|
تأمُلات فِي صُورة الذّاكرة السودانية و حَيْرَة الحَاضِر السِّياسِي بقلم : الاستاذ / أحمد يوسف حمد
|
الشعب السوداني حبيس الآمال و الإبداع , و لكنه بين الفينة و الأخرى يرقب السماء علها تمطر ذهبا ً , و هو لا يدري ان الذهب بين قدميه و أمام ناظريه. وطن أغنى ما يكون في الزراعة و المياه و المعادن و فوق كل ذلك بالبشر. و شعوب أكثر ذكاءا ً و ثراءاً في الثقافة و الإرث الأكاديمي. و لكن يد التسلط العسكري و الدكتاتوري و القواعد الجامدة و كثرة الفرضيات. جعلت يده مغلولة, و انسانه قليل الحيلة , و مُعاق الابداع , و تسلطت عليه المواقف السلبية و الخوف و الفشل و أرهقته التكاليف و أجهدته ايادي المترفين و العسكر و المرتزقين.
عندما نتحدث عن تفاصيل الذكريات السودانية يندهش الآخرون. و على سبيل المثال لا التعميم في أحدى دول الخليج ذات العائد المادي الضخم , التقيت مع زميل مهنة خليجي , تجاذبنا اطراف الذكريات عندما كنا صغار , فذُهل و قال لصديقه من بني جلدته : " كل الناس لديهم ذكريات الا نحن , لماذا؟!" فهو يقصد بالذكريات التفاصيل الاجتماعية و الثقافية للطفل.
كان هذا مدخلي لهذا الموضوع , فذاكرة الطفل السوداني و ذهنيته تكاد ان تكون من أغنى الذهنيات بكل أنواع الذكاء(الثمانية) في العالم. يكاد ان يكون الطفل السوداني من أكثر المستمتعين بأنواع الذكاء الثمانية , و ذلك لتوفرها في بيئة السودان الثقافية و الاجتماعية و التعليمية. و لكي تكتمل المقارنة و القياس سأذكر هذه الانواع باختصار :
1. الذكاء اللغوي (اللفظي) 2. المنطقي (الرياضي) 3. الحسي (الحركي) 4. التفاعلي (الاجتماعي) 5. الذاتي (الفردي)
6. الموسيقي (النغمي) 7. البصري ( المكاني - الصوري) 8. الحيوي (البيئي)
كل هذه الانواع الثمانية تكاد تكون متوفرة في حياتنا اليومية أو في المدارس. فالطفل السوداني فطريا هو موهوب و ذكي. فلماذا يمثل هذا الذكاء فشل كبير في المستقبل؟ سؤال صعب و الاجابة عليه نظريا ً قد تكون ممكنة , و لكن تطبيق الاجابة في الواقع المعاش يبدو ان ذلك أمر صعب.
يمتاز المجتمع السوداني بالتحدث في الثقافة و السياسة , بكل أطيافه و أصنافه و طبقاته. و بهذا يكون قد تمكن من ناصية الذكاء اللغوي اللفظي و الموسيقي النغمي و البصري و التفاعلي و الذاتي بامتياز. و لكن معضلة تحويل هذه الانواع من الذكاء لصناعة حديثة تغير وجه المجتمع المادي و الحضاري , يبدو انها هي علة هذا المجتمع. يكثر النقاش في كل مكان في السودان , و ينسحب الوقت بدقائقه و ساعاته من بين ايدي الناس و هم لا ينتبهون. فالوقت مهدر و العمل غائب. لم تكن المنظمات المدنية و الحكومية و الحكومات في أي وقت حاضر أو مضى في السودان , الا صورة لذاكرة المجتمع السوداني الذكي ثقافياً و اكاديمياً والحائر في منابر الحكم و السياسة سلوكيا وعملياً و تطبيقياً.
الشعب السوداني أقرب للرفاهية الغائبة التي كان يعيشها في سبعينيات القرن الماضي , اذا أوكل أمره لمن يشبهه في الابداع من بني جلدته. على السودانيين أن يجعلوا في مقدمة ركبهم الشرفاء الذين يبتعدون عن الفساد و يلبسون ثياب الورع و الزهد و التفاني. لا مجال لفكر مستورد , لابد من تغير المفاهيم و القناعات و على الشباب ان يتسلم راية المعاصرة و التطور. فالشعب السوداني يحتاج لمبتكرين تشربوا قيم السودان و اخلاق انسانه , لا يفرضون سلطتهم على الغير , يزودون المجتمع بالجديد من المبتكرات , يتمهلون في اصدار الحكم , يستطيعون تشخيص و تحليل المشكلات و ايجاد الحلول لها. البعد عن التقليد ان كان ذلك فكريا أو عقديا , بل يبتكرون و يقلدون في العلوم المتطورة و الاقتصاد المعاصر. و أن يكونوا قادرين على تنظيم افكارهم و أفكار الشعب و أولوياته , أي الانحياز التام للشعب لا لحزب أو عقيدة أو جماعة أو طائفة , فهذا بيت الحكمة و اسباب النجاح.
فالحوار هو أساس العملية السياسية و التربوية في البيت و المدرسة و الجامعة , فالعلاج قد يكون في ضبط المواقف , قد نحتاج للمغامرة لأنها قد تأتي بالمتوقع , و قد نحتاج للاسترخاء لأنه قد يأتي بالناضج من الفكر و الجديد من الاجيال , قد نحتاج للاعتقاد العكسي في كثير من الموروثات السالبة , قد نحتاج ان نخرق كثير من القواعد المكبلة للإبداع و الانطلاق. فالمشاكل التي تدوم سنوات و قرون ليس لها حل الا ثورة ابداع و سياسة و اقتصاد و لكن برؤية جديدة محدثة. فذاكرة السودان ثرة و غنية و لكننا نحتاجها للاستلهام و تدفعنا للتجديد بنفس الرؤى الوطنية و الثقافية و الاخلاقية التي تخصنا.
|
|
|
|
|
|