|
حول فتاوي القرضاوي
|
انزعجت وأحسب أن الكثيرين من أهل السودان انزعجوا من الشيخ القرضاوي، الذي زار الخرطوم مؤخرا ، وحدثنا عن أيدي يهودية وصليبية تقف وراء متمردي دار فور وتحركهم ، قبل أن يتوجه لزيارة د, حسن الترابي ويسعى للتوسط بين جناحي الحركة الإسلامية ، ويطلق مبادرته العجيبة حول اجتماع في مكة لحل مشكلة دار فور ، بل ومجمل المشكل السوداني وفقا لتعاليم الشريعة كما قال ، ونسي أو تناسى بأن مثل هذه المقولات (العائمة) التي تتهرب بها جماعات الإسلام السياسي في كل مرة يكون المطلوب منها إعطاء إجابة واضحة على سؤال محدد ، هي التي أوصلت السودان وأهله إلى ما هم عليه الآن . وأزعجني أكثر أن شيخنا الجليل ، وجه اتهاما خطيرا وصريحا لحركتي: “العدل والمساواة” و”حركة تحرير السودان” بأنهما قد أصبحتا أداة في يد من أسماهم باليهود والمسيحيين المتخفين وراء منظمات الإغاثة.. أزعجني لأن "العدل والمساواة" حركة متهمة بأن من يساندها ويدعمها هو جناح حسن الترابي أو المؤتمر الشعبي، وهذا الاتهام لم نطلقه نحن وانما أطلقه الوجه الآخر للجبهة القومية الإسلامية أو جناح طه والبشير المتربع الآن على سدة الحكم ، ولأن أهل مكة أدرى بشعابها ولأن شيخنا جاء أصلا ليتوسط بين الجناحين لم أفهم ولا أعتقد أن شيخنا نفسه يفهم، ماذا يريد أن يقول لنا بالضبط باتهام التنظيم الواجهي للترابي - على الأقل كما تقول الخرطوم - بأنه أداة يهودية صليبية! ! . أما حركة تحرير السودان فتمتد بجذورها إلى التمرد الذي قاده يحي بولاد ابن الحركة الإسلامية أيضا والذي كان واحدا من أهم وأنشط كوادرها الطلابية أثناء دراسته بجامعة الخرطوم، بعد أن تكشفت أمامه "الخدعة الكبرى"، وأدرك بأن المشروع الحضاري للجبهة القومية الإسلامية يتعارض تماما مع مصالح أهله بل ومع القيم والمبادئ العليا للإسلام وكافة شرائع الأرض والسماء ، فانضم إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وحمل السلاح وقاتل حتى قتل شهيدا على أيدي الجنجويد في أول تحالف لهم مع حكام الخرطوم.. حركتان، جذورهما إسلامية، وفي منطقة أهلها ليسوا في حاجة لمن يلقنهم الدروس ،لا في أساليب فض النزاعات ولا في فنون الحكم ، ولا في الدفاع عن العقيدة . فأهل هذه المنطقة جلهم من الأنصار، والأنصار في السودان هم الذين هبّوا لنصرة محمد أحمد المهدي وثورته ضد الاحتلال التركي البريطاني ..و هي أول ثورة إسلامية جهادية - إن لم نقل أول حركة للتحرر الوطني في التاريخ الحديث - تلحق بالإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، هزيمة نكراء ، وتمرغ أنفها وتأسر قائد جيوشها الذي دوخ الصين وتقطع رأسه (ليس نتيجة فتوى من زعيمها وانما نتيجة خطأ وتجاوز لمقاتل من مقاتليها على عكس ما أوصى به المهدي الذي كان يريد غردون باشا حيا حتى يساوم به من أجل إطلاق سراح أحمد عرابي), ويحضرني بهذه المناسبة ما قصه علينا سفير السودان لدى اليونان عام 1969 الأستاذ أحمد هاشم ، عن حادثة وقعت أثناء خدمته في صين ماتوسي تونج .. قال : كنا في حفل استقبال ، وكان ماوتسي تونج يقف وبجانبه مساعدوه بتلقي تحيات السفراء الأجانب . .عندما قدموني له كسفير للسودان استوقفني والتفت إلى معاونيه وقال لهم :هل تعرفون بأن أول ثورة في دول العالم الثالث تلحق هزيمة بالإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس قامت في السودان عام 1881 . . هؤلاء الذين وصفتهم بأنهم أداة بيد اليهود والصليبيين يا شيخنا الفاضل هم أحفاد أولئك الذين شاركوا في صنع الثورة المهدية - على علاتها - وبالتالي لا اعتقد انهم في حاجة لمن يفتيهم في أمور دينهم فقولة المهدي المشهورة: ("هم رجال ونحن رجال" بما يخص مسائل الإفتاء لها مغزى ومستقر في وعي ولا وعي أهل السودان) هذا لا يعني أنني أتفق مع نهج ومقاصد متمردي دار فور ، خاصة فيما يتعلق بالتحريض على التدخل الدولي - كما أنني لا اتفق مع نهج ومقاصد حكومة الخرطوم .. وبالرغم من أنني دعوت مع من دعا ولم أزل إلى أن يستمع أهل السودان - حكومة ومعارضة - لنصائح الأشقاء وغير الأشقاء ويطلبوا العون من المجتمع الدولي في سبيل الخروج من هذا المأزق الخطير ، إلا أنني أنزعج وأحسب أن السودانيين كافة ينزعجون مثلي عندما يحاول بعضهم أن يتخذ من مأساة أهل السودان والبلاء العظيم الذي حاق بأهل دار فور، مطية لخدمة أجندته الخاصة . . وأجد نفسي منسجما تماما مع تساؤلات طرحت نفسها بقوة : (كيف لم يبصر شيخنا بأكبر قاعدة أميركية خارج الولايات المتحدة في قطر التي يحمل جواز سفرها ، وبوفود إسرائيل ومكاتبها التجارية وغير التجارية في تلك الإمارة، بل وحصة إسرائيل في قناته المفضلة، واكتشف - من دون خلق الله جميعا- الصهاينة والصليبيين في غرب السودان!.) ولكن فلندع شيخنا وشأنه ، وليته يدعنا وشأننا ،فلا أعتقد أن هناك من يرغب في السماح له بأن يصفي خلافاته المالية مع الولايات المتحدة على حساب السودان ( لمن لا يعرف نقول أن الولايات المتحدة مؤخرا مبلغ ثلاثة ملايين من حسابات شيخنا ) الذي يشغل السودانيين الآن هو أن يحافظوا على السودان آمنا وموحدا ناهضا بإذن الله رغم تلبد الغيوم فيه وحوله .. وأحسب أن أهل السودان متفقون على حقيقة أن لهم جميعا - على اختلاف أعراقهم وأديانهم وثقافاتهم - مصلحة بينة في الإٌبقاء على سودانهم موحدا . . ولدي غالبيتهم العظمي - بما في ذلك تيار عريض داخل الحركة الإسلامية السودانية - بأن ذلك الهدف لن يتحقق إلا بالتراضي، وهذا التراضي يجد أفضل تعبيراته في اعتماد النظام الديمقراطي الفيدرالي في الحكم ، استنادا على دستور مركزي يساوي بين الناس ويضمن قسمة عادلة في السلطة والثروة لكل فيدرالية، وحرية في إدارة شئونها ورسم سياستها الاقتصادية والاجتماعية. ما دامت لدينا هذه القناعة وهذا ما يمكن أن يتبينه المرء من قراءة أدبيات القوى السياسية السودانية على اختلافها وتنوعها ، ما الذي يبقينا في هذا النفق ؟ لماذا لا يتم الاهتمام بدعوة السيد الصادق المهدي آخر رئيس وزراء منتخب في السودان إلى مؤتمر قومي ، لحل مشكلة دار فور وتطويرها لتصبح مرجعية للتراضي نعيد بناء السودان الواحد على أساسها ؟
منصور شاشاتي (من شهر إلى شهر – الضفتان)
|
|
|
|
|
|