|
بهنس.. إرادة المسيح ضد تغييب المعنى ! عماد البليك
|
بهنس.. إرادة المسيح ضد تغييب المعنى ! عماد البليك
هل يمكن أن يهب الفنان / المثقف حياته للتيه والقدر؟ أي بمعنى هل بإمكان الحياة على علاتها أن تقرر مصائر المثقفين الذين يفككون العالم ويعيدون تركيبه في مخيلتهم وأعمالهم الإبداعية، ثم يعجزون عن التحكم أو السيطرة على هذا المرئي مباشرة في الواقع.. هذا صحيح لأن الحياة ابنة التضاد والمعجزات البالية.. ولأنها تهب الحاجة بحسب وبكيفما تتساقط القيم والأخلاق مثل مطر ناري من السماء. يحدث ذلك لاسيما في زمن الرأسمال وخلو القيمة من كل شيء.. فالناس باتت تراهن على الجوع والعطش بدلا من الارتهان للإيمان القوي الذي يصنع الذات.. الإيمان بوصفه قيمة لا بوصفه عقيدة ولا بوصفها إملاء من أحد سوى مطلق بعيد لا يمكن تصوره.. وهذه ربما تمثل رحلة الذات الإنسانية العارفة والخالدة التي تطمح في يوم ما أن تكون جزءا من مطلق الكون ومن إلوهية صمدية بعيدة في الأزل العميق.. في عمقي الزمان والمكان وما وراءها من أبعاد غير متحققة في حيز الآن بحسب حواسنا القاصرة.
أرسم تلك الصورة عن المثقف الخالد والمتنور الذي يهب نفسه إلها للوجود دون أن ينصبه أحد أو يؤمن به، على هيئة مسيح منتظر مزجى بالأحلام والمودة لذاته أو لنفسه المشروخة، إله متورط في خلق ذاته.. يعجز عن تطبيب جراحه إلا بمزيد من الألم، خاصة ساعة يجد أن هذه النفس ابنة جغرافيا آثنة وحلم بعيد الأمد لن يتحقق ذات يوم.. وكأنما في الأمر رحلة تشبه اللعنات القاسية والمتواترة التي تجعل الذات قاسية حتى في البحث عن الكينونة.. هذه الصورة يستحضرها ذهني وأنا أتأمل صورة الراحل محمد بهنس واقفا في أحد معارضه أمام لوحاته مستندا على الحائط، على هيئة مسيح يصلب نفسه بنفسه دون دم ولا جراح.. كأنه يصور نهاية ما لحياته بعد سنوات لن تطول كثيرا.. كأنه يأمل في هذا الدور التمثيلي الذي سيصبح واقعيا في شوارع القاهرة.. إنها إرادة الفنان الذي يصور واقعه الغائب ويجسد فنه من خلال تمثيل مدهش لما يمكن أن يصبح في مقابل تلك الحياة المليئة بالألغاز والأسرار.. فأمام اللوحات المشعة بالضوء يقف بهنس ليقول أنا المسيح المنتظر لذاتي.. لكم.. لكي تروا في موتي عبرة لكم.. ومع أفراح عيد الميلاد وأشجانه وتحركات بابا نويل السرية في شوارع المدن كان بهنس، بابا نويل زول.. ومسيح حقيقي يضرج دمه بدم يتجمد في البرد.. ليكون صورة فيزيائية ذات أثر قوي على الروح في استلهام هذا الموقف لنفهم عمق المأساة التي نعيشها نحن السودانيون.. في كل مكان.. لنكون أسرى الضياع وغياب القيمة والتساقط المرير في شوارع المدن التي استقبلت بعضنا بكل حب وبعضها كنا مضطرين على التعايش معه كيفما كان الوضع.
عرفت بهنس مبكرا بالخرطوم في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي.. كان حيويا وطموحا وكان آخرون بكل حيويته أمثال عثمان شنقر الذي لم يكتب روايته حتى الآن.. في حين كتب بهنس رواية "راحيل" اليتيمة ثم اتجه إلى الموسيقى والرسم ليجد فيه متعته في رحلة البحث عن وجوده في هذا العالم الملغز.. ربما هي صورة الفنان وهو يحاول أن يستوعب تقاطعات ذاته مع وطن ينطفىء كل يوم وحياة تصبح مضجرة ونجوم تغيب وراء سماوات بعيدة لا يمكن لأحد أن يتطلع إليها أبدا.. فقد قتلت الحيوية في الناس.. ولم يعد المثقف سوى ذلك الحالم الذي هو جزء من أزمة وتأزم.. ليصبح عنوان كتاب الإخلاص نادرا إلا قليلا فيما رحم ربي.
إن الطريقة التي غادر بها بهنس إلى الرفيق الأعلى.. سواء كان رحيله بإرادة ذاتية أو بغير ذلك، ليست إلا عنوانا لمسار طويل من الأسئلة المربكة المتعلقة بالحياة السودانية خلال قرن كامل من التيه والضلال والبحث عن الهدى في غير ما محله.. مطافات من أوجاع المجتمع وتشظي السياسة وترهل الاقتصاد وخسارات جسيمة في كل الميادين وانهيار تام في بنى الوجود الإنساني لوطن يكاد يلفظ آخر أنفاسه في مدينة الأقدار.. ورغم كل ذلك نجد من يتبجحون باسم هذا البلد "الأسطوري".. بكل دلالة الأساطير التي غيبوا بها المعنى ليصنعوا عالما آخر لا يمت للواقع بصلة.. فموت بهنس بهذا الشكل علامة ليوم قيامة بلد لا ندري هل سيكون أبناؤنا وأحفادنا قادرين على تذكره أم لا..
فكرت أن هذه السيرة المختصرة من حيث السنوات والطويلة من حيث الأفكار والمعاني يمكن أن تصبح فيلما روائيا يكون له فعل الإمتاع القاسي.. الألم الذي يجعل الإنسان يبكي شفقة على حاله وهو يبحث عن الكينونة والكيان.. أو هي رواية بسرد يحاول ان يستعطف الميت فينا.. كل الحواس التي قُتِلت والتي انهارت والتي انهزمت.. وقبل ذلك استنطاق بؤس المثقفين سواء كان حقيقيا أم تمثيليا.. إنها قصة طويلة وفصولها لن تبدأ في القاهرة ولا باريس ولا الخرطوم.. ولا المركز الثقافي الفرنسي ولن تنتهي في أي مكان ولا مدينة على هذه الأرض البائسة.. حيث مكانها القلب الحزين والأشواق الجائرة والملاهي التي دخلناها ونحن أطفال ولم نخرج منها إلى الآن..
[email protected]
|
|
|
|
|
|