره. وفي مفاوضات ابوجا الاولى عام 1993 تحدث الجنوبي جستين ياك موجهاً حديثه للسيد علي الحاج احد رعاة المشروع العربي الاسلامي آنذاك قائلا " انت يا علي الحاج أسود مني وتدعي انك عربي". وهكذا يتضح ان المسألة ليست مسألة لون في السودان. ان خطورة مشروع هدم الهويات السودانية الفرعية من اجل تعلية هوية اخرى لا يقل خطورة عن مشروع اعادة بناء الهوية الذي تحدثنا عنه في مقالنا السابق من هذه السلسلة، وهو أحد مظاهر هذه الازمة. ومثلما اتهم العفيف الهوية السودانية الشمالية العربية بالاستبداد والبطش واستبعاد الهويات الافريقية، ولا نختلف معه هنا، الا انه فعل نفس الشيء بدعوته الصريحة الى هدم هوية السودانيين الشماليين او هوية عرب السودان. فبدلا من بذل الجهد في معالجة أزمة الهوية الوطنية التي نعاني منها، آثر العفيف ان يتعرض بالهدم لهوية السودانيين الشماليين، باعتبارها هوية معتلة نفسياً، وتحتاج لعلاج ، كمدخل لمعالجة مشاكل السودان المختلفة. فبالطبع يدرك السودانيون الشماليون من هم، فهم عرب السودان بلا شك، أي عرب على طريقة خاصة ومتفردة.
|
|
|
|
|
|