إكتفى بالسلام علينا من على البعد دون إهتمام كبير، قبل أن يواصل سحب دخان الشيشة وإغراق المكان حوله في الدخان، لقد جئنا لنراه، لكننا كما قال زميلي سراج: لن نراه أبدا بسبب قنبلة الدخان التي يعيش داخلها!
كان يبدو حين تبدأ سحب الدخان تتبدد من حوله لحظات الشهيق، مثل ثور يحترق، لحظة وصولنا كان هناك هجوم من المتمردين على أحد أطراف المدينة ، لكنه لم يبد إهتماما كبيرا بعجلة زملائه الضباط، الذين إرتدى بعضهم ملابسه بسرعة وغادر البيت. كان يبدو مثل شخص سعيد، لا علاقة له بمصائب الكون، يستمد سعادته من معين داخلي لا علاقة له بتعقيدات الحياة في العالم خارج حدود جسده. قال له احد الضباط: هل ستخرج معنا!
رد بدون إهتمام وهو ينفض الرماد من حبّات الفحم، هل نسيت؟ اليوم يوم عطلتي!
ضحك زميله وقال: لا توجد عطلات في الحرب، هل نخبر المتمردين بعدم شن الحرب أيام عطلة سعادة العقيد!
قال بدون إهتمام وبرنة صوت آلية: لا تخبرهم بشئ، إذهب وحاربهم ما دمت لا تستطيع الحصول على عطلة من الموت!
دفن السيد العقيد لامبالاته في الدخان، بدأت العمل فورا: حاولت أن أرى رد فعله على تعليق زميله، لحسن الحظ إنقشعت سحب الدخان من حوله، فرأيت صفحة وجهه التي تحولت بفعل إدمان اللامبالاة الى قطعة حجر، كأنه كان يتحدث مع الجدار.
بدأنا العمل فورا، طلب منه زميلي سراج سيجارة، سحب صندوقا من جيبه وألقى به في اتجاهنا. لم تبد عليه السعادة لوجودنا، لكن لا مبالاته كانت تطغى على أية شعور بالضيق لوجود غرباء. أخيرا وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع الرئيس القادم! مع العقيد: حسن عبدالرحمن النور!
سيبدو أفضل كما لاحظ زميلي سراج لوظيفة كبير الياوران، يقف بجانب الرئيس ليبتسم نيابة عنه، وحين يتسلم السيد الرئيس باقات الورد أو بعض الهدايا التذكارية، يقوم هو بتسلم الهدايا من السيد الرئيس، ليس من الحكمة أو البروتوكول أن يبق الرئيس طوال اليوم يحمل باقة ورد، أو صندوقا صغيرا محشوا بقطع الشوكولاتة البلجيكية. كما يرسله السيد الرئيس لينوب عنه في بعض الاحتفالات الصغيرة التي لا تستحق من أجلها اقلاق راحة الحرس الرئاسي.
قال سراج هامسا: لا يصلح رئيسا، يصلح شبيها! شبيها للرئيس، يحضر نيابة عنه الاحتفالات او المناسبات التي يكون فيها تهديد أمني على حياة رأس الدولة، فيتلقى طلقات المتمردين نيابة عن السيد الرئيس! ضحك سراج بخبث وقال: اذا وصل هذا الرجل الى الرئاسة سيكون أول شبيه يصبح رئيسا! لن يحتاج لشبيه! الرصاص لن يؤذي هذا الثور الذي يسير في حراسة الدخّان، مثل قاطرة السكة الحديد! يمكننا بسهولة ايجاد شبيه له ان كان ذلك ضروريا. نحتاج فقط الى ثور يرتدي بزة عسكرية!
سراج لم يكن يضيع وقته، ثرثر في احد المقاهي في الخارج مع بعض اللاجئين الاثيوبيين، في المساء باح لي بالسر الرهيب: السيد الرئيس لديه عمل اضافي في ايام الجمعة و العطلات الرسمية! حسبته يمزح: يتحول الى شيخ يعالج بالسحر! يشرب برميلا من الخمر اثناء ايام الاسبوع وحين ينتهي الاسبوع يحرز توبة مؤقتة من الخمر ويرتدي ملابس شيخ! ضحك وقال: لا بد انه مثل ذلك الشيخ الذي كان يشرب الخمور سرا، وحتى لا يعرف مرافقيه من الحيران بامره كان يضع الخمر في ابريق الماء الذي يستخدمه للوضوء، ذات مرة هجم أحد المريدين على الابريق حتى يأخذ البركة من بقايا مياه وضوء الشيخ، حاول الشيخ انتزاع الابريق الملئ بالخمر من المريد وحين لم يفلح صرخ فيه محققا المعجزة السهلة: انشاء الله الماء يتحول الى خمر أيها النجس!
لديه عيادة محوّلة للاجئين، يقوم بطرد الشياطين مستخدما أسوأ علاج لطرد الشيطان: الحب! ما ان يهجم بأسلحة الحب على جسد ما حتى تولي الشياطين الادبار، فتستعيد المريضة الجميلة عافيتها! لا يعالج النساء غير الجميلات أو المسنات بالطريقة نفسها! يقول على النساء الدميمات، أن الشيطان تمكن منهن حتى أطل من وجوههن! هنا يستخدم خليطا من الماء المرقي والبخرات.
بدأنا العمل فورا لكتابة التقرير.
لم نخبر أحدا أننا حضرنا خصيصا لرؤيته بعد أن رشّحه بعض معارفه داخل حزبنا الذي كان يدبر لعمل انقلاب عسكري، ليكون هو الرئيس القادم! كان الحزب بحاجة لعسكري في المرحلة الأولى حتى يتمكن من مفاصل الدولة، وحتى يعطي الانطباع داخيا وخارجيا ان التغيير الذي سيحدث هو مجرد انقلاب عسكري مثله مثل عشرات الانقلابات العسكرية التي تحدث كل عام من حولنا. إعتمد المعارف والأقارب الذين رشحوه للمهمة على أنه لا يملك طموحا للقيادة ولا حتى لقيادة مركب شراعي، وانه لولا أن والده دفعه دفعا للدخول للكلية الحربية لم يكن يطمح سوى أن يفتتح مقهى لبيع المشروبات والأطعمة الشعبية، فقد كان يعشق شراب كل شئ من الشاي وإنتهاء بالخمور اضافة للعب الورق والنساء. حين دفعه والده للدخول الى الكلية الحربية لم يهتم كثيرا لتغيير قدره، فإحدى فضائله القليلة أنه كان لا يفكر كثيرا ! اذا حدث تغيير ما في حياته لم يكن يتوقف ليسأل لم حدث ذلك، كان يكتفي بتغيير اتجاه شراع مركبه بإتجاه الريح الموجود أيا كانت جهة هبوبها!
حين طرقنا باب البيت فتح لنا أحد الضباط الباب، كان شابا لطيفا متوسط الطول يضع نظارة طبية فوق عينيه، تكاد تغطي وجهه النحيل، ويبدو انه وصل الى البيت قبل حضورنا مباشرة أو كان على وشك الخروج، فقد كان لا يزال يرتدي ملابسه العسكرية. عرّفنا باسمه: النقيب علاء الدين، سألته عن إسم الشخص الوحيد الذي أعرفه وكان يعمل مع الجيش قبل سنوات، شرحنا أننا حضرنا في مهمة صحفية لتغطية أحوال المدينة في ظل الحرب وكتابة تحقيق عن النازحين وضحايا الحرب الأهلية، وقد سمعت أن أحد زملاء طفولتي يعمل ايضا مع نفس حامية الجيش فرغبت في أن اراه. نجحت خطتنا فقد أصر الضابط حين عرف أننا حضرنا من العاصمة على أن ندخل بل وأن نبقى معهم لحين إنتهاء مهمتنا. قال لنا أن فنادق المدينة التي دمّرتها الحرب الأهلية غير نظيفة، تتقاسم فئرانها الأكل مع النزلاء، معظم الغرف لا يتم تركيب سلك النملية في شبابيكها ولا توجد مراوح سقف تخفف من القيظ وهجمات البعوض الذي ينافس الفئران في حجمها في هذه المدينة، وخدماتها سيئة وغير آمنة ايضا، بسبب وجود أعداد هائلة من النازحين واللاجئين من حروب اخرى على إمتداد القارة. ويمكننا أن نبق معهم ما دامت زيارتنا قصيرة.
لم نقل أننا حضرنا خصيصا لنرى العقيد حسن عبد الرحمن ونرى كيف يعيش وكيف يفكر. ونكتب تقريرا نوضح فيه رؤيتنا ان كان الرجل سيصلح ليكون الرئيس القادم! مفروض ان التقرير الذي سنكتبه عنه سيكون حاسما في تحديد مصيره، هل سيقضي بقية عمره في هذه البلدة الغارقة في الألغام، يزيح لغما من طريقه ويجلس للعب الورق، ويطارد اللاجئات الاثيوبيات في ليالي الخريف حين تخف حدة الحرب، ام سيذهب الى القصر رئيسا. في البداية لم نر شيئا يستحق تسجيله. كان المكان غارقا في دخان الشيشة و السجائر الرخيصة. وكان هو شخصيا، يضع أمامه على طاولة اللعب جوالا صغيرا من التبغ المحلي، لصناعة السجائر لم يكن يستخدم ورق اللف الرقيق، بل ورق عادي من النوع المستخدم مع ماكينات التصوير، كان صعبا علينا في البداية أن نصدق أننا في حضرة الرئيس القادم، لا ينقصه سوى عصا ضخمة يمسكها بيديه خلف ظهره ليبدو مثل سمسار مواشي في أحد أسواق المواشي البعيدة، كان يرتدي جلبابا ضخما ويضع على رأسه الضخم طاقية متسخة يقارب حجمها حجم إطار سيارة من النوع الصغير. يبدو محشورا في جسده، رغم ضخامة جسده، لكنه يعطي إنطباعا كأن حجمه الحقيقي أكبر كثيرا من حجم الجسد. عيونه الواسعة لا يرهقها بالنظر الى أبعد من ورق الكوتشينة الذي يحمله بين يديه ويخفيه داخل حجره. حين جلست بجانبه، أحاول اختلاس النظر الى الأوراق التي يحملها. إكتشفت بسرعة أنه سرق الجوكر! يا للكارثة هل سيصبح لص الكوتشينة رئيسا للجمهورية!
بدأنا العمل فورا، كان السؤال الأول: هل يصلي وهل يؤدي الصلاة في مواعيدها؟
سمعنا بعد قليل صوت مؤذن بعيد يؤذن لصلاة المغرب، كان الصوت بعيدا كأنه قادم من وطن آخر أو من أحد الأحلام، يتخلله صخب المارة في شوارع الحرب، وغناء الأطفال على ضفة نهر إستوائي منسي، مصحوبا بنغمات ربابة متقطعة، ويقطعه أحيانا صوت طلقات رصاص. لاحظنا تحرّك بعض الضباط لأداء الصلاة في غرفهم بينما بقي البعض في أماكنهم ومن ضمنهم رجلنا نفسه! قلت ربما لم يسمع الأذان، طلبت من الضابط الذي فتح لنا الباب أن يحضر لنا سجادة لأداء الصلاة. أشار لي الى مكان المرحاض في ركن الفناء. توضأت من برميل ماء صغير موضوع بجانب حوض حنفية الماء، بسبب إنقطاع المياه كثيرا يملأ البرميل الصغير بالماء لغسل الايدي أو الوضوء. أدينا الصلاة أنا وزميلي في الفناء، أثناء اداء الصلاة دفعني أحدهم لأقف في المقدمة، اعتقدت انه ربما سيكون رجلنا، لكن بعد نهاية الصلاة اكتشفت ان الضابط الذي فتح لنا الباب هو الذي انضم للصلاة بينما بقي رجلنا في مكانه.
يا للكارثة تنظيم إسلامي متشدد يستولي على السلطة، ويتقدم صفوفه ليصبح رئيسا، رجل لا يصلي!
أحضر الضابط الذي استقبلنا كوبين من الشاي. وحاول ان يخفف فتور استقبال بقية الضباط المشغولين في عراك لعب الورق وتدخين السجائر الرخيصة وشرب خمر المريسة المحلية. سألنا كيف يسير عملنا، لم نذكر له بالطبع أننا بدأنا عملنا في تلك اللحظة بالذات. وأن الجوكر المسروق هو أول خطوة في التقرير المطول الذي سنكتبه، كان سراج لا يزال يعلّق الكاميرا حول صدره. وكان ذلك كافيا لاقناع كل من يتشكك حول مهمتنا الصحفية. والحقيقة ان الضباط المنشغلين بمعركة المساء لم يكن ليولوا أية مدني كثير من الاهتمام او التدقيق، سواء ذهب المدني في مهمة أو بقى في البيت فلن يمكن ملاحظة أية فرق! هكذا صرح الرجل الذي سيصبح رئيسا للجمهورية بعد أن لعبت الخمر برأسه الصخم، لم أصدّق في البداية انّ الخمر يمكن أن تلعب برأس بمثل تلك الضخامة. الصحيح أن رأسه هو الذي كان يلعب بالخمر! مثل كرة يلقيها في زوايا المكان ويستعيدها متى أراد ذلك. كان ذلك ما خطر لي ثم تبين لي أن تلك كانت الحقيقة، حين غرق الجميع في مقاعدهم من فرط السكر ولم يعد بمقدور أحدهم ولا حتى القاء الورقة حين يحين دوره، واصل هو اللعب وسرقة الورق وكأنه كان يشرب ماء ويشرب زملائه خمرا. مع تقدم الليل لم يعد يهتم بالسرقة بحذر كان يمد يده ويقتلع الورق حتى من يد زملائه السكارى ، فقد اصبحت حلبة اللعب والشراب مسرحا له كممثل واحد. جمع حصيلة ما كسبه ووضعه في جيبه، ثم نظر الينا كأنه يرانا للمرة الأولى، لا ادري لم خطر لي أنه عرف ماذا نفعل وعرف سبب حضورنا! لكن ذلك لم يدم سوى ثانية واحدة استعاد بعدها لا مبالاته، قام النقيب علاء الذي فتح لنا الباب ليساعد زملائه السكارى الذين سقطوا ارضا، ثم احضر أحدهم صحن الفول الضخم الغارق في زيت السمسم.
بعد العشاء بدأ دخان المعارك ينجلي في المكان، اختفى العقيد حسن عبدالرحمن في غرفته، عرفنا أنه الوحيد الذي يسكن في غرفة لوحده بسبب شخيره الذي يشبه شخير فيل مسن، اقترح النقيب علاءالدين ان يخلي لنا الغرفة التي يتقاسمها مع ضابط آخر لكننا رفضنا بشدة واصررنا على النوم في صالة البيت، كان هناك سريران من الحديد في جانب الصالة يبدو انهما معدان للضيوف. أحضر لنا الضابط اغطية قطنية خفيفة. قال لنا أن مروحة السقف التي تخفف من هجوم البعوض تتوقف احيانا بسبب انقطاع الكهرباء فيفضل ان نستخدم الاغطية الخفيفة رغم حرارة الجو لنحمي اجسادنا من لسعات البعوض.
أخبرناه اننا سنغادر مبكرا ونعود مساء. احضر الضابط جلبابا لكل واحد منا شكرناه واعتذرنا بان معنا ملابس خفيفة، قمنا بتغيير ملابسنا، ذهبت الى المرحاض في نهاية الفناء. كنت أشكو من الامساك ربما بسبب تغيير عادات الأكل اثناء السفر. حين كنت أجلس داخل المرحاض سمعت صوت خطوات شخص ما قام بفتح باب الفناء. دخل شخص آخر ثم اختفت اصوات الاقدام. قال لي زميلي يبدو أن فتاة حضرت للنوم مع رجلنا!
فصل من رواية جديدة
للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة