دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
جنوب كردفان: القوميات العربية عبر الزمان والمكان (2)
|
جنوب كردفان: القوميات العربية عبر الزمان والمكان(2) وتداعيات الحرب الأهلية
المقال الثانى القبائل العربية فى جنوب كردفان: ماضيها وحاضرها وتوزيعها الديموغرافى
بريمة محمد أدم/ واشنطن
[email protected]
خلاصة: 1. في المقال السابق تحت عنوان (جنوب كردفان: القوميات العربية عبر الزمان والمكان)، كتبت تقديم لبيئة جنوب كردفان حتي يكون القارئ ملم بأحوال المنطقة البيئية التى تعيش وسطها القبائل العربية. 2. في هذا المقال وإكمالاً للخلفية سوف أتحدث عن الخلفية التأريخية للقبائل العربية، ماضيها وحاضرها، توزيعها الجغرافي في المنطقة، وملامح من تراثها. 3. وفي المقال القادم سوف أخوض في الحرب الأهلية في جنوب كردفان (حروب تصفية القبائل العربية)، وأتحدث عن دور منطمات أبناء النوبة السرية العنصرية، وتنظماتهم الجماهرية في إثارة الحروب الأهلية، ودور حزب الأمة والجبهة القومية كلاعبين أساسيين من أطراف النزاع.
1. خلفية تأريخية
جنوب كردفان وطن متعدد الأجناس،الأعراق، الثقافات والديانات. إن التعددية في أيّ مجتمع سواء كان إنسانى، حيواني أو نباتي، تعتبر أهم مصادرقوته وحيويته ومقدرته على التغيير والتشكل والتكيف مع متغيرات البيئة وظروف الحياة ومقدرتة على الأبداع والإختراع والنمو والتطور. توجد عدة قبائل تمثل بصورة عامة جميع قبائل السودان المختلفة بالأضافة إلي القبائل المستوطنة في المنطقة. أهم القبائل المستوطنة النوبة وعرب البقارة 23% (راحع محمد سليمان محمد: كتاب السودان حروب الموارد والهوية هواشى ص252) التى نحن بصدد دراستها. تعتبر قبائل البقارة ثانى أكبر المجموعات العرقية بعد النوبة وهي قبائل رعوية تجوب السهول الواقعة بين أواسط وجنوب شمال كردفان ودارفورشمالاً الي أقاصي الأجزاء الجنوبية من جنوب كردفان ودارفور جنوباً، حث تصل في فترة تجوالها الصيفي الي حدود بحر العرب (لاحظ التسمية) وبحر الغزال لتلتقي بالقبائل الجنوبية، ثم تعود أدراجها مع بداية موسم الخريف نحو الشمال لقضاء فترة الخريف في أراضي القوز تجنباً للحشرات الضارة والأوحال. وفي هذا المقال أركز على القبائل العربية التى تقطن جنوب كردفان. يعزي كثير من المؤرخين أن أصول هذه القبائل يعود إلي قبائل جهينه العربية إحد أفرع قبائل البيدون التى تقطن الجزيرة العربية والتى هاجرت إلي أفريقيا عن طريق صحراء سيناء إلي النيل الأعلى ثم تفرعت ناحية الغرب وأنخذت حياة التجوال سبيلاً للعيش لها. كما أن المؤرخين لايعرفون متى دخلت هذه القبائل إلي السودان أو جنوب كردفان تحديداً، ربما ذلك يؤكد قدم أستيطانها في المنطقة. كما أن تأريخها السلالي، القبلي والعشائري لم يكن مكتوباً بصورة جدية. هذة المقال ليست محاولة لكتابة تأريخ هذه القبائل ولا أدعى معرفتى بكتابة التأريخ، بل أريد إلقاء الضوء على جوانب من مسيرة حياتها في المنطقة ودورها الأقتصادي، الأجتماعى والثقافي وتفاعلاتها مع البيئة والسكان مما خلق شخصية مميزة لهذه القبائل وجنوب كردفان بصورة عامة وتأثير الحرب الأهلية على مجتمعاتها ومستقبل وجودها ودورها في المنطقة. تشمل قبائل البقارة عدة قبائل أكبرها قبائل الحوازمة، المسيرية، الحُمر(بضم الميم وليس الحَمر)، الرزيقات، التعايشة، الهبانية، بنى حلبة وغبيرها. إن هذه القبائل مع كونها رعوية، تشرك في صفات عدة كريطقة اللبس، الثقافة، المسكن، التراث، العادات والتقاليد، الديانة، إدارة شؤنها عن طريق الإدراة الأهلية (الناظر، العمدة، الشيخ)، و إنتهاجها طرق العيش الجماعى المعروف في أفريقيا Collectivism. تتميز قبائل البقارة عن بقية القبائل الرعوية الاخري في السودان كقبائل البطانة و البشاقرة والذبيدية بل متميزون حتى عن رعاة الأبقار الذين يتداخلون معهم في المرعى كالبديرية، مسبعات، قبائل النوبة الرعوية وقبائل الجنوب الرعوية. إن هذا التميز تعزيه هذة القبائل إلي إرثها السلالي المشترك؛ إذ يعتبرون أنفسهم أبناء عمومه لكن لا يعرفون في إيّ عم يلتقون. إن ما يمكن الجزم به أن هذه القبائل حقيقةً متميره عن غيرها ومتقاربة فيما بينها ولكن دون شعورها بوحدة مصيرها وهدفها ومستقبل حياتها في المنطقة. أذا القينا نظرة سريعة علي واحدة من قبائل البقارة كالحوازمة نجدها تتكون من حوالي خمسين فرع قبيلة تندرج تحت ثلاثة أفرع رئيسية: عبدالعال، الرواوقة والحلفا. عبدالعال تضم الجميعية، دارنعيلة والجمُوعية وغيرها. الجميعية وحدها تضم حوالي أربعة عشر قبيلة فرعية وعدد من العشائر في كل فرع وخشوم بيوت في كل عشيرة. وأكبر فروع الحوازمة هم الرواوقة التي تضم أكثر القبائل الفرعية عدداً وتعداداً كما تعتبر أكثرها إنفتاحا على وإمتزاجاُ مع قبائل النوبة. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه القبائل مسلمة مما يعنى أنها هاجرت من مواطنها الأصلية في الجزيرة العربية بعد نزول الوحي وأتت ضمن طلائع التبشير الاسلامي الأولي إلي القارة السوداء تحمل رسالة، أيّ أن قدومها للمنطقة كان ضمن هدف نشر الدعوة وفق أطار ووسيلة مخطط لها هي الأمتزاج بالسكان المحليين وتعليمهم الدين واللغة عبر الزواج والمصاهرة وحسن الجوار. إن المتتع لهذه القبائل يري أن معظم أهدافيها في نشر الدعوة واللغة قد أصابت نجاحاً عظيماً إذ أن أغلب المجتمعات التى عاشوا وسطها تتحدث اللغة العربية و يدين أغلبها بالأسلام. ومن حقائق التأريخ أن هذه القبائل لم تأتي بجوش جرارة لقهر الأفارقة بل جاءت متسلحة بالعلم ومتمرسة في أساليب الدعوة مما يسر مهمتها الصعبة أصلاً حتى فتح الله لها وبها أذاناً صما وقلوباً غلفا في المنطقة وغيرت وحسنت من سبل عيش المنطقة وأدخلت مهارات وحرف جديدة أنعشت إقتصاد المناطق التى أستقروا بها. لا يعرف المورخون متى دخلت قبائل البقارة أو قبائل النوبة إلي المنطقة وإعتبار أن قبائل النوبة دخلت أولا مأخوذاً من كونها أفريقية وبالتالى إفتراضاً دخلت أولاً. والأفتراض ليس هجة في التأريخ ولكن أستأنس به كثير من الكتاب بحجة أن القبائل العربية جائت تحمل رسالة تقدمها لسكان المنطقة الذين يفترض أنهم قبائل النوبة وعزي أخرون أن تأريخ النوبة يعود إلي سبعة قرون ومن ثم هم القادمون الأوائل إلي هذه الديار. ولكن خلاصة القول لا يعرف أحد متى دخلت القبائل إلي هذه المنطقة. أن مجرى أحداث التأريخ يشير إلي أن البقارة أستوطنوا جنوب كردفان قبل دخول المستعمر وأعتنق النوبة الاسلام أيضا قبل دخول المستعمر بحسن عشرة وأمتزاج القبائل العربية بهم. نظرة سريعة لأحداث التأريخ تنجلي الحقائق الأتية: 1. في نهاية القرن السابع الميلادي دخل الأسلام عبر النيل الشمالي عن طريق التجار ومجموعات الرعاة. 2. في 1505م تأسست سنلطنة الفونج الأسلامية. وذكر د. غيمي رأفت الشيخ أن سكانها من قبائل جهينة العربية وتمتد حدودها الغربية حتى حدود سلطنة الفور. 3. في عام 1530 تأسست مملكة تقلى (مملكة الجبال الأسلامية) التى تحادد مملكة الفونج من الناحية الجنوبية الغربية، في المنطقة التى تعتبرحزام البقارة وحتى اليوم. وقد ذكر بروفسر يوسف فضل حسن أن ملوك تقلي يهدفون إلي نشر الأسلام وثقافته عن طريق التبشير والأختلاط والمصاهرة وتشجيع القبائل العربية علي الأستقرار. يتضح أن قبائل البقارة هي عماد مملكة تقلى الدينى، مما يعنى أن هذه القبائل توجد بالمنطقة قبل بداية القرن السادس عشر الميلادي. مما تقدم يتضح جلياً أن دخول هذه القبائل للمنطقة يعود ما بين نهاية القرن السابع الميلادي وقبل القرن السادس عشر الميلادي.
2. الأستعمار التركي-المصري-البريطاني والإصصدام بالقبائل العربية
بدأ أهتمام المستعمر بالرعاة في أقليم كردفان مع بداية دخول الخديوية للسودان في 1821م عندما عرفوا فروسيتهم ومهاراتهم في ركوب الخيل وحسن معرفتهم بأحوال المنطقة وطبيعتها الجغرافية وسكانها. لكن سرعان ما أكتشف المستعمر كراهية الأعراب لهم ومراوغتهم المستمرة وتهربهم من أداء ما ألزموا به كجمع الضرائب وحمل الرسائل البريدية وزراعة الحيازات الزراعية لصالح مؤنة الجند وترحيل حمولة الحملات العسكرية وكانت منطلقاتهم دينية. أستمر ذلك الدور المرواغ وفي بعض الأحيان قطع طرق القوافل والحملات العسكرية وحملات تجارة الرقيق حتي حوالي 1863 م عندما أنشئت الأدراة الأهلية وأوكلت للأعراب إدراة شئونهم. كان إنشاء الأدارة الأهلية بمثابة محاولة لتحييد حركة فرسان البقارة في المنطقة حيث صار المستعمر يحفز قيادات البقارة بأقمشة الدمور المستورد، وكوتات السكر والشاي ونحت أسماء الذين يقومون بجمع ضرائب أتباعهم علي جزوع شجر التبلدي وغيرها وجعل منهم رموز قيادية يلزم أتباعها. أستقلت زعامات البقارة هذا الدور خير إستغلال حيث بدأوا ينظمون صفوفهم ويطورون من أساليب مقاومتهم للمستعمر لدرجة أصبحت المنطقة مهيئة لظهور إنتفاضة شعبية عامة وعرف المستعمر جيداً أن البقارة يأسسون دولتهم ذات الحدود الجغرافية الهلامية نتيجة لعامل التجوال مما أدي إلي قبض زعاماتهم والزج بهم في السجون. أهم تلك السجون التي عانى فيها نشطاء زعماء البقارة سجن مدينة تلودي ومدينة الدلنج. كان الغرض من إنشاء سجن تلودى هو عزل زعامات البقارة عن محيطهم القبلي لتقليل دورهم العدائي وكسر شوكتهم. وفي بعض الأحيان قام المستعمر بترحيل القبائل قسراً وإسكانهم في بئات نائية في أدغال جنوب كردفان فنشأت مدن عامرة كالشحيطة في شمال شرق كادقلي. أستمرت ثورة البقارة حتى ظهرت الثورة المهدية التى كانت المنطقة مهيئة لها ؛ أيّ أستمرت ثورة البقارة وتحريضهم للقبائل المستقرة كقبائل الجبال ومسبعات والبديرية حوالي 60 عاماً من الكفاح ضد المستعمر.
3. فرسان البقارة عماد الثورة المهدية
إن قيام الثورة المهدية كان نتاج طبيعى لحركة الكفاح التى أجتاحت السودان شماله وشرقة وغربة وجنوبه. هجرة الأمام المهدي إلي جبل قديرتعنى من ضمن عدة أسباب أخرى أن قائد الثورة عرف التركبية النفسية لقبائل البقارة في المنطقة التى يعتبر عمادها التدين، الفروسية، ركوب الخيل، معرفة تضاريس وسكان المنطقة. أن فراسة المؤمن لم تخب، فقد وقفت خيول فرسان البقارة جنداً للأمام تحاصر كل مراكز المستعمر حتى عزّزها الله بالنصر المبين في شيكان وحاضرة الأقليم مدينة الأبيض وبارا ثم زحفوا خلفة ولم تتراجع خيلوهم حتى أجلوا المستعمر عن السودان وأسسوا معه مدينة أم درمان، اخمدوا الثورات وقادوا جيوش الفتح داخل وخارج السودان وأستلموا الخلافة من بعدة عرافناً وإنصافاُ لدورهم وحبهم للإمام. إن تأريخ السودان الحديث فيه كثير من الأجحاف والأستخفاف بدور قبائل البقارة في تأسيس السودان الحديث وكان أوله ثورة الأشراف في أم درمان ضد الخليفة عبدالله التعايشي.
4. التوزيع الديموغرافي للبقارة في جنوب كردفان
تتوزع القبائل العربية في خطوط متوازية علي طول جنوب كردفان مع وجود مناطق تماس بينها. ففي الوسط تقع قبائل الحوازمة علي طول وشرق الطريق بين الدلنج- كادقلي-تلودي، بينما توجد قبائل المسيرية على غرب هذا الطريق. وعلى غرب المسيرية يوجد الحُمر وغربهم يوجد الرزيقات، التعايشة والهبانية ويمتدون حتى أقاصي السودان الغربى في جنوب درافور. وهذا التوزيع الجغرافي عزاه كثيرين للغارات التى تنشأ بين القبائل في المرعى والمراحيل. وبصورة عامة توجد قري البقارة في السهول التى تتخلل الجبال حيث يقومون برعى السهول وفلاحتها. فى المقابل توجد قبائل النوبة موزعة على قمم الجبال وسفوحها. وبوجه عام، تعتبر القرى الواقعة في السهول والهضاب هى قرى للقبائل العربية، بينما القرى الواقعة على قمم الجبال وسفوهها هى قرى لقبائل النوبة. وهذا التوزيع الجغرافي-الديموغرافي يعزى كنتاج تأريخى للأحداث والغارات التى تشنها حملات تجارة الرقيق حيث تلوذ قبائل النوبة بالكهوف وشعوف الجبال بينما يهرب الأعراب في السهول ويحتمون بالغابات الوعرة والوديان. بدأ ذلك التباين الديموغرافي في الأندثار تدريجياً منذ بداية الأستقلال. حيث بدأ التداخل بين العرب والنوبة تداخلاً كاملاً في بعض الأحيان. أنشئت المدارس التى أستوعبت كل التشكيلات الأثنية، كما أنشئت المشاريع الزراعية والحفائر والخزانات المائية التى أسهمت في الأندماج الأثنى القبلى. رويداً رويداً، بدأت العادات والتقاليد تتلاقح وتتأصل نحو هوية مشتركة تبرز شخصية جنوب كردفان. حيث صارت بعض الرقصات قومية على النطاق المحلى لجنوب كردفان، كالمردوم والصراع والنقارة وغيرها، بينما كانت في الأصل النقارة والمردوم للقبائل العربية، وفي المقابل، الصراع لقبائل النوبة. بدأت عادات التخلف كعادات الكجور (الأب الروحى للقبيلة) في الأندثار وسط قبائل النوبة وكذلك الشلوخ والوشم بدأت تتلاشى وسط القبائل العربية تأثراً بالمد الثقافي العام على مستوى القطر. أكمالاً لهذا التداخل بدات القبائل ترتبط بعلاقات الزواج والمصاهرة، إنتشرت اللغة العربية وإختلطت الأسماء وعمت الطمأنينة. أن الحرب الأهلية اللعينة قد قضت على كل ذلك التعاون الأنسانى الهائل والتى يعتبرة الكثيرين أنه مسيرة قرنين من الزمان، وربما مسيرة خمسة قرون من العمل الدعوب. وسوف ألقى مزيداً من الضوء على دور الحرب الأهلية في زعزة الروابط بين القبائل.
5. الحياة في ريف البقارة في جنوب كردفان
تستقر الأسرة الرعوية عندما تنفق حيواناتها أو يتناقص القطيع بحيث لا يستطيع تمويل الحياة المعيشية للأسرة، هناك تلجأ الأسرة للأستقرار. وفي كثير من الأحيان تقوم القبيلة بجمع رؤوس من الأبقار وأهدائها إلي الأسرة لتواصل مسيرة الرعى المقدسة. وعندما تستنفد كل السبل أمام الأسرة تلجأ كحل لا مناص منه إلي الأستقرار وتندب حظها الآثرأو المتعثر أو الأعسر الذى جعلها تسكن وسط غازورات القرية وأكل الوجبات الصعيدية خالية الدسم. وينظر بقية الرعاة إلي هذة الأسرة بعين الشفقة والرحمة (وأخرون يسخرون: مرمى الله ما برفع). وعادة يستقر الرعاة، بل أستقروا في كل بقاء جنوب كردفان، وفي المناطق التى ألفوا العيش فيها منذ أزمان ساحقة في القدم. فقد تجد العشيرة الواحدة موزعة، جذء في القردود في أقصى جنوب كرفان، أخري في أبو سفيفة جوار كادقلي في الوسط، وثالثة في خور أبو حبل في شمال جنوب كردفان. مهما كانت طبيعة الأستقرار، فأن حياة ريف البقارة في جنوب كردفان، شمالها، شرقها، وسطها، جنوبها وغربها، تتشابه تماماً، بل، تسير على نمط واحد، مع وجود تعقلم علي البيئة التى أستوطنوا فيها. ومن المناظر المألوفة في الريف وجود المناظر البانورماتيه لقطعان الأبقار، الماعز، والضأن حول القرى وأماكن المياه الجوفية، الآبار، الدوانكي والحفائر، حيث يتداخل المستقرون والرحل الحالون معهم موقتاً في جو تحس فيه أنسجام المجموعتين. تحمل النساء الماء من الأبار على رؤوسهنّ في أعونة بلاستيكية (باغات) وغيرها للأغراض المنزلية اليومية. لا توجد شبكة مياه صحية في كل أرياف الرعاة وريف جنوب كردفان عامة. مع بداية نزول الأمطار يرحل الرعاة (الأغنياء من البقارة) ويظل المستقرون (فقراء البقارة) يعانون الطين والباعوض ومتعاعب الزراعة. تتحوصل القرى في فترة الخريف وتنقطع عن بعضها البعض وعن المدن المجاورة وينهمك المزارعون في حراثة مزارعهم (مصدرهم الوحيد للحياة في فترة الصيف) أفراداً وجماعات، تتعالى أصوات الغناء من وسط المزارع المتناثرة حول القرى على غير هدي وتخطيط، ومزارعهم هى حيازات أسرية. مع أبتهاجهم بالخريف والزراعة، يظل الباعوض، الناموس، الطين والأوحال، وأعشاب الساقنا الغنية الطويلة تعرق مضاجعهم. تظهر وتذاد الملاريا، والحميات الأخري وتظهر أمراض سوء التغذية عند الأطفال، يمتلء محيط القرى بالغازورات و(الكوش) وتحاصرها الأعشاب الطويلة، حيث يتسلل المواطنون إلي مزارعهم بواسطة طرقات (دروب) صغيرة تتسع للقدم فقط من خلال الأعشاب ذات الرطوبة والندي، وحينما يصل المزارع إلي مزرعته يكون قد إبتل بالماء من رأسه إلي أخمس قدميه. وفي فترة الخريف تنعدم السلع التجارية، الأدوية، وتغلق المدارس والشفخانات، وينتشر تجار الأدوية البلدية، الدجالون، الديات البلديات وينعدم أي مظهر من مظار وجود حكومة أو سلطة إلا سلطة المجالس المحلية (وسوف نرى في مقال قادم كيف أستغل التمرد هذا الجو الأنغلاقي). وفي نهاية موسم الأمطار تدب الحياة من جديد في عروق ريف جنوب كردفان (والحمد لله الذى أحياهم بعد إذ أماتهم والموت أنواع) تظهر الأدوية، السلع، المحصول الجديد، تفتح المدارس، والمستشفيات، و ينظف محيط القرية. كما تعود الضعائن (الرحل) من ديار المخرف حيث يتوفر اللبن ومنتجاته، تفتح الطرق الموسمية إلي المدن ويتم تنظيفها بالكركات (بلدوزرات)، يتصل الناس بالأهل خارج محيط القرية، يتعرفون على الجديد في الموضة وتشكيلات الموسم الجديد، وأخبار السياسة (سياسة موسمية!)، تنتشر المناشط الرياضية والأندية. إن من أميز مميزات حياة الريف العيش التكافلى الجماعى الذى يتمثل في الحش والحصاد الجماعى مصحوباً بالأغانى الحماسية، يعتبر الوضع الأجتماعى والسن من أهم مميزات القيادة المحلية. يعتبر الشيخ، العمدة أو كبير الحلة، الجهة الرسمية المتحدثة بأسم الأسرة أو القرية.
6. حياة التجوال: نغمة فريدة عند الرعاة
هناك في الاساس رحلتين عند الرعاة من الشمال نحو الصعيد (أتجاه الجنوب) بعد نهاية موسم الأمطار وتمسى (المُؤطاة)، والأخري رحلة عكسية وتمسى (التدلى). تنتهى رحلة المؤطاة في القرية التى ينحدرمنها الرعاة، أي القرية التى يستقر فيها المستقرون منهم، وبذلك تنهى الرحلة في مناطق مختلفة وفي بقاع متعددة من جنوب كردفان. هناك الرعاة ذوي الأموال الضائلة، أي 200 رأس فما فوق (هناك من يمتلكون 17 مراح وكل مراح يزيد عن 300 رأس) ، هؤلاء يواصلون سيرهم إلي أماكن المياه الراكدة والمتوفرة طوال العام كبحر العرب وبحرالغزال، بحيرة كيلك واللبيض وغيرها. يتخذ الرعاة في أثناء تجوالهم شمالاً كان أو جنوباً طريقين (مرحالين)، أحدها لرحلة المؤطاة والأخر للتدلى. تشترك قبائل عدة في مرحال واحد ولكنها تختلف في أوقات سلوكها لهذا المرحال. مثلاً عند قبائل الحوازمة ترحل فروع قبائل الرواوقة مبكراً، ذهاباً وأياباً، إلي الصعيد بتنما تذهب فروع قبائل الجمعية متأخرة، ذهاباً وأياباً، ولا يتقابلون إلا في دار المخرف (مكان قضاء الخريف) أو في دار المصيف (مكان قضاء الصيف) . في الغالب لا تغير القبائل مراحيلها فهي بمثابة إحد موروثاتها وقد تمنع قبائل أخري من الأشتراك معها فيه وإلزامها بالعودة إلي مرحالها لضيق المرحال، أو لظروف مرض أتت به القبيلة الجديدة في ذلك المرحال. مع أن رحلة التجوال تبدأ من أقصى شمال موقع التجوال إلي جنوبه، فأن أسماء المراحيل تنتقى حسب أشهر موقع يمر به المرحال (وهذا مايسمى بأعلام المواقع) مما يسهل معرفة القبائل الأخري للمكان والقبائل التى تسلكة. وأهم هذه المواقع الأعلام خور أبو حبل والمدن الرئسية التى يمر بها المرحال. والمرحال هو أيضا وسيلة لمعرفة القبائل، إذا سألك سائل ما مرحالك ففي الحقيقة يريد معرفة قبيلتك، فإذا قلت مرحال السيسبان مثلاً ذلك يعنى أنك حازمى (من قبائل الحوازمة). حياة التجوال هى نغمة فريدة في حياة رجل بادية البقارة وحيواناته علي السواء، بهذه التجوال تتأصل هويته الرعوية، حيث ينشأ شعور قوى بالأرتباط بالمرعى والحيوانات التى يرعونها فلا يجدون أنفسهم إلا في إطار هذه الرحلة وهم دائماً في أشعارهم وأغانيهم وأوقات الطرب يمجدون هذا الأرتباط الرعوى. مثلاً "أحلى صوت العجيل في شجر الكترة أم نوار أم صوت الحمار في الترتار)، والترتار يعنى الحوش، ولعل المقارنة واضحة صوت العجيل في محل الأزهار وفي المقابل صوت الحمار في داخل الحوش ينهق (وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير). وهذا الارتباط يوجد عند البهائم أيضا، فهى تعرف المنازل، وموراد مياها، وأماكن المرعى، وأوقات الرحول شمالاً أو جنوباً، إذا ضاعت في وقت ماء وجاء زمن الرحول فهى ترحل حتى لو وحدها. بحياة التجوال يشعرون بالحرية المطلقة، تماماً، من أي قيد أو شرط، وهم يجددون منازلهم كل يوم وأخر وهذا التجديد هو أيضاً تجديد لمشاعرهم برؤية ديار جديدة وفي نفس الوقت قديمة، لأنهم كانوا من قبل يمرون بها ولهم بها معارف بأهلها المستقرون بها. ففى تجوالهم ينشأون علاقات مع المجموعات المستقرة حيث يتبادلون معهم منتجات الألبان بالمحاصيل الزراعية. من خلال هذا التجوال تنشأ أيضاً علاقة وثيقة بالبيئة، فهم يعرفون المنطقة شبراً شبرا، يعرفون نقاط المياة، الوديان، السهول الجدباء، مكان المرعى الخصب ونوعية الحشائش التى به، طبيعة المنطقة، وأحوال سكانها. يتميز الرعاة بفضول غير عادي، فهم يعرفون كل كبيرة وصغيرة في محيطم البيئى، وعادة يرسلون جماعات صغيرة (فرق أستطلاع تمسى الرواغين لمعرفة أحوال المنطقة قبل الرحول إليها). على عكس المجموعات المستقرة منهم التى عادةً تكون إرتبطت بمنطقة سكنية واحدة وتمازجت معها، فإن الرحل لهم إرتباط أشبه ما يوصف بالقومية في حدود الرقعة الجغرافية التى يمرون بها –فأرتباطهم بها ككتلة واحدة كأرتباط المستقر منهم بمنطقته. هذا الأرتباط مكنهم من خلق نسيج إجتماعى ومحيط ثقافى أوسع وأحتكاك أكثر بنوائب المنطقة وجعلهم أيضاً عرضة أكثر من غيرهم لتلك النوائب، فنما فيهم حب التكاتف والتعاضد أكثر من غيرهم وتمرسوا على الصعاب وتحمل المشاق والجلد والتعب. وفي ظل ظروف التجوال ووعورة المنطقة، إستطاع رجل البادية إستعمال بعض الألفاظ للتخاطب مع بهائمه. فهم يضدرون أصوات معينة للأسراع في السير، وورود الماء، الزعر، أصوات لمناداة الضائع، أصوات للإصدار، تناول الملح، حليب اللبن، المناجاة لتهدأة الزعر. وفوق كل ذلك الرعى هو وسيلتهم للعيش الكريم، وهو ما لقنه ودرسهم له جدهم وتوارثوه أباً عن جد، فهم ملمون إلماماً منقطع النظير بفنون المنهة وأدائها علي وجهها الأكمل. (وفي مقال لاحق نرى صعوبة تحقق هذا الأندماج نتيجة لعامل الحرب ومن ثم أختلال نمط عيشهم).
7. ملامح من تراث البقارة
يعتبر البقارة الفروسية، الشجاعة، والأقدام صفات مقدسة محروسية بعادات وتقاليد صارمة. أول هذه العادات والتقاليد مأخوذ من الشعار الديني "النصر أو الشهادة". إذا قاتلت البقاري أعرف أنك تقاتل تقاليد تليده قبل الفرد الذي تقاتله. ففي عرف البقارة الجبان منبوذ، لا يجد من تتزوجه، ليس له رأى يسمع، ولا أمر يطاع، تتبرأ منه ذمة والدته، أهله وأقرباءه، يرمى بسئ السباب في الملمات والأحتفالات الجماهيرية، وفي أشعار البرامكة ومجالس القهوة وغيرها وخير ملاذ للجبان الهروب من المنطقة بأسرها وعدم العودة ما لم ينقطع النبط من حبل الوريد. ومن ذا الذي يستطتع المجازفة بعدم الثبات والأستبسال أمام هذا الكم الهائل من الفضائح؟ وفي المقابل الشجاع يمدح في جميع الملمات، تتغنى به الحكامات (مداحات محترفات)، الهدايات، الهدايون، ويشاع إسمه، يسمون به أطفالهم تيمناً به، وتكون له كلمة مسموعة، ورأى يطاع –أي عز بعد هذا. ففي الأونة الأخيرة تجد في أوقات الأحتفالات تقول إحد الحكامات أنها لا تريد سماع أي صوت بندقية إلا بندقية فلان –ولعلك تكون فلان في ذلك التوم؛ ومنهن من تقول لا أريد سماع بندقية إلا بندقية شاب "كرب الضحوة" أي قاتل حتى إنتصف يومه ولم يتراجع عن أرضه أو موقعه. ومن خرافة الأفراط في الشجاعة أن التكتيك العسكري كالرقاد على الأرض أثناء المعركة نوع من الجبن، تجد الشخص يتشدق، ويهز في النساء ببندقيته بأن ذقنة لم يلامس الأرض إطلاقاً أثناء المعركة (أي أنه شجاع لا يختبئ). مع عظمة تراث الفروسية، أيضاً، يمتلأ تراث البقارة بالكرم الذى يصل مرحلة التفاخر. ففي سابق الأزمان كان الرجل يجعل مسبحته في عنق الحكامة متحداً أن ينازله أحد في ميدان الكرم. أذا أخذ المسبحة أحد أوقف الغناء والرقص في الحال ويصمت الجميع، لتبدأ مبارزة الكرم .. والكرم محسوب بعدد الزبائح التى زبحها تكريماً لضيف أو ضيوف وهى أما خروف أو ثور فما فوقها من الرؤوس، إذا وجد خصمك إنك إستضفت قوماً ولم تزبح لهم ذلك يكون خصماً من عدد ذبائحك بقدر عدد الضيوف (أي حسابك ينقص بعدد الذين بخلت عليهم). والفائز ينصب بوسام الكرم وتعتبر تلك السنة تأريخاً مرجعياً تقاس عليها أحداث الزمان والدهر الأخري – مثال ولد التوم في سنة "بلل فاز على عثمان في الكرم". وهذا التراث منحوت في ذاكرة الكبار والصغار ويتداول بعفوية وبديهية ضمن الحياة اليومية، مما يؤكد علي قيمته ودوره في الواقع الأجتماعى المعاش. وبهذا التراث تخرج أو تصعد قيادات القبائل، فلم يكن هناك عمدة، ناظر، شيخ، أو مندوب فيه صفة من صفات البخل أو الجبن. وأستمد هذا التراث من أرث أخر هو تراث الغارات والحروب التى تنشأ بين القبائل، حيث لا وجوج للجبناء أو البخلاء في منازل الفرسان. ومن التراث أن المرأة لا تقتل مهما كانت جسارتها، وأن الطفل يقتل وحتى لو كان أبن ليلة واحدة، إنه رجل سوف يكبر ويأخذ التأثر، أيّ أن خصومهم لا يلدون إلا فاجراً كفارا ولزم الإفطار بهم قبل أن يتعشوا بك في أزمان قادمه، وهذا يعنى أن مقتل طفل يسد خانة الثأر في فارس والمرأة لا تجزى عنه، ولا أعرف حقيقة درأ القتل عن المرأة هل لأنها أعظم شأناً من الفارس أودنيئة القدر وضيعة المنزلة، وفي كلتيهما خير لها فقد وجدت نفسها خارج دائرة الأقتال الشريرة وهذا ما يهم. ومن التراث الحمية المفرطة، إذا قاتلك زيد فإن عبيد ومن معه يقاتلونك دون سابق معرفة بسبب القتال، حسبهم في ذلك أنك قاتلت زيد، ووجب نصره ظالماً كان أو مظلوما، وذلك دخن في أسلامية هذه القبائل التى تولى وجهها شطر المجسد الحرام وحيثما كانت. إن من الغريب في الحمية هى جر القبائل في حروب داهس والغبراء التى لا تنتهى، إذا وجدت حسنه وسط هذا السخب الجاهلى هى وجود ترابط منقطع النظير بين أفراد المجموعة لدرجة شعورهم بحتمية مصيرهم في الحياة والممات. أن من أعظم ما في تراث هذه القبائل وجود التكافل الأجتماعى الذى يتمثل في درأ المصائب والملمات عن طريق توزيعها توزيعاً عادلاً بين أفراد القبيلة معتمدين على تراث إلزامى إرغامى، ليس لك فيه قول أو حجة فقد نطق الجد المشرع بقول جهيزة الذى لا بعده (بغم). ففي حالة القتل، عمداً أوغير عمد، توزع الدية وهى إحدى وستون رأس من البقر (قد تختلف من قبيلة لأخري) على القبيلة وأهل ذمتها وكتابها، ولم يدفع أهل عشيرة القاتل إلا السدس (ما يسمى بالركبة). وتوزع الدية على أبناء الرجل الواحد، مهما كان عددهم أو أعمارهم، رأس واحد. الرجل المقصود به رب أسرة متوفي والده، مهما تشعب أبناء هذا الرجل وأبناء أبناءه وأبناءهم وما نزلوا، يدفعون رأس واحد. إذا توفي الرجل (قمة الهرم) صار كل من أبناءه المباشرين رجل يدفع ديته مع أبناءه. ومن الغريب إذا توفي إبن الرجل أو أبن أبنه، صار أبناء المتوفي فريق قائم بذاته يدفع ديته بعيداً عن كوم أعمامهم. وإن من الملاحظ أن الجد المشرع لهذا الدستورقد أحكم ضبطه بدرجة متقنه، ولم يغفل أيضا عن توزيعه، على نحو يشابه الميراث في الأسلام، فقد شرع الجد كم تعطى زوجة المتوفي، وكم يعطى أبناءه الذكور والأناث وبقية أولى القربى، ومن الملاحظ أن نصيب المرأة أقل ممن في الكتاب، ربما السبب لمخالفة القيمة الكلية عن قيمة الدية في الأسلام. وفي حالة الحريق، سرقة البهائم أو إنقراطها بفعل الكوراث، تدفع القبيلة مايسمى ب "العود"، وهو يشابه الدية تماماً لكن يتم تقدير قيمته بصورة وقتيه، وقد شرع الجد المشرع من هم الذين يقومون بالتقييم والتوزيع، أي ليس فيهم أنساناً سفيحاً أو كذاباً أو زميماً، يكونون من ذوي الرأى، مقدمي في قومهم، مسموعي الكلمة وغيرها. ومن الغريب في هذا التراث الرائع، إذا كان الرجل وأبناءه معدمين، أخذوا رماد دارهم ووضعوه في قطعة وأرسلوه لأهل المقتول، هذا يعنى إعترافاً بحقهم مع تقصيرهم، وفي هذه الحالة تسقط ديتهم أو عودهم إلزاماً وليس سهواً. وفي حالة حدوث فاجعة لهؤلاء المعدمين فأنهم يعاملون وكأنهم قاموا بسداد ما عليهم سابقاً، لعلك لاحظت ذلك لسد الزرائع والتهرب، إذا رفض الرجل له الحق ولكن إذا قتل له ولى لايجد من يديه وتسقط منه جميع الأعراف الأخري فهو كالغريب تماماً. ومن روائع التراث هو حق العريس في إستضافة حفلته عند أيّ شخص من أفراد القبيلة دون سابق إعلام، أيّ إذا أختارك العريس أو العروس أو أمها أو ماينوب عنهما، فأنت في كفوة حقيقية، عليك إحضارثيران الزبائح، جوالات السكر، باقات العصير، ببساطة كل لزوم (القيلة)، وأهما يخلد أسمك مع عظماء رجالات القبيلة، أما إذا جبنت وبخلت فأنت لا تساوى بعوضة وما تحتها في كل مستقبل حياتك الباقية، تذم وتهجى، ليس هناك ناظر، عمدة أو شيخ يحميك ويسعفك من ألسنة البرامكة والحكامات السليطة اللاذعة. ومن أميز تراث البقارة، مايسمى بمجلس الأجاويد. والأجاويد جماعة من شيوخ القبيلة والأعيان يدعون لحل معضلة ما. وهؤلاء الأجاويد يعرفون بأجادة النصح وذوي خبرة في الحياة (أي معرفة بالسياسة)، عركتهم الحياة وعركوها فهم يعرفون كيفية فض النزاعات و حل أعتى المشاكل. وتراث الأجاويد من أكثر شرائح التراث البقارى أنتشاراً خارج إطار هذه القبائل وسهل التداول والأندماج في تراث القبائل المجاورة للبقارة. يمتلئ تراث البقارة بالأمثال، كبقية التراث السودانى. من تلك الأمثال إذا وقع الشخص في مأزق ولم يستطع الخروج منه يقولون "وقع في بيضة أم كِتيتى". وأم كتيتى طائر يبيض وينوم ويقضى وقته على الأرض ولا يهبط على الأغصان. بيضة أم كتيتى علامة شئم، إذا وجدتها، ومن الصعب أيجادها فهي تشابه أديم الأرض، يقولون إما قتلت أمك أو أبوك –إذا أخذتها قتلت أمك وإذا تركتها قتلت أبوك (لك الخيار بأيهما تضحى) إي شرك أم جيجي في المثل السودانى المشاع. إن أعمة السنة وقعوا في بيضة أم كتيتى في تحليل أو تحريم تحية المسجد بعد صلاة العصر، منهم من يقول إنها حلال ومنهم من يرى حرمتها ومنهم من يرى حسنة عدم دخول المسجد بعد صلاة العصر، وما يزالون واقعين في بيضة أم كتيتى. ومن أمثالهم "وقع في الحسكنيت". والحسكنيت نبات معروف في كردفان، إذا إلتصق في ملابسك وخلعته بيدك اليمنى لصق بها، إذا خلعته من يمناك بيسراك لصق بيسراك، فهو لا محال لاصق بك. ومثال لذلك ذات يوم جاءهم شيخ وبدأ يتلو سورة الكافرون في الصلاة ووقع في حبال لا أعبد ما تعبدون دون أن يجد مخرج منها، فناداه أحد المصلين "يا شيخ حسن شنو وقعك في الحسكنيت دا". ومن الكلمات المشاعة القسم باللة: بى اللة (او بيه الله) نطلع جنك، كن حزر سوف يطربك العربى. وقولهم أن: (فلان سوى لينا الحلو مر)، أي أن فلان شديد الكرم لدرجة صار عندهم المذاغ الحلو كالمر من كثرته. وقولهم: (البِدِن ما يبقى ليك بلى)، أى لا تتمادى في اللعب بالشئ حتى يجلب ليك كارثة، وهو بمثابة تحزير من أنك تخطيت الخطوط الحمراء. وقولهم: (عجوزاً ما له نديد ومسافراً ما له رفيق)، في أثناء الحديث، يعنى أن المتحدث كذاب. أتوقف هنا لعلى نعد إلي إحد روائع التراث المتمثل في تراث البرمكة أو البرامكة في غير هذه المقالات.
أذكر القارئ الكريم: في المقال القادم سوف أتحدث عن الحرب الأهلية في جنوب كردفان حرب عنصرية هدفها طرد القبائل العربية، وأسوغ الأدلة الدامغة علي ذلك، ثم ألقى نظرة على ما لحق بالبقارة من دمار. راجع الخلاصة في مقدمة الموضوع .
|
|
|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|