|
حول ظاهرة التطرُّف الدينى فى السودان ( 2 -2) بقلم عادل إبراهيم شالوكا
|
10:16 PM Jul, 09 2015 سودانيز اون لاين عادل شالوكا- مكتبتى فى سودانيزاونلاين
مواصلة لما بدأناه فى الجزء الأول حول ظاهرة التطرُّف الدينى فى المجتمع السودانى، نتناول فى الجزء الثانى : أشكال التطرف، وأسبابه، ونموء الظاهرة، ونختتم ببعض الأفكار التى يُمكن أن تكون أساساً لأى معالجات مُحتملة فى المستقبل.
أشكال التطرُّف: التطرُّف يُمكن أن يُوجد في أي مجال من مجالات الحياة، فمثلاً هناك التطرُّف السياسي، والتطرُّف الإجتماعي، والتطرُّف الديني .. الخ، وأياً كان الشكل الذي يأخذه التطرُّف، إلا أنه يُمكن تقسيمه إلي ثلاثة أنواع توجد مُنفردة أو مُجتمعة :
أولاً : التطرُّف المعرفي : وهو أن يتعلق الشخص إلي فكرة أو أفكار معينة، ولا يتقبل المناقشة أو إعادة النظر فيها، ويعتبرها من الثوابت المُطلقة، وهو في هذه الحالة لا يُلغي وظيفة عقله فحسب في تمحيص هذه الفكرة أو الأفكار، بل إنه يلغي أي رأي آخر مُخالف، ولا يسمح لهذا الرأي أن يدخل مجال وعيه فضلاً عن أن يتفهَّمه، أو يناقشه، أو يتقبَّله.
ثانيًا : التطرُّف الوجداني : وهو شعور حسَّاس طاغ نحو شيء مُعين يجعل الشخص مندفعًا في إتجاهٍ مُعين دون تبصُّر، وربما يدفعه هذا الإنفعال إلي تدمير نفسه، أو غيره، وربما يندم بعد ذلك حين تخف حِدة هذا الإنفعال وبالتالي يعود إلي رشده، وفي بعض الأحيان لا يحدث هذا وإنما يظل الشخص يشحن نفسه، أو يشحن المجتمع بشحنات وجدانية هائلة تُهدد بالإنفجار في أية لحظة.
ثالثًا : التطرُّف السلوكي: وهو المُغالاة في سلوكيات ظاهرية مُعينة بما يخرج عن الحدود المقبولة وكأن هذه السلوكيات هدفًا في حد ذاتها ولذلك يكررها الشخص بشكل نمطي وهي خالية من المعني وفاقدة للهدف ولا يتوقَّف الأمر عند الشخص ذاته بل يحاول إرغام الآخرين علي التقيُّد بما يفعله هو قهرًا أو قسرًا، وربما يلجأ إلي العدوان علي الآخرين لإرغامهم علي تنفيذ ما يُريد.
أسباب التطرُّف:
1/ إضطراب العلاقات : بين الطفل ووالده، أو بين الطفل ورموز السلطة في الأسرة أو المدرسة، وينمو هذا الصراع ويكبر ويصبح الشخص في صراع مع أي رموز للسلطة علي المستوي الإجتماعي أو السياسي، أو الديني، وهذا يُفسر لنا رفض الشباب المُتطرِّف الإنضواء تحت أية سلطة، فهم يفضلون تكوين مجموعات ممن هم في مثل سنهم دون وصاية أو توجيه من مصدر أعلي.
2/ وجود بعض الإضطرابات النفسية : كالقلق والإكتئاب، ففي محاولة الشخص للخروج من دائرة القلق أو الاكتئاب يلجأ إلي نقل مجال الصراع من داخل النفس إلي الخارج، حيث يصبح الصراع دائراً بين النفس والمجتمع، وبالتالي يصبح الصراع أقل إيلامًا للشخص وأكثر قبولاً منه حيث يشعره أنه يقوم بدور ما.
3/ التعميم والتحويل: وفي بعض الأحيان يكون التطرُّف مدفوعًا بأشياء أخرى مُختلفة عن الشكل الظاهر تمامًا، كأن يكون الشخص واقعًا تحت تأثير معاناة مادية، أو إجتماعية، أو سياسية شديدة، أو فشل في أن يُحقق ما يريد علي المستوي الشخصي، لذلك يحوِّل القضية الشخصية إلي قضية عامة، وهذا يعطي لمعاناته ومحاولاته معني أكبر يُخفف من آلام الإحباط الشخصي الذي يشعر به، وفي ذات الوقت لا يجد نفسه وحيدًا في هذه الأزمة.
4/ أسباب إجتماعية ثقافية -: Socio-cultural causes إنخفاض المستوي الإجتماعي والإقتصادي لأن الأسرة الفقيرة لا تستطيع أن تدعم أفرادها وأن تزوُّدهم بمهارات التكيُّف الخاصة في وقت الأزمات مثل التغيرات الإجتماعية أو الثقافية أو التكنولوجية السريعة، ففي مراحل التغيرات السريعة يختل التوازن، وتتداخل القيم والمفاهيم، ويكثر التطرُّف. نموء ظاهرة التطرُّف : نمو ظاهرة التطرُّف الفكري لدى الأفراد يعود بصورة أساسية إلى ثقافة (الأنا) وإقصاء الآخر. وتجد هذه الظاهرة جذورها الأكثر عمقاً في التنشئة الأولى، البعيدة عن حب الآخرين، والإصغاء لما يقولون. كما يجد العنف جذوره الأولى في منظومة من المعطيات الثقافية والإجتماعية والسياسية، وفي السنوات الأخيرة، أمكن النظر إلى التزاوج بين العنف والتطرُّف الفكري الذي ساد عدداً من الدول العربية والأفريقية، بإعتباره تزاوجاً بين ميولين جانحين، أولد نهجاً إقصائياً لا يقتصر على عدم الإعتراف بالآخر، بل يدعو إلى محاربته. إن خطورة هذا التزاوج تتمثَّل في قدرته الفائقة على دفع الدول والشعوب إلى جحيم الحروب الأهلية، على النحو الذي شهدته إيرلندا حتى وقت قريب، وذلك الذي عاشته أوروبا ما قبل معاهدة وستفاليا، ورواندا عام 1994، وحالياً فى اليمن والعراق وسوريا وجنوب السودان، وبعض الدول الأفريقية الأخرى مثل نيجيريا والصومال، وتمتد هذه الظاهرة الآن على نحوٍ مُتسارع إلى السودان (عنف عرقى/ دينى طائفى) . وقد يكون العنف نتيجة لأوضاع قائمة وقد يصبح سبباً لها. وربما يغدو سبباً ونتيجة في الوقت نفسه. وليس للعنف هوية دينية أو إثنية، وهو يتناقض مع مرتكزات الوطن الواحد الذى يسع الجميع. وقد ناقش ماكس فيبر مفهوم العنف السياسي وجذوره الأساسية، إلاَّ أن مقاربته ركزت إجمالاً على البعد المرتبط بالدولة الوطنية. ومن ناحيتها، أولت الفيلسوفة الألمانية، حنة آرنت، إهتماماً خاصاَ لتحليل ثقافة العنف في المجتمع، ورأت أنها نقيض المجتمع المدني. كما كرَّست آرنت الكثير من مقاربتها لما إصطلحت عليه بالدولة "التوليتارية" الستالينية على وجه الخصوص. وفي المجمل، يُمكن النظر إلى آرنت باعتبارها أبرز من قدم نتاجاً فكرياً ذا صلة بالسياق الإجتماعي والسياسي للعنف. ولا زالت مُتقدمة في هذا الصدد على كافة من جاءوا بعدها. وأياً يكن الأمر، فثمة تطرُّف فكري في الوقت الراهن لابد من الإعتراف به إعترافاً مسؤولاً. وخلافاً لمنطق الإستسلام للواقع، فإن الإعتراف المسؤول به يعني العمل على ضبط إيقاعاته، والتأثير المُمنهج في مسار تفاعلاته المُختلفة لإحتواء هذه الظاهرة الخطيرة. وغير بعيد عن ذلك وفى تحليلنا لأسباب الصراعات العرقية والعنف الطائفى أو الدينى بشكل عام، نستصحب طرح عالم الأنثروبلوجيا الفرنسى كلود ليفي شترواس، الذى إنتقد العرقية المركزية الأوروبية، مؤكداً حقيقة وجود ثقافات أخرى في هذا العالم لا تقل أهمية عن الثقافة الغربية. وبالتالي ينبغي أخذها بعين الإعتبار، إذا ما أُريد بناء فلسفة إنسانية متكاملة. وذهب فى هذا المنحى كذلك جاك دريدا - رائد منهج "التفكيكية" الذي إهتم بتفكيك الحضارة الأوروبية بمجملها، وإعتبرها عرقية مركزية، منطوية على نفسها. وهي فلسفة إرتكزت إلى رؤية إنسانية جامعة، تحثُ على النظر إلى الآخر بإعتباره أخاً في الإنسانية، يجب تقديره وإحترامه، وعدم المساس بكرامته. وخلافاً لهذه الفلسفة، تُعبر النظرة إلى الآخر من زاوية تمايزه عن تضخُّم لـ(الأنا) وللإنتماءات الرأسية، وتترجم ميولاً جانحاً ومُتطرفاً. ولا يعني هذا بالنسبة لأي وطن أو أمة، سوى بداية الإحتراب الأهلي. أو هو الإحتراب الأهلي بعينه. ويمكن النظر إلى ضعف التنشئة الفكرية بإعتبارها أحد أسباب بروز الإنتماءات الرأسية في الوقت الراهن سواء كان فى السودان أو بقية الدول التى تشهد تنامى التطرُّف العرقى أو الدينى، إذ مع ضعف هذه التنشئة يتراجع بالضرورة الشعور بالقواسم المُشتركة بين الناس. ماذا نفعل ؟ : أولاً : وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الوقت لا زال مُتاحاً للعمل على معالجة الأسباب التي دفعت بإتجاه هيمنة الإنقسامات الإجتماعية الرأسية والدينية على البيئة المجتمعية، أو لنقل على عدد من مواطن هذه البيئة، وربما تبدأ أولى المعالجات بنشر ثقافة التعايش وقبول الآخر وإحترام خصوصياته. ثانياً : تتجسَّد الخطوة الثانية في إعتماد مبدأ المساءلة مع الجهات المُحرِّضة على سيادة الإنقسامات الرأسية، القبلية والعرقية والطائفية، والنظر إلى من يُمارس هذا التحريض بإعتباره مصدر تهديد للتعايش بين القوميات والكيانات المختلفة فى الدولة، ومصدر تهديد كذلك لتماسك المجتمع، وللوحدة الوطنية. ثالثاً : تُعتبر المؤسسة التربوية (المدارس)، والمؤسسات العلمية (الجامعات والمعاهد العليا)، ذات دور محوري في تحديد إتجاهات التنشئة الفكرية والإجتماعية وبلورة مساراتها، وبالقدر الذي تسود هذه المؤسسات إرادة التطوُّر، بالقدر الذي نجد جيلاً طموحاً متطلعاً إلى البناء والإبداع، الذي يستنهض بالضرورة روح التعايش بإعتبارها أساساً ومنطلقاً للبناء والنهوض الوطني. رابعاً : تبدو الحاجة متزايدة لبناء طبقة وسطى عريضة، لأن الطبقة الوسطى هي التي يُمكنها تشييد مرتكزات المجتمع المدني، الذي يُعد اللبنة الأولى، والحجر الأساس، لأي مشروع نهضوي وطني، وأية تنمية ناجعة ومستديمة. والمجتمع المدني مفهوم حديث العهد نسبياً، ولم تعرفه أوروبا إلا بعد تصورات هوبز، وجون ستيوارت ميل، وجان جاك روسو، وسواهم. أخيراً : ما يُمكن قوله خُلاصةً، هو أن التطرُّف الفكري والعرقى والدينى وما يصاحبه من عنف فى السودان، لا يُعبر عن حالة معزولة عن السياق الإجتماعي، والسياسى، والثقافي العام، بل هو بالضرورة أحد نتاجاته المباشرة أو الضمنية. ومن هنا، فإن أية معالجة للتطرُّف بمختلف أنواعه يجب أن تلحظ واقع مؤسسات : الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والإنتاج الثقافي والإعلامي. وكلما إتجهت المعالجات إتجاهاً أفقياً يستوعب الأبعاد والعناصر المُختلفة، كانت النتائج أكثر جدوى وفائدة. فالمدارس بدلاً من تركيزها على تربية السلوك القويم وإحترام وقبول الآخر، صارت تبث الروح الجهادية فى الطلاب. والجامعات التى تُعتبر مراكز إستنارة وبناء الوعى وتشُّكل الشخصية المُنتجة، صارت تُفرِّخ الكوادر الإرهابية بعد ما تم مصادرة النشاط الطلابى الحر وحشو المقررات الدراسية بمواد إرهابية تبث الكراهية العرقية والأفكار الدينية المُتطرِّفة، فصار "السيخ"، والسواطير والسكاكين والعصى، بديلاً لأركان النقاش والحوار الفكرى الموضوعى البنَّاء. والمساجد كدُور للعبادة والتواصل الروحى، صارت مكاناً للإستقطاب والتعبئة والتكفير وحشد النفوس بالهوَس والكراهية، والعنف الرمزى. أما وسائل الإعلام فقد تم تسخيرها لبرامج ورموز مُتطرفة أمثال عبد الحى يوسف وغيرهم. فبالنسبة للحالة السودانية فالنظام الحاكم هو المسئول الأول عن ما وصلت إليه البلاد من أوضاع كارثية مست جوانب الدين والعرق والثقافة بشكلٍ عام. وأى معالجة لهذه الأوضاع يجب أن يكون مدخلها الرئيسى ذهاب هذا النظام وإجتثاثه من جذوره، فهذا هو الحل الوحيد والناجع لظاهرة التطرُّف التى نعيشها الآن، فالجماعات المُتطرفة أو الرموز التى تبث هذه السموم خرجت من تحت عباءة هذا النظام، وتتصرف الآن بمطلق الحرية وتحت حماية الدولة ورعايتها، فظاهرة التطرُّف العرقى (الطيب مصطفى)، والتطرُّف الدينى (د / عبد الحى يوسف – محمد على الجزولى) ليست ببعيدة عن سياسات الدولة والنظام الحاكم، فعمر البشير نفسه عنصرى من الدرجة الأولى وهو رمزٌ للعنصرية فى البلاد، والمؤتمر الوطنى كما ذكرنا هو الذى خلق هذه البيئة المُتطرِّفة، وأوجد هذا المناخ الملائم لتنامى التطرُّف والأفكار المُتطرفة ومن ثم العنف العرقى والطائفى، فالتصفيات التى تقوم على أساس عرقى فى مناطق الحرب (دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق) والصراعات الدموية بين الطوائف الدينية ( الطُرق الصوفية من جهة، والتيارات السلفية من جهة أخرى)، وأخيراً تدافع الشباب نحو تنظيم داعش المُتطرف، هو نتاج طبيعى لسياسات هذا النظام الذى لا بد من ذهابه، لان الظل لا يستقيم والعود أعوج.
المراجع والمصادر : 1/ كلود ليفى شتراوس : العرق والتاريخ – ترجمة د/ سليم حداد – اليونسكو 1952 . 2/ أطروحة ماكس فيبر : الدولة بين العنف والحق – الطائر الأفريقى – 2013 . 3/ حنة آرنت : التوليتاريا – أطروحة دكتوراة عام 1928 – صدرت باللغة العربية عام 1992 : ترجمة، إبراهيم العريس. 4/ جاك دريدا : أحادية الآخر اللغوية – ترجمة، عمر مهيبل – ناشرون الدار العربية للعلوم – الجزائر العاصمة . 5/ المرصد العربي للتطرُّف والإرهاب : سيكولوجية التطرُّف ..ما هو التطرُّف ..؟ ما هي أشكاله..؟ ما هي أسبابه . وكيف نعالجه.. 2002. 6/ الشبكة العنكبوتية – ويكيبديا .
|
|
|
|
|
|