في حياتنا الإجتماعية والثقافية والسياسية والعامة هناك آراء وأقوال أصبحت من المسلمات وغدا إستعمالها يتم ميكانيكيا دون تفكير أو تدبر ، والمشكلة إن مثل هذه المسلمات تبقى لفترات طويلة سائدة دون أن يتوقف الناس ليسألوا أو ليكتشفوا أنها غير صحيحة أو على الأقل تنقصها الدقة ، كثير من مثل هذه المسلمات التي أصبحت جارية علي كل لسان نجدها في الكتابات في الصحف وفي الأحاديث لأجهزة الإعلام والأحاديث العامة وفي الخطب السياسية وأحياناً حتى في الكتابات الأكاديمية . إستخدام هذه المسلمات ، بصورة متكررة جعلها تبدو كأنها حقائق لا يتطرق إليها الشك ، وهي ليست كذلك ، فهي في النهاية آراء قيلت حول موضوع ما ، وهي آراء ذاتية لا تسندها أدلة من أي نوع ، وهي أحياناً تحتوي على بعض العموميات لكن في عمومها غير دقيقة ، وغالبا ما يكون الموضوع سواء كان سياسياً أو ثقافيا أو إجتماعيا قابل للجدل بحيث من الممكن لأي شخص أن يكّون رأي حوله من وجة نظره ،لكن معظم الناس يفضلون الرأي الجاهز ( المسلم به ) ، ورغم أن كثير من هذه الآراء كما قلنا غير دقيقة ، رغم ذلك يصدقها الناس على أساس أنها صادرة من مصادر يعتقدون أنها موثوقة أو مؤهلة لإصدار مثل هذا الرأي ، فيقبلها الناس على عمومها ويتم تناقلها بناءً على ذلك دون التحقق من مصداقيتها . من الأمثلة على ذلك ، نجد في الساحة السياسية هناك كثير من مثل هذه الآراء التي تحولت إلي مسلمات حيث نجدها تشكل حضورا دائما في الأدبيات السياسية وكتابات الذين يتناولون الشأن السياسي ، ويلاحظ أن من يستخدمونها يقولون بها باعتبارها شيء مفروغ منه ، فلا تأتي هذه الصيغ على أعتبار أنها رأي لأشخاص آخرين مسبوقة ب " ويرى البعض ، أو يرى كثيرين من ..... " مما يوضح أن هذا الرأي " لبعض " أو " لكثيرين " ودون أن يكون هناك تعليق من الكاتب أو المتحدث ، فالمستخدم في النهاية يريد أن يؤيد وجهة نظره بهذا الرأي كشيء مفروغ منه مما يعني أن إيراد العبارة بتلك الطريقة أنه مؤيد لهذا الرأي . فمثلا من هذه المسلمات القول " أن حكومات ما بعد الإستقلال كانت السبب في عدم قدرة البلاد على ان تتخطى مرحلة ما بعد الإستقلال ، والنهوض بالبلاد، والإنتقال إلى مرحلة أفضل مما كان عليه الحال ، ومن الأسباب التي يسوقونها ، إعتقادهم أن الأحزاب التي أتت بعد الإستقلال لم يكن لها برامج وخطط للنهوض واللحاق بركب التقدم ، بسبب الإدارة الحزبية للحكومات ،هكذا .....، فلا تمييز بين الحكومات التي عملت وتلك التي لم تعمل ، وبين التي حافظت على ما وجدته وتلك التي دمرت ما وجدته . في الفترات الديموقراطية التي كانت سنوات حكمها تعد على أصابع اليدين لم تمارس عمليات غسيل الأدمغة وحشو الرؤوس بالإنجازات الوهمية لذلك يظن الذين يرددون تلك الاقاويل دون معرفة أحوال تلك الفترة أن تلك الحكومات لم تفعل شيئا ، مثل تلك المقولات فيها تضليل وتنقصه الدقة . فمنذ خروج المستعمر ولفترة عقدين كانت البلاد في صدارة دول المنطقة في معظم الجوانب إدارية ، إقتصادية ، تعليميه ، خدمة مدنية ، قوات مسلحة ، دبلوماسية الخ ..وكانت تنمو تدريجيا وكان إقتصادها من أقوى الإقتصاديات في المنطقة . فكيف تحقق ذلك ؟ من الواضح أن الذين قالوا بهذا الراي كان الحكم الذي قالوا به مبني على وجهة نظر سياسية لا تتفق مع تلك الأحزاب ، ولم يكن حكماً مبرءاً من الكيد وتبعهم الآخرون دون تدبر ، وهؤلاء يعتقدون أنهم يثقون في الذين صدر عنهم هذا الرأي لأنهم يعرفون عن هذه الأحزاب أكثر مما يعرفون هم . ومنها أيضا وصف الأحزاب التاريخية التقليدية بأنها ( أحزاب طائفية ) ، علما بان الطائفة كيان منغلق إجتماعيا وثقافيا ودينيا ، وهذه الأحزاب ليست منغلقة في الجوانب المذكورة ، فهي منفتحة على الكيانات الأخرى إجتماعيا وسياسيا ودينيا وثقافيا ، ومن ينتمون لها يتوزعون في شرائح وطبقات المجتمع المختلفة ويتزوجون بنفس الطريقة التي تمارس في المجتمع ، ولا توجد فواصل بينهم وبين هذه الطبقات والشرائح ، وبالتالي لا تنطبق عليها هذه الصفة ، ورغم ذلك توصف بهذه الصفة التي ألصقها بها منافسوها من التنظيمات السياسية والأحزاب الحديثة التكوين ، وصارت هذه الصفة ملازمة لهذه الأحزاب ترد مرادفة لها في الأحاديث والكتابات و في الأدبيات السياسية " الأحزاب الطائفية " بإعتبار إنتماء هذه الأحزاب لكيانات دينيه . ومن هذه المقولات ( ان الديموقراطية لا تناسب السودان ) ، بزعم أن الشعب لم يصل درجة كافية من الوعي الكافي لممارسة الديموقراطية هذا القول الذي يرد كثيراً في الأدبيات السياسية يكذبه الواقع ، وهو قول روجته الأحزاب التي لا تؤمن بالديموقراطية لأنها تعتقد أنها لن تتمكن من الوصول للحكم من خلال الإنتخابات ، فكان ذلك القول لإيجاد تبريرات لإستيلائها على السلطة بواسطة الإنقلاب العسكري ، وتنفير الناس من الديموقراطية . من هذه المسلمات في الحياة الثقافية ، مقولة أن معظم الآفات التي نعاني منها من فوضى وعفوية وعدم التزام بالنظام والركون للراحة وعدم إحترام العمل اليدوي وغيرها أتي من سيطرة العقل الرعوي على سلوكنا لأننا ما زلنا في مرحلة البدواة ولم نصل إلي مرحلة التحضر أو التمدن . ولو فحصنا كل قول من هذه الأقوال لوجدنا أن هذه الآفات ليس سببها العقل الرعوي المفترى عليه ، وإنما جاءت من عدم وجود منهج للثقافة العامة يرسخ مفاهيم حضارية يتعامل بها الناس في حياتهم اليومية. فالنظام قيمة حضارية وسلوك يمكن أن تعلمه مؤسسات الدولة للفرد بالممارسة والتثقيف وينطبق الأمر على بقية السلبيات الأخرى . ومنها أننا شعب شفاهي ، نتحدث ولا نوثق ما نقول ...!! وهل كل حديث يجب أن يوثق ؟ صحيح لا يزال مجتمعنا تقليديا في كثير من جوانب حياته ، والشفاهية هي أحدى خصائص مثل هذا النوع من المجتمعات ، لكنها من الناحية الإصطلاحية هي نوع من التوثيق له أساليبه خاصة فيما يتعلق الإنتاج الجمعي ( تاريخ المجموعات ، آدابها ، ممارساتها ألخ .. ) فنقول أن هذا النص محفوظ شفاهيا ، رغم أن الشفاهية لفظا تعني الحديث غير المكتوب ، أو المدون ، فهي إذن إصطلاحيا تعني أسلوب توثيق يتميز به الإنتاج الثقافي للجماعات الأمية أو الثقافة غير المكتوبة . أما عدم التوثيق الذي يستحق المؤاخذة ، فهو إهمال عناصر هامة في تاريخنا وثقافتنا وحياتنا الإجتماعية وحتى الإقتصادية المعلومات عنها شحيحة رغم وجود بعض مصادرها . نختم ونقول يجب مراجعة مثل هذه المسلمات حتى لا تظل المعلومة غير الدقيقة متداولة ويتم التعامل معها على أنها حقائق لا تقبل الجدل في ظل غياب حاسة البحث والإستقصاء لدي النخب السياسية والثقافية .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة