|
حول الديمقراطية (1-4) إطار نظرى والإنتقال من حيز الضرورة لحيزالحرية د. محمود محمد ياسين
|
حول الديمقراطية (1-4) إطار نظرى والإنتقال من حيز الضرورة لحيزالحرية
د. محمود محمد ياسين
فى الوقت الذى صار فيه الحديث عن الديمقراطية فى الدول التابعة على كل لسان، يتعرض مفهومها لتشويه متعمد من خلال استخدامها كمصطلح مجرد والترويج للديمقراطية الليبرالية-الشكلية. والمُحرِج هو أن الذين يشاركون فى هذه الخطيئة هم من يدعون كذباً ونفاقاً الإنتماء للماركسية. فهؤلاء فيما يتعلق بالديمقراطية ينطلقون من عقيدة راسخة تعترف بخرافة "الدولة المحايدة" التى توجد فوق الطبقات. عندهم يتم إفراغ الديمقراطية من محتواها الطبقى، وأفكارهم التى يقدمونها فى تكلف لغوى مبالغ فيه تجد بعد قراءتها أن مضمونها ضحلاً يُصور الديمقراطية كمفهوم مطلق وكتلاميذ المدارس العامة ينظرون الى الصراع السياسى كصراع بين متنافسين ديمقراطيين وديكتاتوريين مجردين من أية أرضية اجتماعية وأن مفهومى الديمقراطية والديكتاتورية متعارضان (mutually exclusive). وإعتلال الفكر عند هؤلاء يبلغ أقصى مداه بتجاوزهم النظرية العلمية القائمة على التعامل مع معطيات الواقع الملموس والانحدار الى إفلاس التجريبية وتدليس وتحريف المفاهيم. وهذا الإفلاس والتدليس والتحريف لم يتم إعتباطاً، بل أنتجه وغذى مادته أولاً، الركون الى العقلانية المثالية فى التحليل وثانياً، تاثير الواقع الاجتماعي الذى تسوده قيم البرجوازية الصغيرة ورؤاها المجزأة ونزعتها الذاتية ضيقة الافق غير العلمية وانصياعها للموروثات المحافظة. وهكذا فإن مفهوم الديمقراطية الفضفاضة المجردة يؤدى عند تناول موضوع شكل الدولة (من منظور ذاتي يتمنى شكلها وكأن تطورها ليس محكوماً بالعلاقات الواقعية) الانتقال من تصور الى تصور ومن فكرة لأخرى ومن بديل لآخر.
النظرية العلمية ،المشار اليها فى الفقرة أعلاه، تتميز بأنها نقدية وثورية. نقدية بمعنى النقد المادى الذى ينطلق من أن الواقع المادى كائن بشكل مستقل عن وعى الإنسان، فهو النقد الذى يبحث فى تفسيرالحقائق السياسية والحقوقية والعلاقات الاجتماعية بإرجاعها الى علاقات الانتاج ومصالح الطبقات المختلفة. وثورية لأن مهمتها هى الكشف عن تناقضات المجتمع والبرهان على أن حلها يُمكِّن من إستبصار اتجاه تطوره استناداً على مبدأ أن الانساق الإجتماعية تاريخية وهى بالتالى مرحلية وفى تغير متواصل. وهكذا فإن هذه النظرية العلمية بقدرتها على تقدير اتجاه تطور التناقضات الإجتماعية تمنح الجماهير السلاح لإحداث التغيير الضرورى لخدمة مصلحتها انطلاقاً من الواقع الملموس. والتمسك بمبادئ هذه النظرية هو ما يمنع من الوقوع فى براثن الجمود وليس العكس لأنها، ببساطة، لا تعترف بصحة التحليل الا بالنظر للواقع وتسمية مكوناته كما هى بدلاً من التخيل الواهم للعقلانية المثالية التى تجعل المفاهيم هى ما يتحكم فى الواقع الذى يُفترض أن يتطابق معها وليس العكس. فالجمود هو الثبات فى حدود المظاهر والمفاهيم الشكلية مقابل المرونة التى يمنحها النقد المادى الجدلى المتحرر من المنطق الشكلى والذى يسعى لبحث كنه الظاهرات من خلال دراسة تناقضاتها الداخلية وتداخلها وترابطها مع الظاهرات الأخرى فى لحظتها التاريخية. ( وإذا كان لا بد من المساومة فإنها تتم على صعيد "التكتيك" وليس فى المبادئ.) إن نشاط البشر السياسى ( كتعبير مُرَكَّز للإقتصاد) تحدد افاق عمله قوانين طبيعية وإجتماعية لا حيلة لهم فى إلغائها. هذه هى الضرورة التى يتوجب على الإنسان التعامل معها لتحقيق الحرية بإكتشاف وتطويع واستثمار القوانين الطبيعية لمقابلة إحتياجات المجتمع، وبالوعى، على صعيد الاجتماع، بطبيعة وجذور العلاقات الإجتماعية - التى تعيق نموء قوى الانتاج - كمقدمة لتغيير الواقع الإجتماعى- الإقتصادى الذى أفرزها. وإذا كانت "الحرية هى إدراك الضرورة"، فالديمقراطية تمثل شكل الحكم الذى ينقل المجتمع من حيز الضرورة الى حيز الحرية، وهذا يعنى أن شروط تحقيق الحرية توجد داخل الضرورة، والإنتقال من عالم الضرورة لعالم الحرية يعنى الإنتقال لحيز آخر من الضرورة وهى عملية جدلية مستدامة. وهذا الإنتقال (تطور الديمقرطية) ارتبط عبر التاريخ بالصراع الواقعى فى الحياة وتطوره، صراع الطبقات، فملكية وسائل الإنتاج والثروة هى ما يحدد نوع الديمقراطية، اى شكل الحكم. فمثلاً ديمقراطية النبلاء الاقطاعيين كانت تطوراً حل محل ديمقراطية الارستقراطيين مالكى العبيد والديمقراطية الليبرالية نقلت المجتمع من الاقطاعية الى الراسمالية وصار النظام الديمقراطى الجديد يعبر عن مصالح الطبقة الراسمالية المالكة لوسائل الإنتاج. وهكذا فإن الديمقراطية هي ديمقراطية تتمتع بها طبقة واحدة أو أكثر وتمارس الدكتاتورية على طبقة أو مجموعة من الطبقات الأخرى.
حول الديمقراطية (2-4) تطور مفهوم الديمقراطية
ترجع بدايات ظهور مفهوم الديمقراطية الليبرالية لأفكار جون لوك التى جاءت فى مؤلفه " اطروحتان عن الدولة المدنية". رفض جون لوك and#65235;and#65244;رand#65171; and#65165;and#65247;and#65188;ق الالهى and#65247;and#65248;and#65252;and#65248;and#65261;and#65241; and#65261;and#65256;and#65166;and#65193;and#65263; and#65170;and#65188;and#65197;and#65268;and#65172; and#65165;and#65273;and#65256;and#65204;and#65166;and#65253;، وجاءت افكاره فى فترة انتقال إنجلترا، عقب ثورتى 1648 و1688، من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية "المقيدة" حيث تم الإحتفاظ بالملكية كرمز للدولة مجردة من النفوذ والسلطة. تتلخص نظريته حول الديمقراطية فى قيام دولة تقوم على أساس الحقوق الطبيعية التى يتمتع بها كل الناس (الحرية، حرية التملك، المساواة، العدالة الإجتماعية)، فهو يرى أن قيام الدولة يكفل الحرية التي كفلتها القوانين الطبيعية وتردع تشريعاتها وقوانينها أولئك الذين لا يحترمون العدالة والمساواة. ونادى لوك بفصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية وعلى أن يتم انتخابها بواسطة الشعب؛ ولهذا فإن سلطتها تكون بتكليف من الشعب (fiduciary power) يحق للشعب أن يُنحِّيها إن لم تقم بواجبها على النحو الذى اراده الناخب.
كانت أفكار جون لوك تعبيراً عن واقع لم يكتمل فيه نموء الرأسمالية وهى خارجة لتوها من قبضة جمود الاقطاعية واستبداد ارستقراطيتها.
فى أواخر القرن الثامن عشر و أوائل القرن التاسع عشر تطورت فكرة الديمقراطية الليبرالية على يد كثير من المنظرين لنظامها مثل ألكسيس دى توكفيل صاحب الكتاب الشهير "الديمقراطية في أميركا، 1835"، وهكذا برزت للوجود فكرة الديمقراطية التمثيلية خلافاً لصيغة المجالس الديمقراطية المباشرة الأثينية وغيرها من اشكال الديمقراطيات القديمة. ثم جاء جون إستورات ميل فى منتصف القرن التاسع عشر يدعو، بسبب اشتداد ازمات الديمقراطية الليبرالية، لمزيد من اشراك الشعب فى العملية الديمقراطية فى مؤلفه الرئيس حول الديمقراطية "تأملات فى الديمقراطية التمثيلية،1861"، ويقدم فيه رؤى حول الديمقراطية تعكس الاحتياجات السياسية للبرجوازية وقد أكتمل نموء نظام الانتاج السلعى.
ولكن على صعيد التطبيق لم تترسخ الديمقراطية بشكلها الليبرالى المالوف الا فى القرن العشرين بعد أن مرت بعملية تطور مرحلى كان باعثه الإستجابة للمتغيرات الإقتصادية والإجتماعية ولمطالب بعض الشرائح الإجتماعية والأقليات لإشراكهم فى العملية الديمقراطية التى كانت محظورة عليهم.
كرست الديمقراطية الليبرالية قيم الحرية والمساواة والعدالة،الخ، كقيم طبيعة خالدة، وتم هذا عبر أفكار مفكرى البرجوازية التى روجوا فيها لفكرة أن علاقات الإنتاج الاقطاعية علاقات مصطنعة فى حين أن قوانين النظام الرأسمالى قوانين تعمل فى ثبات لكونها قوانين طبيعية ” مستقلة عن الزمن. فهى أبدية تحكم المجتمع بشكل دائم . وهكذا كان هناك تاريخ ، ولكن لم يعد يوجد.“ والقاعدة الاساس فى الديمقراطية الليبرالية هى حماية الملكية الخاصة فى الدولة الرأسمالية. ويجرى تصوير الدولة (فى الدستور) على أنها دولة كل الشعب وكيان مستقل عن الملكية الخاصة من منظور أن الدولة لا تفرد للملكية االفردية امتيازات حقوقية خاصة غير حق الملكية الفردية وحرية التصرف فيها، فجميع أفراد المجتمع متساوون فى الحقوق، ولكنها مساواة شكلية. والديمقراطية الليبرالية صممت بصورة تؤمِّن هيمنة الرأسمالية السياسية وإلاجتماعية المستمدة من سيطرتها على الإقتصاد؛ كما أن الاموال الطائلة، التى توظفها الفئات الاجتماعية المسيطرة على الإقتصاد فى الانتخابات، تضمن أن لا يحمل تكوين (التعددية) أى مهددات لاسس نظام الإنتاج الراسمالى.
تزامنا مع تطور أفكار الديمقراطية الليبرالية ظهر ميل نحو إتجاه آخر تطور الى الدعوة للاشتراكية. فخلافاً للشعارات الشكلية للديمقراطية حول الحرية والمساواة والعدالة، نادت الإشتراكية بأن العدالة تتحقق بالتغيير الإجتماعى الملموس وليست بتلك الحماية الشكلية المنصوص عليها فى قوانين دولة الديمقراطية الليبرالية. ظهرت الاشتراكية كدعوة طوبائية تجاوزها كارل ماركس بتحويل الإشتراكية الى علم بإكتشاف المفهوم المادي للتاريخ وفائض القيمة، وقد عبر ماركس عن هذا بان الاضافة التى قدمها لعلم الإجتماع هى أن الطبقات لا تتشكل على أساس ثقافى او عرقى او دينى او جهوى أو مهنى،الخ، بل وجودها يتحدد بمكانتها في نظام تاريخي معين للإنتاج ومن زاوية علاقتها بوسائل الإنتاج، وأن الصراع الطبقى يفضى بالضرورة الى ديكتاتورية البروليتاريا كمرحلة إنتقالية نحو إزالة الطبقات. و دكتاتورية البروليتاريا يمثل جوهرها شكل الحكم الذى تسود فيه ديمقراطية ثورية للاغلبية التى تتشكل من أصحاب العمل المأجور، وبالتالى يتحقق لأول مرة فى التاريخ الخروج من حيز السيادة السياسية للطبقات المُستغِلة. ونظرياً فهو شكل الحكم االكفيل بنقض نظام الإنتاج السلعى، العملية التى يكون الحديث بدونها عن الاشتراكية بلا معنى. فالحديث عن تطبيق الإشتركية بالدعوة لتحقيق العدالة والمساواة عن طريق التعايش بين فئات المجتمع المختلفة يعنى التخلى عن مبدأ ضرورة سلطة العمال لانجاز الاشتراكية والوقوع فى إسار الجمود وأحلام الطوبائية. والجدير بالذكر أن مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا بلوره ماركس من دراسته لكمونة باريس (التى هب فيها العمال الباريسيون وانتزعوا السلطة من البرجوازية لفترة قصيرة) وذلك بالتفسير العلمى لتجربتها ورفعها لمستوى النظرية.
إن الديمقرطية الليبرالية المطبقة فى الدول الغربية وبعض الدول الأخرى حالياً مثلت تطوراً كبيراً على الانظمة الديمقراطية الكلاسيكية؛ فالانظمة الحديثة لا تقوم على معيارية فارغة اساسها الفكرة البسيطة الخاصة بالطبيعة البشرية، بل على مؤسسات تحكمها إجراءات معقدة. وظهورهذه المؤسسات الديمقراطية الحديثة يعكس تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وتعقيداتها منذ اوائل القرن العشرين؛ كذلك لعبت الممارسة التجريبية الطويلة دوراً فى جعل الديمقراطية أكثر عملياتيه (operational). ولكن الديمقراطية الليبرالية قى شكلها ومحتواها الحديث ما هى الا امتداد للنسخة التقليدية إذ أن كليهما يستمدان وجودهما من النظام الراسمالى الذى يستمد ضرورة بقائه من التناقض بين رأس المال والعمل الماجور. ورغم أن الديمقراطية الحديثة تنزع الى تصوير وتأكيد أن المساواة راسخة فى مؤسسات الدولة بخلاف التقليد الديمقراطى القديم الذى اعتمد الترويج للمساواة بإعتبارها مبدأً أخلاقياً ضرورياً لنهضة المجتمع، الا أنها تظل مفهوماً مجرداً لا معنى للحديث عنه فى ظل تناقضات الرأسمالية المتأصلة فيها. فتلك التناقضات لا يمكن محوها بحلم التعايش بينها. وهكذا فى ثوبها الجديد، تتواءم نظرة النظام الديمقراطى المعاصر مع تعريف ابراهام لينكولن فى القرن التاسع عشر للديمقراطية بأنها ” حكم الشعب، بواسطة الشعب ، من أجل الشعب.“ فحين أنه لا يوجد احد ينكر بلاغة وصف ابراهام لينكولن التى أعطت معنى شاملاً للديمقراطية، الا أن المشكلة تكمن فى أن مفهوم الشعب المجرد فى تعريف الزعيم الامريكى يعود بنا لفكرة الديمقراطية كمرادف حصرى لاستبداد يقع خارج العلاقات الاقتصادية-الإجتماعية الواقعية.
|
|
|
|
|
|