حينما توفيت الحاجة سعدية كان الحزن على المستقبل أكثر من الحاضر..مضت الحاجة الى ربها تاركة قنبلة موقوتة..الشاب صبري الأبن الوحيد للحاجة سعدية..كان صبري قصة غريبة منذ مولده..خرج ابن سبعة أشهر ولكن كان حجمه أكبر من المعتاد..شب بسرعة مع متلازمة البنية الجسدية ذات القوى والشكيمة وبطء في قدرات التعبير والمخاطبة..اعتاد على احراز المركز الأخير في الدراسة دون أن يشعر انه يسيء صنعأ ..ترك المدرسة دون أن يدرك إلا النذر اليسير. كانت القرية بحوجة إلى خدمات صبري.. بسبب شجاعته بل قل تهوره كان الغرباء يلزمون الحد..حينما حدث ذات مرة نزاع مع بعض البدو تصدى لهم صبري ببسالة مازالت حاضرة في مجالس القرية..لكن الجانب الآخر ايضا متواجد في شخصية صبري..الفوضى في كل شيء.. لا احد يستطيع أن يردع رجل يوصم بالجنون ..كان من حق صبري ان يقطف اي شجرة نخل دون أن يحتج صاحبها..يكتب أسمه في كل البيوت ..قوته الفائقة جعلت القرية تتجنب شروره وفي ذات الوقت تبذل ما في وسعها لكسب صداقته.. كانت له حكم غريبة منها ان الناس تخاف من الموت وهو يبحث عنه..كان حينا يلزم المسجد واحيانا يفطر في رابعة نهار رمضان..يطلق اللحية حينا ويحف الشارب مرات..البعض يصنفه زاهدا وكثيرا من الناس يعتقدون انه ضحية مخدرات. حينما ينفجر صبري غضبا يغلق الناس أبوابهم.. تخلى الشوارع من المارة.. نوبة الغضب ربما يكون سببها تافها مثل ان يتناجى اثنين فيظن انه محور الحديث.. او يكون موقفاً بطولياً اذا ما ادرك ان شاباً تجاوز الحد مع واحدة من بنات الفريق..في كل الأحوال لا احد يستطيع ردهة الى الهدوء سوى حاجة سعدية.. الآن غابت قوى الردع وشبكة السيطرة.. حزنه على أمه كان غريبا .. دموعه تهطل دون أن يخرج نحيبا.. أصر على أن يحفر قبر أمه بيديه..على ناحية بعيدة من القبر نادى حاج خضر مجموعة من وجهاء القرية لبحث مستقبل صبري. شيخ الأمين اقترح ترحيل صبري إلى الصعيد حتى تتجنب القرية شره وفي المدينة متسع وقانون رادع..مولانا أبوالقاسم استنكر المقترح اللاإنساني عارضا تزويج صبري من احدى حسان القرية..الطيب ود امونة ضحك طويلاً قبل أن يلتفت يمنة ويسرى ليتأكد أن المكان آمن ..تسائل ود أمونة عن من تتزوج هذا المجنون..ثم سرد للحضور محاولات حاجة سعدية التي طرقت عشرة ابواب في القرية والقرى المجاورة لتحظى بعروس دون ان تنال مبتغاها.. حسن كدوس طلب رفع الجلسة الى اليوم التالي حتى يتثنى لهم المشاركة في دفن المرحومة. في اليوم الثالث أعلن انتهاء مراسم العزاء..حسن كدوس الناطق بأسم الوفد همس في إذن صبري وبعد مقدمات دبلوماسية نقل اليه دعوته إلى اجتماع تقرير المصير في بيت العمدة بعد صلاة العشاء..تفرغ المعزيون وذهب الوجهاء إلى منزل العمدة في الموعد..انتظروا ساعة واُخرى دون أن يحضر صبري..رفعت الجلسة الى اليوم التالي ولكن الرجل المطلوب لم يحضر ..مرت حتى الان عشرة سنوات دون ان يتبين اثر للرجل الغائب..اجتاحت القرية اكثر من حادثة اعتداء ولكنهم افتقدوا السيف الذي كان يدافع عنهم. مضت عشر سنوات على الغياب الغامض..بعد كل فترة تاتي رواية..فيصل الحسن اكد انه رأى صبري مع الطائفين حول الكعبة ومن شدة الزحام لم يدركه ..فاطمة الامين أقسمت انها قابلته في موقف (شروني ) يتولى تنظيم حركة المرور في زي رجل شرطة وحينما حاولت استنطاقه تجاهلها ..أخر رواية جاءت من افريقيا الوسطى وراويها اكد انه زار شيخ صبري في مسيد له لا يبعد كثيراً من الحدود..لا احد على وجه الدقة يدرك إين صبري حتى هذه اللحظة.. الرجل قرر مصيره دون أن يشاور أحد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة