|
حوار مع دكتور منصور خالد لست شماليا متعصبا ولكني مسلم عربي-الحلقة الثانية
|
الحلقة الثانية حوار مع دكتور منصور خالد : لست شماليا متعصبا ولكني مسلم عربي محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه (جنوب السودان في المخلية العربية)(1) سقى الصديق د. منصور خالد عروبتي "كدراً وطيناً" حين أغرقها في مستنقع (المغايرة) مع ثقافات الجنوب وتمييزي بين طروحات دكتور جسون قرنق وواقع (الدينكا) آخذاً عليّ تأثري بالمدرسة "الأنثروبولوجية" التي تفضي للتعامل مع ثقافات القبائل والشعودب دون مستوى الحضارة الأوربية الغربية بمنطق تجاوزته النظريات الحديثة في الثقافة، ومشيراً بالذات إلى العالم الأنثروبولوجي الإنجليزي (إيفانز برتشارد) الذي ألف كثيراً حول قبائل جنوب السودان(2)
عليّ أن أشرح مجدداً فهمي لعروبتي وقوميتي خارج منطق (المغايرة) و(التركز على الأنا) و(الاستحواذ العصبوي) و(التميز) وكافة هذه المعاني العصابية والاستلابية. ففهمي لعروبتي وقوميتي (مغاير) لا للآخر غير العربي ولكنه مغاير للفهم القومي العربي السائد أيديولوجياً Ideological وليس معرفياً Epistemological. فرؤيتي للعروبة لا تنتمي لهذه التصورية النمطية، بل (تتجاوزها) بعد (استيعابها) باتجاه (إنساني عالمي). إذ أن عروبتي ليست فقط جماع لسان وتاريخ وحضارة ووحدة أرض تمتد ما بين المحيط والخليج. وإنما هي (أيضاً) جماع حضارات وثقافات وأعراق منذ أن استوت العروبة بالدفع الإسلامي وعبر أربعة عشر قرناً لترث بالتفاعل والتدامج (حوض الحضارات التاريخية) منطلقة من (مكامنها) الجنوبية الأولى في (سبأ) و(معين) و(حمير) و(قتبان) و(حضرموت) و(أوسان) ومكامنها الشمالية الأولى من (الثمودية) و(التدمرية) و(النبطية) لتضم في أحشائها (السومرية) و(الآكادية) و(البابلية) و(الآشورية) و(الكلدانية) و(الكنعانية) و(الآرامية) و(الأدومية) وكذلك (الفرعونية) و(القرطاجية)(3) ثم إن عروبتي وريثة للكوشية، منذ حضارة (كرمة) وإلى (نبته) و(مروي) ولإسقاطات الممالك المسيحية الثلاث (نوباتيا) و(المقرة) و(علوة)(4) وامتداداً إلى (أكسوم). فالإفريقية في (داخلي) لأنها بعد مكوّن لتكويني فلا (مغايرة) معها، ولا (استعلاء) عليها، بل أني قد بدأت كتابي (السودان) بمقارنة بين قصيدة (محمد المهدي المجذوب) في مستوجدته مع (المولد النبوي) بمستوجدة الشاعر الإفريقي الغاني (فرنسيس أرنست باركس). فكلاهما مُسْتّوْحِدٌ لِمسْتحوِذٍ عليهما بروحانية صوفية إفريقية هي (السودانية) بعينها. وتماماً كاستحواذ (الثلاثية الماجدية) على حوارها صديقي العزيز الدكتور منصور خالد (عبدالماجد). فعروبتي (جماع) حضارات وثقافات وأعراق، تتجاوز بحكم تكوينها، كل شوفينية أو عصبوية أو مغايرة سطحية ذاتية، إلا أن يغاير الكل بعضه، ولكني ميّزت في معرض التصنيف العلمي بين (الحضارة الممتدة) و(الثقافة المحلية) التي لا تتجاوز حدود القبلية وتجربتها المحدودة بمحيطها دون أن يستبطن هذا التمييز تلك الاستعلائية الغربية. ثم أن توزيع الحضارات – التي تُقابل بحضارات من مثلها في العالم – قد بات معروفا، فهناك الحضارة الغربية التي تمتد بجذورها إلى الهيلينية ( مع فارق التفكير الفلسفي) وإلى الرومانية والمسيحية، إضافة إلى ما بين سبع أو ثمانية حضارات أخرى، منها الإسلامية والبوذية والكنفوشيوسية واليابانية والهندية والسلافية الأرثودوكسية(5) وقد حدد المؤرخ (أرنولد توينبي ) في مجلداته Study of History إحدى وعشرين حضارة رئيسية في مجرى التاريخ لا يوجد منها في عالمنا المعاصر إلا ست. وهي التي أتينا على ذكرها. وبجانب موسوعة (آرنولد توينبي)(6) هناك موسوعة (قصة الحضارة) التي كتبها (ول وايرل ديورانت)(7) ، وكلاهما يؤكدان ما ذهبنا إليه ويكفي تطبيق نظرية (التحدي والاستجابة) في نشوء الحضارة على ثقافات الجنوب القبلية المحلية ليتضح لدكتور منصور كيفية تمييزنا بين هذه الحالات دون استعلاء. ويهتم الباحثون الآن بدراسة (العلاقة) بين هذه الحضارة ضمن متغيرات الاستراتيجيات الدولية فيما يكثر الحديث عن (صدامها) أو (حواراتها)، كما يتم التمييز بين (الحضارة) و(الثقافة) و(المدنية) وذلك على مستوى التجارب المتقدمة وما تبقى من الحضارات الإحدى والعشرين التي كتب عنها (توينبي). ولم تتطرق كافة هذه المناقشات في إطار الثقافة لما هو (محلي) لأنه ليس (مقارنة متكافئة) ليس بمعنى (الدونية) ولكن بمعنى التخصيص. إن الشمال نفسه لا تنطبق عليه كما ذكرت لا مواصفات (الحضارة) ولا مواصفات (الأحادية العروبية). وقد شرحت ذلك في محاضرة لي (بدار الثقافة) في الخرطوم – (19 أغسطس /أب 2001).
فقبائل الشمال (مختلطة الأعراق) بحيث تندرج في مفهوم (السودانية – بحكم الاختلاط) بأكثر من مفهوم (العروبية القحة)، بل أن هذه العروبة نفسها كما شرحت هي صيغة (جامعة) لمختلف الثقافات والحضارات والأعراق. ثم أن الحالة الشمالية، وإن انتسبت لمصر شمالاً أو ما بين المحيط والخليج، لا تنطبق عليها (مواصفات الحضارة) إلا (نسبيا)، فعروبة السودان قد اكتسبت في مرحلة (عصر الانحدار) الذي فَصّله الدكتور (محمد أسعد طلس)8 فسلطنة سنار الصاعدة في (1505م) تزامنت مع نضوب أنفاس الحضارة العربية في الأندلس (1492م) ومع صعود (العسكرية) التركية بفتحها للقسطنطينية (1453م)، أما الجارة الأقرب والتي تمتد إليها وشائجنا (الحضارية) فقد كانت تعيش في ظل الحكم المظلم للمماليك الشراكسة (1382 – 1517م)، ومن قبل ذلك في ظل المماليك البحرية (1250 – 1389م) وما أدراك ما حكم المماليك بحرية كانوا أو شراكسة!. فالحضارة العربية تحولت في السودان إلى (ثقافات قبلية) ذات (طابع شفهي) أثرت سلباً في تكوين المثقف السوداني نفسه ولهذا (أدمن الفشل) – إشارة إلى كتاب د. منصور نفسه (النخبة السودانية وإدمان الفشل). فحين أتحدث عن الفارق بين ما هو للحضارة وبين ما هو للثقافات التي يطلق عليها (توينبي) تعبير (متعطلة)، فإني لا أعني حالة حضارية عربية متوثبة ومعطاءة في شمال السودان، وإنما أعني (الفارق النسبي، بمعزل عن أي (استعلاء). فالشمال السوداني يتقمص حالته الحضارية العربية، (بالإنابة) وليس (بالأصالة)، فهو ليس طرفاً مشاركاً أو متجذراً على أساس (حضاري) – وليس (تاريخي) – من موروث (الأندلس) أو (الأمويين) أو(العباسيين)، وليس لديه ما كان لغيره في (الزيتونة) و(الأزهر) مثلاً. ولا أريد أن يتهمني صديقي د. منصور خالد هنا بالتقليل من المستوى الحضاري لأهلي في الشمال، كما اتهمني بالتقليل من قيمة الثقافات الجنوبية، وإنما أردت فقط التأكيد لدكتور منصور ولغيره من المفكرين والمثقفين السودانيين ضرورة استخدام المعايير العملية في التحليل دون تميز ذاتي. ثم أني حين طرحت الفارق بين تفكير الدكتور جون قرنق (الوحدوي العلماني الديمقراطي) وسودانه (الجديد) من جهة والقاعدة القبلية التي يستند إليها فليس مقصدي كما هو واضح – من (كلية الطرح) وليس تجزئته – أن أصادر حق دكتور قرنق في تفكيره (النخبوي) قياساً إلى أوضاعه القبلية، فكلنا نفكر كنخبة ولا نجسد تفكير من ننتمي إليهم عشائرياً، فمفهومي الذي طرحته عن (قوميتي العربية) لا يجسد مفاهيم (الرباطاب) وهم عشيرتي الذين ساءلني دكتور منصور عن علاقة فكري بهم ليماهي ذلك بعلاقة فكر قرنق بالدينكا، أو علاقة فكر (الصحوة) لدى السيد (الصادق المهدي) بالأنصار، أو علاقة فكر سكرتير الحزب الشيوعي (رد الله غربته) محمد إبراهيم نقد بأهل (القطينة) أو علاقة طرح الأخ (ابراهيم دريج) حول الفدرالية بمملكة (الكيرا) في غرب السودان (كتاب د. منصور – ص 264). وفات على صديقي الدكتور منصور أني لم أتخذ من عشيرتي (الرباطاب) قاعدة وأداة تنفيذية، لا سياسياً ولا عسكرياً لتحقيق برنامجي، وكذلك لم يتخذ الأخ (نقد) من أهل القطينة قاعدة له، ولا حتى السيد الصادق المهدي، فخطاب (الصحوة) للصادق هو خطاب فكري يتجاوز الأنصار. أما الدكتور قرنق فإنه قد اتخذ من (الدينكا) قاعدة لبرنامجه تحت مسمى (الحركة الشعبية لتحرير السودان) ولم يستطع أن يمتد بخطابه هذا حتى للنخب من أبناء القبائل الأخرى الذين انشقوا عنه منذ اجتماعاتهم في (الناصر) عام 1991 ثم تعرض بعضهم للاغتيالات في حروب جانبية( (فصموئيل قاي توت) قتل في 13 مارس /آذار 1984 على أيدي قوات الحركة الشعبية بالقرب من أدوره، و(أكوت أتيم دي مايان) أغتيل من قبل رجال أمن وليم شول دينق في فنجاك أواخر 1985، والأخير اغتيل من قبل قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان في 5 يوليو 1996 في فنجاك. جوزيف أدوهو قتل على أيدي قوات الحركة الشعبية في 27 مارس 1993 في كنقور ومارتن ماجير قاي، كاتب مسودة (بيان) الحركة الشعبية، قتل في سجنه من قبل قوات الحركة الشعبية عام 1993 في الاستوائية، ووليم نيون يانغ اغتيل وهو يحارب قوات حركة استقلال جنوب السودان في 15 يناير 1996 بالقرب من أيود، أما طون أروك طون فمات على أثر سقوط طائرة حكومية في مدينة الناصر في 12 فبراير 1998. ولم يبق على قيد الحياة من مؤسسي الحركة الشعبية لتحرير السودان سوى العقيد جون قرنق والكوماندور سلفا كير ميارديت. أما الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول والقيادات الأخرى فقد التحقوا بالحركة بعد تِأسيسها بعدة أشهر) – (جون قاي ص17). "ولعل القارئ يتذكر جيداً (حروب الفصائل الجنوبية) بين (مجموعة الناصر) بقيادة رياك مشار ولام أكول و(مجموعة توريت) بقيادة جون قرنق بين عامي 1991 – 1994 التي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 100 ألف شخص. وربما يتذكر أيضاً الصراع الذي دار داخل (الحركة الشعبية لتحرير السودان – المتحدة) بين قوات موالية لرياك مشار وقوات وليم نيون يانغ وجون لوك جوك بين عامي 1995 – 1996 التي انتهت بمقتل وليم نون بانج أوائل عام 1996. ثم القتال الشرس الذي دار خلال عامي 1998 و1999 بين مؤيدي مشار وقوات فولينو ماتيب نيال الذي انشق عن حركة استقلال جنوب السودان في سبتمبر 1997 وكوّن مع آخرين (حركة جنوب السودان المتحدة) التي تتلقى الدعم السياسي والعسكري من بعض العناصر المناوئة لتوجهات مشار الانفصالية داخل قيادة القوات المسلحة السودانية وفي أوساط الجبهة القومية الإسلامية – المؤتمر الوطني. كما توسعت رقعة التشرذم للفصائل الجنوبية إلى درجة اصطدام مناصري العقيد قرنق مع مؤيدي الجنرال كاربينو كوانين بول في العاصمة الكينية نيروبي بعد أن اتهم كل منهما الآخر بالتدبير لمحاولة اغتيال خصمه وذلك في 15 – 16 نوفمبر 1998. هذا وقد نقلت طائرة خاصة استأجرتها الحكومة الكينية بول إلى مانكلين بولاية بانتيو بجنوب السودان. واستقبله بولينو ماتيب الذي تربطه به علاقة مصاهرة. وظل كاربينو تحت حماية بولينو حتى اغتياله في ظروف غامضة في 10 سبتمبر 1999 أثر الاشتباكات التي حدثت بين قوات بولينو وتلك التي بإمرة نائبه فيتر قاديت يات الذي انشق عنه)- (جون قاي – ص 40/ 41). إن خطاب السيد الصادق المهدي في (الصحوة) وخطاب (ابراهيم نقد) في (المادية الجدلية) وخطابي القومي العربي وفق مفهومي لجدلية (الغيب والإنسان والطبيعة) وما سبق ان أوردته من مفاهيم، هذه الخطابات إنما توجه للمجتمع السوداني بتركيز على "قواه الاجتماعية الحديثة والمستنيرة" والتي لا تبلغ نسبتها حتى الآن سوى 17% من تعداد المجتمع، وهي مساحة اجتماعية أوسع سبق للدكتور منصور خالد نفسه أن كان في طليعة من صاغوا الخطاب إليها، بداية من البحث الذي قدمه (للملتقى الفكري العربي) الذي عقد في الخرطوم في الفترة ما بين 15 وإلى 23 مارس (آذار)1970(9) وإلى إصداره لكتاب (حوار مع الصفوة)(10) ثم مقالاته النقدية - إن صح التعبير- (إعادة تقييم نظام نميري) بعنوان (لا خير فينا إن لم نقلها)(11). وحين بدأت تخيب آمال دكتور منصور في (الصفوة) عبر ما صدر له من كتابين لاحقين (السودان في النفق المظلم) و(الفجر الكاذب) انتهى يائساً إلى مؤلفه: (النخبة السودانية وإدمان الفشل). كنت أشير على صديقي د. منصور ومنذ نقدي لطرحه في خطابه للصفوة و(المقتصر) على الصفوة، ثم عتابه لها (حيث لم ترتق بمجتمعنا المتخلف إلى مدارج الحضارة الواعدة وبذر بذور الثورة الحضارية وغرس الأخلاقيات العصرية) أن يكتشف (أن دينامية التغيير وحيويته الثورية المبدعة ليست كائنة في تخطيطات الصفوة وإنما في أعماق الحركة التاريخية للمجتمع شرط اكتشاف المنظور الحقيقي لقاعدة الثورة في أوضاع التخلف وصراعية الأصالة والحداثة في إطار جدلي معقد)(12). كنت أحاول دفع د. منصور لربط دور (الصفوة – النخبة) بالقوى الاجتماعية الحديثة كقاعدة للتغيير، ولكنه آثر الانصراف عن ذلك الاتجاه تحت ضغط ما أحسه أو بالأحرى خبره عن (إدمان النخبة الفشل) فعجم كنانته – وهي غالية علينا – وانحاز إلى حركة قرنق والتي لم تخرج عن قاعدتها (الدينكاوية) التي ذكرتها، وكذلك لم تخرج عن ممارستها الفردية.
|
|
|
|
|
|