|
حلايب ... ما أشبه الليلة بالبارحة جمال عنقرة
|
؟..!
الأزمة التي أطلت برأسها في سماء البلدين الشقيقين ــ السودان ومصر ـــ الأيام الماضية بما أثير حول قضية منطقة حلايب المتنازع حولها، تشبه إلى حد كبير الأزمة التي حدثت في عام 1958م، حول ذات موضوع حلايب بين السودان ومصر، على الأقل في التوقيت. فالأزمة الأولى تزامنت مع الانتخابات المصرية، وهذه تأتي متزامنة مع الاستفتاء على الدستور المصري الجديد، ولمزيد من تقريب الفكرة، دعونا نقرأ معاً قصة الأزمة القديمة. وفي مطلع العام 1958م بدأت تلوح في الأفق بوادر أزمة بين السودان ومصر حينما طلبت الحكومة المصرية من السودان تسليمها منطقة حلايب وما حولها، والمنطقة الواقعة شمال خط عرض 22 لتضمينها في الدوائر الانتخابية لمشاركتها في الانتخابات المصرية المزمعة، فأجابهم رئيس الوزراء السوداني السيد عبدالله خليل، بأن الحدود الحالية المبينة في الخرطوم والمعروفة للجميع هي الحدود التي أخذنا استقلالنا بموجبها، وأن تلك الحدود قائمة منذ ستين عاماً دون أن ينازعنا بشأنها أحد. وقد جرت الانتخابات المصرية حتى الأخيرة منها، والاستفتاء حول شخص رئيس الجمهورية على أساس استثناء تلك المناطق باعتبارها أراضٍ سودانية، كما أُجريت انتخابات السودان الماضية بما في ذلك انتخابات الحكم الذاتي التي تمت بموجب الاتفاقية المصرية البريطانية المبرمة في فبراير 1953م، وتحت إشراف لجنة دولية كانت مصر ممثلة فيها على أساس أن المناطق المذكورة سودانية أيضاً، واشترك أهلها في انتخاب نواب البرلمان السوداني.. ثم أنه عندما نال السودان استقلاله، كانت أولى التحفظات التي أبداها لدولتي الحكم الثنائي أنه لن يكون ملزماً بأية معاهدات أو اتفاقات أُبرمت نيابة عنه قبل الاستقلال ما لم تعرض عليه تلك المعاهدات والاتفاقات ويقرها، وذلك في بيان السيد رئيس الوزراء السابق الذي ألقاه بالبرلمان السوداني أول يناير 1956م. فلو كان لحكومة جمهورية مصر وجهة نظر خاصة بالحدود، لسارعت بتقديمها،أما قبل الاستقلال أو عند تسلمها الكتاب الذي بعث به السيد رئيس الوزراء السابق في الثالث من يناير 1956م إلى الرئيس جمال عبدالناصر. وذكر عبدالله خليل في رده أن الوقت المتبقي لإقامة الانتخابات المصرية غير كافٍ لحسم موضوع مثل هذا، واقترح إرجاء مناقشته إلى ما بعد الانتخابات حرصاً على العلاقة الوديّة بين البلدين. وبعد ثلاثة أيام فقط، وتحديداً في16/2/ 1958م، أبلغت الخارجية المصرية السفير السوداني في القاهرة أن الحكومة المصرية قد أرسلت لجان انتخابات ومعها حرس من سلاح الحدود إلى تلك المناطق لإجراء الاستفتاء. وفي اليوم التالي الموافق 17/2/1958م، عقد مجلس الوزراء السوداني اجتماعاً لمناقشة هذا الموضوع، وخلص إلى بعض الحقائق: 1- إن مطالبة مصر بهذه المناطق وفي هذا الوقت، تأتي بعد أن تأكدت أن السودان سيطالب بتعويض عن غمر منطقة شمال حلفا بمياه السد العالي. 2- إن المذكرة المصرية وضعت السودان أمام الأمر الواقع، ولم تمنحه الوقت الكافي للمشاورة أو المفاوضة. 3- إن التبليغ الشفوي بإرسال لجان الانتخابات وبرفقتها حرس الحدود إلى هذه المناطق، يؤكد الإصرار المصري على فرض الأمر الواقع. 4- وإزاء ذلك الموقف، رأى مجلس الوزراء أن يتخذ الإجراءات التي تصون سيادة السودان على أراضيه، والمحافظة على استقلاله، ولكنه في نفس الوقت يترك مجالاً للتفاهم الودي بين القطرين العربيين، ويقرر اتخاذ الخطوات التالية: أ- أن يتصل رئيس الوزراء السوداني بالرئيس المصري جمال عبدالناصر هاتفياً، ويرجوه أن توقف مصر الإجراءات التي اتخذتها في المنطقة، مع التأكيد على استعداد السودان للدخول في مفاوضات مع مصر بشأن هذه المناطق. ب- أن تتصل الحكومة بالمعارضة وتبلغها الموقف. ج- إبلاغ الجامعة العربية بالموقف، وكذلك ممثلي الدول العربية بالسودان والرأي العام السوداني. تجاوب الحزب الوطني الاتحادي المعارض بزعامة السيد (إسماعيل الأزهري) مع الموقف، وأصدر بياناً أعلن فيه أنه لن يسمح بالتخلي عن شبر واحد من أرض الوطن، ولا يطمع في التغوُّل في شبر واحد من أرض الغير، مع حرصه أن تحل هذه المشكلات عن طريق التفاوض، مع التأكيد على أن الوقت لم يكن مناسباً لإثارة هذا الموضوع من جانب مصر. وأعلن تأييده للخطوات التي اتخذتها الحكومة السودانية في طلبها بإرجاء هذا الموضوع إلى ما بعد الانتخابات؛ ليحل بالطرق السلمية. وناشد الحزب الوطني الاتحادي الرئيس المصري جمال عبدالناصر لسحب الجنود المصريين فوراً حفاظاً على وحدة الشعور والروابط المقدسة العديدة التي تربط بين الشعبين، وأصدر حزب الشعب الديمقراطي الذي يرعاه مولانا السيد علي الميرغني مرشد الختمية بياناً أيضاً أعلن فيه تمسكه بالأراضي السودانية وعدم تفريطه في أية بقعة منها، وجاء في بيان حزب الشعب الديمقراطي، إذا كانت لمصر دعوى في هذا الجزء الذي ظلّت حكومة السودان تُديره أكثر من نصف قرن من الزمان، فالمنطق السليم يقضي بأن تطلب مصر من جمهورية السودان الدخول في مفاوضات؛ ليكون القانون والعُرف الدولي هو الفصل. وأصدر حزب الأمة بياناً أعلن فيه تأييده لموقف الحكومة واقترح تضامن الأحزاب ودعوتها لاجتماع من أجل بحث الموقف والخروج بموقف وطني واحد. أرسلت الحكومة وزير الخارجية«محمد أحمد محجوب» للقاهرة في محاولة لامتصاص التوتر، والوصول إلى حل مرضٍ مع الرئيس«جمال عبدالناصر»، وكانت مصر قد أرسلت قواتها إلى المناطق المتنازع عليها، فتمسكت بموقفها، وفشلت مساعي المحجوب في القاهرة، فتقدم السودان بشكوى لمجلس الأمن. بعث السيد (علي الميرغني) مرشد الختمية وراعي حزب الشعب الديمقراطي، والسيد(إسماعيل الأزهري) رئيس الحزب الوطني الاتحادي كلاً على حده، برسائل إلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر يدعوانه فيها إلى قفل الطريق أمام المغرضين وأصحاب النزعات الاستعمارية الذين يريدون الوقيعة بين البلدين، وطالباه بالسعي لإيجاد حل سلمي ودّي للمشكلة. تعامل الرئيس «جمال عبدالناصر» بحكمة شديدة مع الموضوع، ولم يستجب للذين كانوا يريدون جر مصر إلى صدام مع السودان، ومما رُوى عنه في تلك الأزمة، أن أحد هؤلاء جاء يؤلِّبه ضد السودان بالقول:«بأن السودانيين يحتلون أراضٍ مصرية شمال خط عرض22 شمال»، فردَّ عليه:«إن شاء الله يحتلوا قصر عابدين، مش حنحارب السودان»!. وأرجأت مصر تسوية موضوع الحدود بين البلدين إلى ما بعد الانتخابات السودانية، لتبدأ المفاوضات بعد اختيار الوزارة الجديدة، وجاء في البيان المصري«أن مصر التي تضامنت مع السودان في سبيل الحرية والاستقلال، إذ تتخذ هذا القرار إنما تهدف إلى قطع خط الرجعة على المغرضين الذين استغلوا الفرصة لإفساد العلاقات الخالدة بين الشعبين الشقيقين، كما أن مصر لن تستجيب للاستفزازات التي حاولت أن تصوِّر الوضع بشكل تدخُّل مسلح، أو بشكل غزو للأراضي السودانية، في الوقت الذي لا توجد لها على الحدود الجنوبية إلا دوريّات الحدود المعروفة.. وأن الحكومة المصرية لتعلن مرة أخرى أن القوات المسلحة المصرية لم تُنشأ لغزو السودان، ولكنها دائماً سند للسودان ضد العدو». فكما تابعنا القصة القديمة، فإن الزعماء والقادة في السودان ومصر كان لهم دور كبير، في امتصاص الأزمة الأولى، ونزع فتيل القنبلة قبل أن يشتعل، وكان للزعماء والقادة في ذاك الزمان كلمتهم، وكانت رؤيتهم واضحة، وبرغم اختلاف المواقف بين الحزبين السودانيين، بين وحدويين واستقلاليين، لكنهم كانوا جميعاً فوق الصغائر، وكانوا يعلون من شأن القضايا الوطنية والقومية، على المسائل الحزبية. لذلك توحَّد الموقف السوداني، وخلا من أية مزايدات، وكانت رؤية الرئيس المصري الزعيم جمال عبد الناصر، واسعة وبعيدة، وكان له القدح المعلى في إطفاء نار الأزمة. لا أود أن أقلل من قامات قادة اليوم هنا وهناك، ولكن الوضع مختلف تماماً. فالإعلام لم يعد هو ذات الإعلام، وصار الجميع مكبلاً بقيود وأغلال شتى، وتأتي الأزمة هذه المرة والأجواء متوترة بين القاهرة والخرطوم، وإن لم يصرِّح مسؤول بذلك، فالموقف من سد النهضة الإثيوبي يُثير بعض الظلال والأتربة والغيوم في سماء العلاقات السودانية المصرية، وكذلك الموقف من حكومة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي، فعلى الرغم من إعلان الحكومة السودانية، أن ما جرى في مصر شأن داخلي، إلا أن موقف بعض الجهات الشعبية المحسوبة على الحكومة السودانية، صنع أيضاً بعض الظلال، وكان للإعلام ــ لا سيما الإلكتروني ـــ دور كبير في تأجيج نيران الخلاف. وعلى المستوى الشخصي، أراه طبيعياً ألا يقول أي سوداني بمصرية حلايب، وألا يقول مصري بسودانية حلايب، وبالتالي لم أنزعج من قول بعض المصريين بمصرية حلايب، ولا ينبغي للمصريين الانزعاج من قول السودانيين بسودانية حلايب. فالقضية معلقة، وتحتاج إلى حسم، وكل المطلوب أن تكون التسوية في إطار الإخاء التاريخي والمصالح المشتركة بين البلدين والشعبين الشقيقين، وبدون تشنج أو انفعال، وهذا ما يجب أن نسعى له، كما فعل السابقون، وليتهم واصلوا بحث الأزمة بعد أن تجاوزت إطارها الزماني، ولو فعلنا ذلك بعد الفراغ من الاستفتاء على الدستور المصري، وقبل الانتخابات السودانية القادمة في العام 2015م يكون ذلك أفضل.
|
|
|
|
|
|