عندما أشار الدكتور جون قرنق رئيس الحركة الشعبية، في عدد من أحاديثه المتعلقة بالثقافة و الهوية السودانية حول الرجوع للممالك النوبية القديمة، كوش و ما بعدها، مملكتى علوة و نبتا، كانت إشارته عبارة عن دعوة لإسترجاع التاريخ، و محاولة للبحث عن أرضية مشتركة للمجموعات الثقافية في السودان تتكيء عليها جميعا. حيث كتب الدكتور جون قرنق في كتاب "رؤية للسودان الجديد قضايا الوحدة و الهوية" يقول ( الأساس الأول للوحدة هو التنوع التاريخي فكتب العصور القديمة بما في ذلك الكتاب المقدس زاخرة بذكر السودان أن كانت تحت أسم كوش أو السودان أو مصر. و أنا لا أختلق هذه الأشياء) و في ذات المصدر أضاف الدكتور قرنق قائلا ( الناس الذين ورد ذكرهم في الكتاب المقدس، و الذين غزوا يهوذا بجيش مكون من مليون فرد، من ناحية أحفادهم حاضرون بينكم هنا، فإلي أين تعتقدون أنهم ذهبوا؟ فالأرض لم تنشق لتبتلعهم، بل هم موجودون في السودان. كذلك هؤلاء الذين أقاموا الممالك النوبية المسيحية، و الذين أسسوا الممالك الإسلامية أيضا موجودون في السودان، هذا جميعه مايزال و حتى وقتنا الراهن يشكلنا و يكون جزءا من هويتنا) و البحث عن أرضية مشتركة لا خلاف عليها تاريخيا، قضية لم يلتفت المثقفون السودانيون اليها، لكي تأخذ بعدها الحواري في المجتمع، و تكون مدخلا لحوار فكري بين المكونات الفكرية المختلفة توصل لمقاربات، لكن المشكلة في السودان، إن الأيدلوجية تلعب دورا كبيرا في العمل السياسي و الثقافي، و هي أكثر العوائق التي تعيق فتح مسارات للحوار، فكل مجموعة أيدلوجية تعتقد إنها تمتلك الحقيقة، و لا تجد إن هناك ضرورة للحوار، و علي الآخرين أن يتخلوا عن قناعاتهم السابقة، و يرفعوا رايات الإستسلام. هذا المنهج النافي للآخر، هو الذي تؤسس عليه السياسة في السودان بدرجات متفاوته. و الدكتور قرنق نفسه أسس رؤاه علي هذه الأيدلوجية. في لقاء صحفي كانت قد أجرته جريدة الخرطوم مع الدكتور جون قرنق رئيس الحركة الشعبية و نشر في 9\5\1994 قال ( لقد وجد الجلابة أنفسهم أقلية حاكمة متميزة، طبقت أيدلوجية العروبة و الإسلام السياسي لحماية مراكزها الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية في المجتمع السوداني، و مأساة الجلابة كجماعة أجتماعية تكمن في نظرتهم العربية و الإسلامية الضيقة، و فشلهم في النظر أبعد من هذين المعيارين العروبة و الإسلام كعاملين وحيدين لتوحيد السودان و هذه النظرة الضيقة، وجد الجلابة أنفسهم غير قادرين قيادة الشعب السودان تجاه إنجاز الواجب و المهام التاريخية المتمثلة في التكوين القومي و التحرر الوطني) إن نقد الدكتور قرنق للأيدلوجيتين الإسلامية و العروبية، باعتبار إنهم أختصروا التاريخ، و بدأوا من تاريخ معاهدة البقط، التي سمحت بدخول العرب السودان، ثم الحلف بين عمارة دنقس و عبد الله جماع الذي أسس دولة الفونج الإسلامية عام 1504م، و يعتقد قرنق إن هذا التاريخ لا يؤسس لقاعدة تاريخية حضارية لمكونات السودان الثقافية المتنوعة، و هو نقد دافعه سياسي و ليس علميا، كما ينطلق من تحت مظلة أيدلوجية. و في رد يأتي من اليمين الأيدلوجي، كتب الدكتور حسن مكي في مجلة الخرطوم عدد خاص بمؤتمر الذكر و الذاكرين يوليو 1994م يقول ( أمتدت يد التشكيك لإضعاف و إهانة ثقافة سنار، ثقافة المركز، أي الثقافة الإسلامية التي هي منبع تماسك أهل السودان، مصدر إلهامهم، و إبداعهم، و ثقافة المركز في أي مجتمع، الثقافة الحاكمة التي تستضئ بنورها ثقافات المحيط، و لكن الصفوة المستلبة تريد أنتحيل ثقافة المركز إلي ثقافة تابعة، و هامشية، بحيث يكون دورها ثانويا في بناء السودان، لمصلحة ثقافات المحيط المختلفة الهامشية، و هم يعلمون أن ثقافات الكجور، و لغات العزلة، لا يمكن أن تكون أدوات نهضة، و إن البديل لا يمكن أن يكون الثقافة الغربية) فالدكتور حسن مكي لم يوضح ماهية ثقافة النهضة، و إن إيدلوجية حزبه قد سقطت في مشروع النهضة، رغم إنها قد استخفت بكل الثقافات الأخرى، و مارست عليها ضروب من العزلة، و الدكتور حسن مكي ليس أيدلوجيا ثقافيا و سياسا، أنما هو أيضا أكاديميا، و المزعج إن الشخص لا يمكن أن يمثل رؤيتين في وقت واحد، فأيدلوجية الدكتور مكي لابد أن تؤثر في مساره الأكاديمي الذي يمارسه فيه تقديم المعرفة للنشء، فالأيدلوجية عندما تدخل المجال الأكاديمي لابد أن تؤثر في حرية البحث، كما تعد رؤية مانعة لحوار مع الفكر الآخر و لا تحترام ثقافته، فإذا كانت الأيدلوجية سوف تنسحب علي المناهج التعليمية و طريق التدريس، إذا، السودان سيظل قابعا في مستنقع حروب أيدلوجية تمنعه من البحث عن إيجاد مستمسكات لمشروع نهضة، تتفق عليه مجموعات المثقفين السودانيين. و هنا تتبدي الإشكالية، إن الأيدلوجية مانعة لمواصلة الحوار بين المكونات. و هذه الإشكالية فطن إليها الأكاديميون السودانيون البعيدين عن أثار الأيدلوجية. كتب الدكتور إدريس سالم الحسن مقالا في مجلة الثقافة السودانية في يناير عام 1995م ( تعدد الثقافات في السودان و ما يتبع ذلك من تحديد لموقف تبدو في جملتها عدا القلة القليلة متعسفة و منطلقلة من الموقف و الواقع السياسي و قد أدخلها ذلك في باب الأيدلوجية و دوي الأصوات فصارت أقرب إلي المساجلة السياسية أكثر منها للعملية الهادئة الرصينة) الملاحظ في المسيرة التاريخية لحركة الثقافة و الفكر في السودان، إن المثقفين السودانيين نفسهم قصير جدا في المساجلات الفكرية، و حتى الثقافية، ما يبدأون مشروعا نهضويا، ثم تبدأ فيه المساجلات و الحوارات ينفضون من حوله، قبل أن يأتي هذا المشروع منتوجه المعرفي، و يصبح جزءا من الواقع الثقافي الذي يشكل الشخصية السودانية و سلوكها، تتركه النخب المثقفة في منتصف الطريق، و تبحث عن مشروع أخر جديد، كما إن النخب البعيدة عن الأيدلوجية لا تحبذ الدخول في مساجلات مع الأيدلوجيين، باعتبارها مساجلات بشبيهة بالجدل اليزنطي لا يؤدي لنتائج معرفية مفيدة، كما إن أغلبية الأيدلوجيين، و الذين يعانون من نقص المعرفة دائما، ما ينحرفون عن مسارات الحوار و قيمه الفاضلة إلي الإتهامات و التخوين، و هي إشارات تدل علي العجز. لذلك أخفقت النخب المثقفة في أن تضع خطوط عامة لمشروع نهضة، ثم تظل تدافع عنه حتى يصبح هو الرؤية المتفق عليها. و في البحث عن أرضية مشتركة، لكي تؤسس لقاعدة تاريخية جامعة لمجموعات التنوع في السودان، كانت رؤية الأكاديمين السودانيين تختلف عن أطروحات السياسيين، فمثلا في كتاب " دراسات في الوحدة الوطنية في السودان الصادر من جامعة الخرطوم كتب يوسف فضل مبحثا بعنوان "مفهوم الأمة السودانية منظور تاريخي" يقول ( كانت إنجازات كوش و فرعيها نبتا و مروي دليلا علي مقدرة السودانيين في خلق نظم سياسية متطورة " بين سنة 750 ق م و 350م" لا تقل في رقيها عن مثيلاتها في مصر و الشرق الأدنى. و منذ ذلك التاريخ المبكر و الذي بدأ بقيام حضارة كرمة وضعت اللبنات الأولي في تاريخ الأمة السودانية. و كان العهد النبتي و المروي هو نواة الوحدة القومية السودانية التي اخذت تتسع في اتجاه جنوبي جامعة للأطراف، جاذبة لها حتى عمت سائر البلاد. و لعل في انتقال العواصم من البركل إلي البجراوية، ثم قيام فرص و دنقلا و سوبا و بعدها قري و سنار ثم تقلي و الفاشر كمحاور لهذا التطور ما يدل علي مراحل نمو هذه الأمة. فقيام كوش دخلت الأمة السودانية التاريخ من أوسع أبوابه) و الفرق واضح بين اللغة الأكاديمية و الأيدلوجية. فالدكتور يوسف فضل يوضح مراحل التطور التاريخي في السودان باعتبار هذا التطور، هو الذي يؤسس لأرضية تاريخية مشتركة، دون أن يشكل إدانة أو إتهام لأية مجموعة، و في ذات الوقت يفتح مسارات للحوار بين تيارات الفكر المختلفة في البلاد، حينما يقول الدكتور فضل في ذات المبحث ( فالسودان شعب هجين لم تكتمل له عناصر الوحدة الوطنية و التجانس العرقي في كل أجزائه بعد كما يتسم بتعدد الثقافات و السودان بصورته الراهنة محصلة عوامل حضارية كثيرة. فجل أبنائه مسلمين دينا، و عربا ثقافة و اسلوب حياة، و هجنا أفارقة تكوينا و وجودا) و هذا الحديث يقودنا إلي ثورة 1924م التي فجرت أسئلة الهوية، رغم إن علي عبد اللطيف و رفاقه لم يكن لديهم الإحساس بالتمايز أو الدونية، لذلك كانت ثورتهم داعية لوحدة وادي النيل، لكن الهوية تمت إثارتها من قبل الآخرين الذين نعتوا هؤلاء بأنهم من قاع المجتمع، و ليس لهم قبائل معروفة تسند ظهرهم. كتب أحمد خير المحامي ص 20 في كتابه "كفاح جيل" يقول " أجتمع نفر في أمدرمان و حرروا مذكرة إلي الحاكم العام يستنكرون فيها حركة 1924، و يؤكدون أنها لا تحظي بتأييد القيادة الرشيدة، و الرجال المسئولين في البلاد، و لا سند لها إلا بين الرعاع و الغوغاء) لذلك سمتهم كوريتا "المنبتين" و لكن إذا رجعنا إلي التاريخ القديم للسودان الذي كان يدعو إليه الدكتور قرنق تصبح هذه القيادة الرشيدة التي حررت المذكرة هم أيضا منبتين، باعتبار أنهم جاءوا من مواطنهم الأصلية و تزاوجوا مع أهل المنطقة " النوبيين" و غيرهم من أهل الزرقة و أصبحوا يحملون صفات أو " عنصر غير نقي" إذا ما هو الفرق بين هؤلاء و أولئك، غير الثروات التي كتنزوها إذا كان مصدرها الاستعمار أو غيره. و الغريب إن أبناء هذه القيادات الرشيدة في الصراع السياسي سكتوا عن رفع رايات التهميش، بل تدثروا بها و تحالفوا مع بنادقها، دون أن يستنكروا ما حدث تاريخيا من خطاب سياسي يحمل كبرياء مجروحا، و الاستنكار و النقد ليس قيمة سالبة إنما تعني المراجعة، و معرفة العوامل التي أثرت سلبا و أعاقت مشروع النهضة السودانية، فالفشل ليس وليد لحظة، أنما جاء عبر تراكمات، أهملت النخب المثقفة السودانية إخضاعها للدراسة النقدية، كما إن المنتوج في الساحة السياسية من أفكار يكاد يكون معدوما، و في الساحة الثقافية أغلبه معطون بالأيدلوجية، منفر و ليس جاذبا للحوار بين التيارات المختلفة، إذا كيف تستطيع نخب سياسية مفلسة فكريا أن تصنع مشروعا نهضويا. في ذات المسار الذي ذهب فيه الدكتور يوسف فضل في كيفية، البحث عن أصول التنوع في التاريخ السوداني لمعالجة مشاكل اليوم، و الإجابة علي أسئلة مؤجلة منذ عام 1924م، ذهب أستاذ الأثار لدكتور يوسف مختار الأمين في ذات طريق الدكتور يوسف فضل، عندما كتب في الورقة التي كان قدمها لندوة السودان الثقافة و التنمية – نحو إستارتيجية ثقافية" التي كان قد أقامها "مركز الدراسات السودانية في أغسطس 1999" كتب يقول ( إنني اعتقد أن دروس الماضي يمكن أن تستغل بطريقة إيجابية لترتيب أوضاع الحاضر، ذلك لآن كثيرا من الأسئلة العالقة عن بعض خصائص الثقافة السودانية ربما تجد الإجابة عنها في التراث المادي القديم و بالتالي تصبح المعرفة الآثارية مناسبة لكشف بعض خفايا الحاضر) إن الإجابة علي الأسئلة العالقة لا تهتم بها النخبة السياسية، و حتى المثقفين الأيدلوجيين، و من حاول الإجابة ذهب يبحث في التاريخ، و أيضا كتب الدكتور يوسف مختار في ذات الورقة يقول ( إن استعادة التاريخ السوداني القديم، و أهميته في تعزيز دعائم الوحدة الوطنية، لم يكن شيئا معروفا، و لم تتسرب إنجازات الماضي الحضارية إلي كتابات المثقفين إلا لماما. هناك حالات نادرة في مجال استخدام الرموز و الأشارات التاريخية القديمة نذكر منها محاولة الأدباء اليساريين الشباب في الستينات، لتأسيس حركة تأصيلية في الأدب، أطلقوا عليها أسم " أبادماك" الإله الأسد في مروي القديمة، و هو رمز لديانة من إبداع المرويين خارج إطار الحضارة الفرعونية، و كان بنك السودان حتى وقت قريب يطبع علي ورقة الجنيه صورة المعبد الروماني الذي بناه ملوك مروي في النقعة) هذه الرموز و الإشارات الثقافية قد وجدت حملة مناهضة لها من قبل الأيدلوجيين الإسلاميين، و حتى " أبادماك" تأسست في خضم حوار المثقفين في دائرة الأدب في قضية الهوية " مدرسة الغابة و الصحراء" لكي تقدم رؤية أيدلوجية في الأدب و الثقافة، هي قضية سوف نتعرض لها في الحلقة القادمة. إن التاريخ الذي تحاول كل مجموعة أيدلوجية أن تجعله بداية التاريخ السوداني، هو نفسه مجالا للإختلاف، و يشكل أداة مانعة لأية حوار بين المجموعات المختلفة، لكي تصل إلي توافقات مشتركة، فالتمركز في خنادق الأيدلوجية، هو الذي أعاق بشكل كبير مشروعات النهضة في السودان، كما إن النخب السياسية و المثقفين خارج دائرة الأيدلوجية، عجزوا أن يقدموا مبادرات جاذبة، تستطيع أن تجر أكبر قطاع من المثقفين إلي دائرة حوار تصبح بديلا عن ما هو مطروح في الساحتين السياسية و الثقافية، كما إن تاريخ السياسة و الثقافة في السودان، يبين إن النخب غير المأدلجة لا تملك الجرأة في أن طرح تصوراتها بقوة، و تدافع عنها، و حتى إذا طرحتها لا تستطيع المكوث داخل الساحة لكي تدافع عنها بقوة، سرعان ما تنسحب خوفا من الاتهامات التي يمكن أن تثار من قبل الأيدلوجيين، إن كانوا في اليسار أو في اليمين، الذين يجيزون القتل المعنوي للمخالفين معهم في الرآي. فالرجوع للتاريخ الذي دعا إليه الدكتور جون قرنق، لكي يؤسس علي قاعدة ثقافية تتفق عليها كل المجموعات الثقافية في السودان فشلت في أن تمضي، و ظلت دعوة الأكاديميين السودانيين هي التي تستند علي قاعدة ثقافية علمية، و لكن الهوة العميقة بين المؤسسات الأكاديمية و بين المؤسسات السياسية، تجعل فرص الحوار الهادف غير متاحة، و أيضا عدم إتاحة الفرص لتطبيق الدراسات الأكاديية في حقولها المختلفة في المجتمع. و بالتالي ما يمثل إشكالية لنجاح مشروعات النهضة، و التي تتأتي عبر أتفاق بين مكونات المجتمع الفاعلة و المؤسسات المختلفة. لكن أيضا الملاحظ إن الأسئلة التي شغلت المجتمع الثقافي في قضايا الهوية، و محاولة الإجابة عليها، تأسست داخل المؤسسات الأكاديمية، و ليست داخل المؤسسات الحزبية. و سوف نتعرض لذلك في الحلقة القادمة. و نسأل الله حسن البصيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة