المتابع لقضية النزاع الحدودي التاريخي بين السودان ومصر حول منطقة مثلث حلايب ينتابه إحساس بأن مصر غير حريصة على التوصل لحل يرضي الطرفين ويحفظ العلاقة الأزلية بين البلدين .. حيث درج الجانب المصري على التعامل مع القضية بتعسف حكومي تنقصه الحكمة وعبث إعلامي تحركه الأطماع الكبيرة في ثروات المنطقة .
تجرد الإعلام المصري في السنوات الأخيرة من مصداقيته ومهنيته وحصافته وإنبرى بعض من يطلق عليهم (خبراء) بتناول القضية وشرح أبعادها بأسلوب أقل ما يمكن أن يوصف به بأنه أسلوب سطحي ومبتذل لا يسنده منطق أو حجة بل محاولة بائسة لتزوير الحقائق وخدمة أجندة الإعلام المنفلت (الناس على إعلام ملوكهم) ... مصر تعي جيدا أن تصعيد الأزمة قد يقود إلى مآلات لا تحمد عقباها وإلى خيارات المستفيد الأول منها هو الدولة العبرية .. فالتفريق بين السودان ومصر أحد أهم الأجندة التي تمهد لمشروع إسرائيل الكبرى (من الفرات إلى النيل) .. رغم كل ماسبق ذكره مصر تراهن على طولة بال الجانب السوداني وسعة صدره .. وعدم رغبته في التصعيد لدواعي كثيرة .. تعامل السودان مع الأزمة بقدر عالي من الحكمة والتريث وبدبلوماسية لا تنقصها المرونة وقوة المنطق رغم إمتلاكه أوراق ضغط من شأنها تغيير قوانين اللعبة وإرباك مخططات الجانب المصري الرامية إلى فرض سياسة الأمر الواقع .
إعتماد مصر على إتفاقية ترسيم الحدود الموقعة في العام (1899 م) بإشراف بريطاني حجة ضعيفة ينسفها تراجع بريطانيا عن الإتفاقية في (1902 م) وإقرارها بتبعية المنطقة للسودان ومنحه حق إدارتها وفرض سيادته عليها لأن كل سكان المنطقة ينتمون لقبائل سودانية عدا قبيلة العبابدة التي لديها إمتداد داخل الحدود المصرية .. وهنا يجب الإشارة إلى نقطة مهمة فقد درج المستعمر البريطاني على فعل شيطاني بوضعه بذرة خلاف تؤتي أكلها لاحقا في كل المناطق التي إحتلها حيث يتعمد إقتطاع جزء من دولة وإلحاقها بدولة تشاركها الحدود لتصبح بعد رحيله قنابل قابلة للإنفجار .. أدرجت حلايب كدائرة جغرافية إنتخابية في كل الإنتخابات التي أجريت منذ الإستقلال حتى توغل القوات المصرية داخل حدودها في العام (1995م ) مستغلة إنشغال السودان وقتها وخوضه حروبا في الجنوب والأطراف .
مارس السودان سياسة النفس الطويل طوال مراحل النزاع التاريخي ليس خوفا من المواجهة العسكرية بل لإداركه أن الحل العسكري لن يكون في صالح الطرفين .. بينما ظل الجانب المصري متمترسا عند رأيه رافضا كل الحلول المقترحة بما فيها تنازل السودان عن جزء من حقه بجعل حلاليب منطقة تكامل بين البلدين .. كذلك رفض الجانب المصري الإحتكام للقانون الدولي لضعف حجته ولعلمه بأن النتيجة لن تكون في صالحه بأي حال من الأحوال لاسيما بعد معرفته بأن كل الخرط الرسمية للأمم المتحدة تثبت تبعية المنطقة للسودان .
كما ذكرت سابقا أن المستفيد الأول من حالة الإحتقان والتوتر في العلاقات السودانية المصرية هي الدولة العبرية والتي ظلت تراقب عن كثب تطورات الأحداث في المنطقة في إنتظار المآلات والتي ترجو أن تصب في خدمة مشروع التقسيم وإعادة التشكيل المرسوم لشرق أوسط جديد تسهل قيادته وتطويعه بالتالي إبتلاعه .. وللأسف الشديد الجانب المصري يدعم ذلك الخط بوعي منه أو بدون وعي بتعسفه وإستيلاءه على المنطقة بوضع اليد ورفضه اللجوء للقانون .. باءت كل محاولات الجانب المصري في طمس هوية سكان المنطقة والسعي لدمجهم في الدولة المصرية بالفشل الذريع رغم الإغراءات الكبيرة والدعم اللا محدود الذي قدم لهم على حساب المواطن المصري .. تهميش الحكومات السودانية المتعاقبة للمنطقة من حيث الخدمات والبنية التحتية لم يمنعهم من الإنحياز بقلوبهم وفطرتهم لأرض الأجداد .. ويكفي شاهدا على ذلك وفاة ناظر عموم البشاريين داخل السجون المصرية لرفضه الشديد دخول القوات المصرية للمنطقة .. تخسر مصر إن راهنت على كسب الوقت وتمصيير البشاريين .
مؤخرا سعت مصر لضم حلايب المتنازع عليها لمحافظة اسوان وهي أصلا تتبع لمحافظة البحر الأحمر حسب التقسيم الجغرافي والإداري المصري .. حيث قوبل القرار برفض شديد من قبل سكان حلايب أجبر أصحاب القرار على التراجع عنه .. في رأيي أن الهدف من وراء تلك الخطوة هو محاولة أخرى فاشلة لتذويب سكان المنطقة المحتلة في الدولة المصرية إعتمادا على التشابه الكبير بين البيئة الأسوانية والبيئة السودانية من حيث السحنات والملبس والعادات .
السؤال الذي يفرض نفسه : هل سيستمر الوضع على ما هو عليه الآن وإلى متى ؟؟ .. بالطبع لا .. فدوام الحال من المحال التقلبات السياسية والمتغيرات الدولية ستحتم على مصر الخضوع للأمر الواقع أما بالإحتكام للقانون الدولي أو بالتوصل إلى تسوية مع الجانب السوداني تحفظ العلاقة الأزلية بين الشعبين وتؤسس لتكامل فعلي وحقيقي بين الدولتين .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة