|
ترى أين أنت الآن يا فاطمة؟بقلم هاشم كرار
|
مارأيتها قط، لكنها حين تحدثت لوكالة رويترز قبل سنتين، شفتها.. وقديما قيل تكلم حتى
أراك.
يابسة من لحم الدنيا، ومنهكة. بسيطة كأول يوم في المعايش.. طيبة، مثل العشاء باللبن.
قالت إنها فاطمة، ولم تزد. لمعسكرات الفرار المرعوب من اللظى، أذان طويلة، وألسنة وشّاية، وما أكثر الذين كان مصيرهم بائسا جدا، حين تتحرك ألسنة الخيام المتربة بالوشاية لأذان الجنود ، الذين لا يريدون لأي لاجئ أن يفتح فمه للمراسلين، خاصة الاجانب.
لم تزد، وكانت قد تلفتت.. وراحت تكثر من التلفت، وهى تحكي عن حلمها البسيط.. حلمها الذي لم يعد بسيطا، في زمان الرصاص الذي يعوي، وزمان التلفت والحكي عن الأحلام بصوت خفيض.. زمان أن تقول أسمك فقط غير متبوعا باسم أبيك، للتعمية،، فما أكثر الفواطم ذوات الاحلام البسيطة، في معسكرات الفرار من الموت!
أحلم ان أزور قبر زوجي،وقبر أبني، في قريتي؟
أي قرية يافاطمة.
تلفتت، ولم تزد.. لو زادت، لكانوا قد أتوا بكل الفاطمات في القرية المذكورة، ولكانت قد ضاعت منهن واحدة- أو لكانت قد ضاعت فواطم!
أتحدث عن فاطمة، ولا أدري ما إذا كانت لا تزال حية تتلفت، في المخيم البائس، في أحد مخيمات دارفور، أم تيبست بردا، أو جفت حرا، أو تسممت بالطحين المسوس، أو بواحدة من علب السردين المنتفخة، أم قتلها الحلم البسيط، المستحيل.
لا من قرية- قريتك - يافاطمة، وليس هنالك من قبر. في الحروب، هنالك قبر واحد للجندي المجهول.. ولا قبور للأزواج، ولا قبور للأبناء، على الإطلاق!
مسح مراسل رويتر دمعة، وهو يتلفت أيضا. همست فيه فاطمة وهى تنهنه برعشة البكاء: لا تبك ياولدي!
ياولدي؟
رنت نهنهة فاطمة في كيان المراسل كله. لو كان يستطيع التبسم، لكان قد تبسّم غبطة، وهو قد استحال إلى ولد لها، في زمان الولد الذي أصبح مجرد جثة، في قبر لا شاهد عليه، في قرية لم تعد موجودة على الإطلاق، إلا.. إلا في خيال أم لا تزال تحلم، حلما بسيطا جدا، لكنه صعب المنال!
- لا تبك ياولدي، لا..
المراسل، لا يزال في مكان ما، في هذه الدنيا، يبكي من وقت لآخر، كلما تذكر فاطمة.. فاطمة صاحبة الحلم البسيط. يختنق بالبكاء، وهو يقول من بين غضتين: فاطمة ، يأمي، ليتك تعلمين أن الأحلام البسيطة تقتل قتلا، في زمن الحروب التي تقتل الزوج والإبن والزوجة والجد والجدة، والجارة التي كانت تصبحك بالخير.. وبالخير تمسيك!
ترى أين أنت الآن يافاطمة.. يا أمي؟
|
|
|
|
|
|