|
حسني مبارك لم يحاكم على الجرائم الكبرى بقلم محمود محمد ياسين
|
جاء قرار تبرئة رئيس مصر الاسبق محمد حسني مبارك من بعض التهم الجنائية منسجما مع تصميم إنقلاب 3 يوليو 2013 العسكرى لتوطيد النظام السياسى المصرى الذى إنتفضت ضده ثورة ياناير 2011 وتعزيز قبضة الجيش على زمام الأمور. فالثابت أن ثورة ياناير أُسقطت يوم تسليم مبارك الحكم للمؤسسه العسكريه واصبحت آمالها وأهدافها أثراً بعد عين إثر انقلاب 3 يوليو. فالسيطرة الكاملة للجيش حققها دستور 2014 الذى أعطى القيادة العسكرية وضعاًً مميزاً فيما يتعلق بالاستقلالية المالية والتنظيمية والقضائية، ففى هذا الخصوص فإن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة ولكن لا يُعيَّن وزير الدفاع الا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ كما أن القضاء العسكرى له سلطات واسعة تمكنه من إخضاع المدنيين لسلطته. وكذلك فإن إستقلالية القوات المسلحة وإحتكارها للقوة العسكرية تجعلها فى قلب السلطة السياسية التنفيذية وتشكل جوهرها.
وشملت التهم التى حوكم بموجبها مبارك ورجاله القتل والفساد المالى (تصدير الغاز لللدولة الصهيونية بأسعار زهيدة والتربح من الإتجار فى ديون مصر الخارجية والخصخصة) والاستيلاء على اراضى مملوكة بشتى الاساليب والحيل.
وقرار القضاء بتبرئة مبارك ونجليه ووزرائه ومساعديه تقف وراءه إحترافيه سياسية شديدة لقوى متمرسة في الإجرام وإرهاب الشعب. وهى قوى النظام القديم التى دبرت الإنقلاب العسكرى ووضعت على رأسه"التحفة" عبد الفتاح السيسى، وهى التى جعلت نفس القضاء يحكم، بطريقة انتقائية، على 529 شخص فى مارس 2013 بالإعدام فى جلسة "صورية" واحدة بتهمة قتيل واحد ) وعلى 188 بالاعدام فى ديسمبر الحالى بعد تبرئة مبارك بأيام بتهمة إغتيال 11 شرطياً.( وهكذا فإن حكم البراءة تولد من إستمرارية النظام القديم ولم يكن قرار المنظمومة القضائية الفاسدة بتبرئة مبارك مفاجئا ولم يأت إعتباطاً وإنما جاء لأسباب محسوبة؛ فمن الناحية الإقتصادية فالبراءة تجعل إسترداد الاموال المهربة (تقدر بحوالى 220 مليار دولار)، التى نهبها مبارك وسدنة حكمه، مسألة صعبة التحقيق. أما من الناحية السياسية فإن قيادات النظام القديم الخارجة من السجون لها المقدرة فى تحريك الوضع السياسى لصالح النظام القديم. فبحكم هيمنتها الإقتصادية وإحتكارها للعمل السياسى خلال سنوات حكم مبارك وخاصة سيطرتها على عمليات انتخابات الجهاز التشريعى بتحديد توزيع المقاعد، فهذه القيادات تلم إلماماً دقيقاً بمعالم ودهاليز خريطة مكونات القوى الاجتماعية المختلفة وهذا يؤهلها لهندسة تنظيم سياسى يهيمن على الساحة ويحمى استمرارية النظام القديم، فحتى الآن ما زال الإنقلاب بلا حزب سلطوى يعمل على إستمالة الجماهير. كما انه ليس مستبعداً أن تلجاً قوى النظام القديم الى تغير حكم السيسى تغييرا جذرياً إن إقتضى الامر.
ولكن إذا نظرنا للصورة الكلية، فنجد أن سلطة قادة جيش مبارك- التى اعادت إنتاج النظام القديم تحت سمع وبصر قيادات الشعب المنتفض بعد تسلمها الحكم فى ياناير 2011 - حصرت قضايا مبارك ومعاونيه كحالات جنائية مع إغفال الجرائم السياسية الأكثر خطورة. فاذا تمعنا فى الامور فإن جرائم نظام مبارك السياسية هى الخطيئة الاكبر التى تتفرع منها الخطايا الاخرى مثل الجرائم الجنائية التى تحدثنا عنها أعلاه. فعلى الصعيد السياسى فإن نظام مبارك رسخ وضع الدولة المصرية كدولة لا تمتلك قرارها وتعتمد على الدول الكبرى فى إقتصادها وتأمين سلطتها. ولهذا سيطرت طبقة راسمالية كمبرادورية على الإقتصاد الوطنى؛ ويمثل كبار قادة الجيش، الذى يسيطر على ثلث الاقتصاد، أحد أضلعها. وهذه الطبقة مكنها إرتباط نشاطها بالاحتكارات الرأسمالية العالمية من إكتساب نفوذ سياسى واسع أعاق تقدم البلاد نتيجةً لرهن مقدراتها للدول الكبرى التى تتناقض طبيعة إستثماراتها الراسمالية مع مصالح عامة الشعب. وللإحتراز من الحراك الشعبى ضد هذا الوضع حُرم العمل النقابى من الاستقلالية وأُخضع العمال لقوانين عمالية جائرة؛ وصارت الدولة آلة للقمع الهائل تسلب الناس مصادر معاشهم وتمارس التنصت الذى يحصي عليهم أنفاسهم وعندما تفشل وعودها الكاذبة، التى تهدف لتحقيق التعايش بين مكونات المجتمع، ويحتج الناس تفتك بهم بدم بارد.
إخفاق دولة مبارك سياسى وجرمه الاعظم هو الإستهانة بالمصالح الوطنية ومقايضتها بإهدار الإستقلال الوطنى وتحويل البلاد لمرتع لنشاطات الاحتكارات العالمية وأذيالها المحلية التى لاهم لها سوى الربح وتجريف أموال المصريين للخارج. وكان ثمن هذه التبعية دولة ناقصة السيادة مثقلة بالديون الداخلية والخارجية وشعب يعيش نصفه تحت خط الفقر.
|
|
|
|
|
|