|
بهنس.. عويل حبة الخال/ناصر البهدير
|
قصص ما بعد منتصف الليل التي تروى على طريقة الهدهدة منذ قرون أجزم بأنها لا تتطهر بهذه الطريقة التي اختار عبرها بهنس أن يخلد بها نفسه في أضابير الوهن الإنساني وضمن زمرة الأدباء الذين رحلوا على قارعة الإنهاك والجدب الوطني وهم يعبرون صراط مخاضهم الكبير بعد ذلك الضنك والوحشة القاتلة وإخوان الانسانية الذين غابوا في غياهب الذات.. ومثلما كل إنسان مشروع مقال أدبي أو مادة صحفية إلا أن بهنس قافلة من دفاتر الحكاوى والروايات المترعة بالتفاصيل التي خطها بيده وختمها بمرافعة مجيدة على أرصفة صديقه النيل في زمن بائس وجاحد. وغابت النفحة! سيان إن كانت نفخة أو موجة من البرد القارس هى التي أشرقت بحبة الخال الموسوم بها حد العويل والنحيب حيث صنعت من وسامته أرخبيلاً للعزاء والنواح وحائط مبكى لاحزاننا.. كلها الأشياء تتشابه في التساوي بين حقول العهر المريض بوصمة الأنا والتي أكتنزت بعض دم من ضلع فنان وصنعت منه تمثال متيبس في حلقونا سننظر إليه كلما اشتهينا أن نبكي ضمائرنا. لا تُذكر جامعة أم درمان الأهلية في تسعينات القرن الماضي إلا ويذكر معها محمد حسين بهنس، إذ أضحيا كتوأمين لحالة بديعة من الحرية والإنسجام الإنساني، عاش تفاصيلها جيلنا الذي عاصره في الكثير من مشاوير صور إبداعه المليحة. نتذكره بدون جلبة وهو يتنقل محملاً بأدواته الإبداعية في حقيبة مهترئة ذات ألوان باهتة يضعها على ظهره حيث تفوح برائحة الأوراق والكتب والوان الرسم والزيت وأقلام الرصاص أو جيتاره الأنيق الذي يمتشقه في كل مكان ولا يبالي بالشكليات الرسمية والبرتوكولات المكتبية أو تساؤلات عوام الناس وتأفف نخبة وصفوة المجتمع.. كما كنا نراه عن قرب واحتكاك بسمته المهيب وصمته البالغ يومئذ عند دخوله وخروجه بأدب بين بوابات أروقة الصحف اليومية كفراشة تتحلق حول نفسها في هالة من الضوء الشفيف.. ها هو ينسل من عمق شوارعنا المتربة بذات الهدوء والجسارة شاهرا ومفجرا فضحيتنا إثر هروبنا الكبير نحو مرافيء الهجرة والغربة أو كتم الأنفاس وشح الأرزاق بالداخل. شاب نشيط وهاديء الملامح وخفيف الظل ومتعدد المواهب والمهارات المتنوعة وشعلة من العطاء.. واضح الخطوات والتعابير والهمهمات وتسكنه طاقة متفجرة وحيوية تكاد لا تنضب مع كل ميلاد جديد من الإبداع يمنحه للناس بلا ثمن.. فهو صاحب روح جياشة ومفعمة بالاتقاد ونباهة في قرض الشعر وكتابة الرواية والقصة والنحت والتشكيل والتصوير الفوتوغرافي والعزف الموسيقى والغناء والتلحين والصمت البهي والقلق الخلاق. بهنس رحمة الله عليه لم يكن عاديا حتى نصمت عن فاجعة رحيله الأبدي.. ومثله؛ نوافير الدم وطواحين الموت المجانية التي نصبها المناضلون واللصوص والمرابون عند كل حارة وزقاق.. ودعنا بهنس بشارة الهزيمة والمرارة ولكنه أراد أن يقول لنا: كفى نقيعاً ولعباً على المراجيح!.. طالما صاحب الوقت والرفاق إختاروا الخنوع والتمرغ في سجادة العطايا بين رخام الذات المهزومة.. واستلموا كامل مخصصاتهم الوظيفية لجز دهن الوطن. قال كلمته صاحب الشامة ومضى وقالها من قبل حين إمتطى موسيقاه وفرشاة ألوانه الخالدة وعربد بالشوارع مغنيا وعابسا وضاحكا ومتبرما ومتمردا ورساما ومتشردا في جوف غيمة حزنه وشجنه الخاص والعام وما (راحيل) إلا منطاد صعوده الأبدي إلى السماء وعروجنا الأخير حين عرتنا الجحافل المستنيرة حتى سقطت وأضحت مجرد ذكرى أليمة. وقالها العبقري وشهق بصوته الجميل وأنامله السحرية والمدهشة أينما وضعها نبتت زهرة ولوحة وطفلة وحبات سمسم.. قالها في حصار ملك الموت وتفرغ الرفاق لوسم بعضهم البعض وكأنهم بجعات برية تحلم بتفريخ البيض الذهبي والريش الناعم المزركش. فالهزيمة واحدة إن صنعتها السلطة أو أولئك القابعون على برج أحلامهم حتى يزول المشروع الحضاري وأصنام الحسكنيت البغيضة وكل تلك الوجوه القذرة التي سرقت بت أم لعاب والبرغل والبراءة وخصل العفنون وفحل البصل والإنسانية. كلنا بهنس حين يتقيح الجرح ولا يندمل ولا يجد من يطببه ولو بضمادة من لبن العشر الوطني.. هى حكاية موغلة في البكاء المستغيث لنزالة وطن يحترق من بين أيدينا منذ يوم أن فرطنا فيه.. وبهنس سيفنا المثقف حالة من آلاف المشاهد المخزية التي تكتظ بها دروب الوطن وجيوب الغربة اللعينة حتى طرقاتنا الممتلئة بستات الشاى والفول والتسالي وجذع كل الأشجار العالية التي تستعد للسقوط.. ستطاردنا اللعنة طالما ساهمنا في هذا النزيف والدم المحترق بصهد حجة الانتماء والنضال والتحريض وذلك الزيف.. من قبل أنزووا كُثر- بعضهم رحمة الله عليهم وأكثرهم نسأل الله أن يرد غربتهم الروحية - وغابوا في دهاليز تلك الأنفاق التي بانت لهم أرحم منا جميعا.. كنا قتلة ومأجورين يوم أن قررنا تأجيل التضامن من أجل تناول جرعة الممانعة وهتاف إسقاط الطغمة وصاحب المديدة والصديد وإنشغلنا بتفاهاتنا الصغيرة وتسويق سياسات النضال العاطفي وقبض العمولة وثمن الإعلان البخس تحت طاولة منهج النقد والإستنارة . يرحل بهنس في عتمة الخوف والهروب الكبير ويترك رسالة قاصفة، وإن تدثرت بالبرد والجوع والتشرد.. سؤال يجب أن نقف عنده في حالة المثقف الطريد بفعل السلطة وفي حالتنا جميعا هنا وهناك وإن ضاقت المعابر والمداخل والأنفاق. لعلها التراجيديا الفاجعة أن يصادف اليوم العالمي للمهاجرين أوان إعلان رحيل بهنس المتجمد وسط صمتنا المخزي والمزري والعاجز عن الإبانة.. كيف تسرب من بين أيادينا وتفرق في الأعالي منشورا بطعم الفضيحة.. والحية بيننا تمتص رحيق الشوارع ودمها.. فالموت راحة له من تلك الطلاسم والأقانيم التي ترعي ببلاد السباع والضباع والهوام التي إختصرت الحياة في تلافيف الذات.. فالله أولى به منا جميعا؛ حين فشلنا في سترة عرى الوطن المفسوخ والمجروح بحلوق الافندية واللئام. والمترفون جميعهم يستخدمون الشوكولا في المساج بتغليف الجسد وتدليك الوجه لإزالة الخلايا الميتة والبقع وشلوخ هويتنا وجعل البشرة أكثر نعومة ولمعانا.. هنا وهناك لا يهم طالما هكذا يسترخون في رفاهية مترفة على حساب شيوع الكلأ والماء والنار.. دهنوا رئاتنا وسمموها بالكراهية والموت ودمغوها ودبغوها بشامة الكبريت والبيض الفاسد حتى احتضرنا على دفاتر الهوية الجديدة وما تبقى منا يستهلك يومه في قات الموت البطيء وينتظر حظه الملعون حتى يجد خرقة تستره من البرد والمطر والخوف الوطني وزنابير النمتي اللعينة. رحيل بهنس صفعة مؤلمة وأكثر من ذلك على الخد الوطني المنصرف للتلميع والجدل والدجل حين فتح الستارة على أوزارنا وتماسكنا الهش والمتضعضع وكشف المخبوء من أسمال وزخومة ونتانة. موت كان أرحم.. الموت؛ زائر بهنس على استحياء جعله كائنا حيا بيننا على أكثر من مساحة ومسافة.. فلم يجد في شوارع المنفى سوى الرحيل والسكينة فالموت أولى وسترة قماشة من رهق غربة الذات والمكان وصبية وطن مزقوه إرباً إرباً. وتبقى الروح التي تمردت على كل شيء إلا فنها الخالد وطرقعة الأصابع المحترمة والمصونة بعافية الحلال حين عافت كل لحوسات الأفندية وكانت في سعة عن اللجاج والغث والبغاث.. وكانت الروح حاضرة في زيت اللوحات وعصب الأوتار وطعم الغناء الشجي. شمعة وانطفئت وبقى عمودها صلبا ينير حالكات الطريق ومسيرة سنتوقف عندها لمراجعة الذات الثملة.. آن لنا أن نستفيق من سباتنا وغفلتنا وغفوتنا وعزلتنا وموتنا الأرعن! ليس خوفا من الموت الذي سيأتي حتما وانما لنعيش حياتنا كبشر وفي سمو الإنسان. طوبى لك أيها الراحل النبيل يوم أن إخترت كفنك من الزَّمْهَريرُ في الهواء الطلق.. رحلت ويدك معصومة ومغلولة إلى إبائك وأنت تئن تحت وطأة المسغبة ورهق النفس والصقيع وسطوة القلق ونخوة الأصدقاء الكالحة وفارقتنا على وسادة مطمئنة بطقس موتك الحافل الذي لا ينتظرنا. لك الرحمة أيها الفنان بهنس صاحب الحضور الذكي والمهذب في كل منابرنا.. لك المغفرة وأنت تسدل طاقة الإمكان في رسالتك الفاحمة؛ لنا ولهم وللغافلون بمعية آله المدينة. نْم على أكف الراحة الأبدية وصدر الأمنيات التي أحترقت من أجلها يا سفيرنا النورس الذي مضي وخط بجسده... جسارته وإرتحل. نْم هانئا ودعنا في حرب (الجرون والقرون) والبتول الجديد نجتر المرارة ونجترع دم الجرح ونجترح الشقاء وفي إنتظار موتنا التعيس.
|
|
|
|
|
|