عند ما أخبرها الطبيب-عقب الولادة-أن طفلها مصاب بـ"متلازمة داون"، ماتت الفرحة في قلبها، وأفسح الحزن له مكاناً عميقاً فى دواخلها، و هاجمها ذلك اليأس الذي يحمل فى ركابه الشعور بالعجز وقلة الحيلة و الرهبة من التعامل مع من تتطلب رعايته الكثير والكثير جداً من الحب و الحنان و الصبر. وبعيداً عن الأسباب التي قد تؤدي إلى ولادة طفل مصاب بـ"متلازمة داون" و ما يتبع تلك الاسباب من مصطلحات علمية معقدة، أقول أنني قد أردت في هذا المقال أن أصور او أتخيل حال ذلك الكائن البريء الذي قد جاء إلى الدنيا ليتفاجأ بأن الجميع من حوله يستقبلونه بوجوهٍ مكفهرَّة و عيونٍ مذعورة، فهاله الأمر حينئذ و تملَّكه الخوف وتمنّى على نفسه أن يعود مرة اخرى لرحمٍ قد قذف به خارجاً إلى دنيا مليئة بالقساوة، وفى وسط أناس قد تقاصرت عقولهم و تراجع بهم إيمانهم عن إدراك مشيئة الله و حكمته فى ابتلاء فئة من عباده بأطفالٍ، هم بما يتسمون به من براءة و نقاء أشبه بملائكةٍ صغار تمشى على الأرض.
إن ذلك الطفل المصاب (المسمى خطأً بـ "المنغولي")، حنون رقيق الإحساس .. نقى السريرة .. ينثر البهجة على من حوله فهو خفيف الروح والظل .. لا يحقد .. ولا يحسد .. ولا يتذمَّر. هذا الملاك الصغير يهديك دائماً وفى كل الأوقات ابتسامته الصادقة الجميلة تتسلل اليك مثل نسمة باردة فى عز الصيف لتلامس شغاف قلبك .. ابتسامة حقيقية صادقة .. ابتسامة لا تشبه تلك الابتسامة التى يحملها الكبار معهم "للاستعانة" بها وقت الحاجة، والتي يصدُق عليها القول .. "وجوهنا تبشُّ في وجوه قومٍ وقلوبنا تلعنهم". تعود الأم بطفلها إلى البيت وقد تملَّكها القلق من مواجهة مجتمعٍ جاهل لا يجد مندوحة من أن يصدّر إليها ذلك الإحساس بأن طفلها وصمة يتعيَّن عليها أن تداريها عن العيون.
أعرض هنا مشهدين يعبِّران عما أردت أن أقوله فى هذا المقال .. المشهد الاول: ( وكان الدافع لطرق هذا الموضوع) .. فى أحد المراكز التجارية في "أبو ظبي"، تعبت قدماي من التنقل بين المحلات، فجلسْتُ على أحد المقاعد ارتاح لبعض الوقت، عندما جاء طفل في العاشرة من عمره و جلس بجانبي .. و ماهي إلا لحظات قلائل حتى جاءت أمه.. شابة صغيرة السن... جاءت فزعة تبحث عنه بعينين قلقتين..."وين رحت يا بعد عمري خلعت قليبى عليك"... واحتضنته بقوةٍ ثم سحبته وراءها من يده لتلحق بركب رفيقاتها و.. أطفالهن"الأصحاء" المتوجهين إلى مدينة الملاهي الخاصة بالأطفال في "المول".. لم ينس ذلك الملاك الصغير قبل أن يغادرني أن يهديني ابتسامة جميلة غشت روحي مثل نسمةٍ باردة في عز الصيف. المشهد الثانى : قرعت جرس الباب...انتظرتُ طويلاً ...كان أهل الدار بالداخل يعالجون الفوضى و يجمعون ما تبعثر من أشياء هنا و هناك .. من بين تلك "الأشياء" التي جمعوها طفلهم "المنغولي"...أخفوه بالداخل فيما كان إخوته يرتعون ويمرحون في حضرة الضيوف...والداه يحبانه نعم...يغدقان عليه من عواطفهما الكثير لا خلاف على ذلك، لكن أن يحرماه من الاختلاط بالناس تحسساً وتحرجاً من نظرة أولئك الناس إليه، فهذا والله جُرمٌ كبير يوازي فى ظني خطيئة الاعتراض على مشيئة الله. إن احتقار ذكاء أولئك الأطفال والاعتقاد بأنهم "لا ينتبهون" هو ضربٌ من الغفلة والسذاجة. فهؤلاء الاطفال على درجةٍ عاليةٍ من رهافة الحس والملاحظة، وقد يؤدي بهم ذلك الأسلوب الإقصائي إلى التقوقع في ذواتهم ما يضاعف العبء على الأهل فى تعليمهم واكسابهم مهارات تساعدهم فى الاعتماد على أنفسهم. أما فى حال كانت إعاقة بعض أولئك الأطفال ليست من الحِدّة بحيث تحول بينهم وبين الالتحاق بمدارس تستوعب التلاميذ من ذوي القدرات المحدودة، فأنا أتخيل أيضاً أن تلك المعاملة قد تؤثِّر على تحصيلهم الدراسي. وفي نفس ذلك السياق نجد آخرين يبررون ذلك الأسلوب اللاإنساني بالقول بأن البعض من أولئك الأطفال يجنح إلى العنف، ما يجعل احتواءه أمراً صعباً. ولكن مع التقدم العلمي في مجال الطب فقد أصبحت هناك عقاقير فاعلة تعمل على الحد من نوبات العنف التي تعتريهم فى بعض الاحيان. من جانبٍ آخر، أرى أنه إذا حَرِص الوالدان على إشعار الآخرين بأنهم ليسوا محرجين من وضع طفلهم، فإن ذلك يجعل الأمر عادياً أمام الناس فلا يتوقفون عنده طويلاً. وأخيراً أقول إن أولئك الأطفال قد يكونون من قبيل النعم الباطنة التي يحسبها البعض نقمة (Blessing in disguise) فتحل بالدار البركة، ويجد أهلها أن الله قد حباهم بنعم وجوانب مشرقة في الحياة قد لا يفطنون إليها وهم "يكرِّسون جُل وقتهم" في التحسر على حالة طفلهم.
*هذا المقال يشمل أيضاً أطفال التوحُّد، كما يشمل الأطفال الذين قد تعرضوا لإعاقات بدنية أو ذهنية بسبب الحوادث أو بسبب بعض الأمراض.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة