إن رفع أسعار الوقود يمثل جزءا ظاهرا فحسب من جبل جليد ضخم ستكشف عنه الأيام المقبلة. إنه جبل جليد من تدابير مالية صارمة سوف تضطر إليها الإنقاذ من أجل بقائها في سدة الحكم. كانت الإنقاذ، ممثلة بالنائب الأول ووزير المالية ومدير البنك المركزي، قد التقت في مايو الماضي بوفد من صندوق النقد الدولي في مسعاها لتحسين وضعها لدى الصندوق توطئة للحصول على قروض جديدة بعدما سدت في وجهها كل الأبواب. إذ خسرت الحكومة عائدات النفط بإنفصال جنوب السودان وهو ما يشكل ضياع ثلاثة أرباع الصادرات؛ كما تعسرت جهود الإعفاء من الدين الخارجي الذي بلغ الخمسين مليار دولار. فضلاً عن ذلك فإن كافة محاولات رفع الحظر الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة على السودان قد باءت بالفشل. وما زاد الطين بلة، أن عمليات التسول الإقليمي التي مارستها الحكومة لم تعد عليها بطائل كانت ترجوه كثيراً، لا سيما في ظل تراجع حاد في أسعار النفط عالمياً وما ينطوي عليه ذلك من أهمية لدول الجوار التي لاذت الإنقاذ بحماها!!! من هذا المنطلق، يأتي رفع سعر الوقود في صدارة قائمة طويلة اعتاد صندوق النقد الدولي أن يطلبها من الدول المتعثرة مالياً، مثل السودان. وتشمل هذه الإجراءات، وهي إجراءات يطلق عليها مجتمعة اسم «إجماع واشنطن»، إعادة توجيه أولويات الإنفاق الحكومي نحو مجالات تتيح قدراً أجزى من المردود الاقتصادي، وتحرير سعر الفائدة وتبني سعر صرف منافس، وفتح البلد أمام الاستثمار الأجنبي دون مواربة. بيد أن الحل الاقتصادي السليم والمستدام، يكمن في رفع إنتاجية الاقتصاد برمته، الأمر الذي سوف يتمخض بدوره عن زيادة الصادرات مقابل الواردات. لكن هذا الحل ينطوي على كلفة عالية في نظر أهل الإنقاذ، فيما يبدو. إذ إنه يقتضي شمول التنمية وعدالتها وشفافية السياسات المرتبطة بها. ومعلوم أن شمولية التنمية، سواء في تحقيقها أو توزيع عائداتها، تستلزم الابتعاد في الجملة والتفصيل عن سياسة التمكين، كما تستلزم وقف الحروب المشتعلة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وينبغي أن يواكب كل ذلك تبني سياسات قوية تحد من الفساد في المراكز العليا للدولة. أهل الإنقاذ يدركون ويكابرون، كما يدرك الشعب السوداني عن بكرة أبيه، أن التمكين والحروب الأهلية والفساد هي أعراض لمرض واحد أصاب الجسد السوداني منذ 1989م وظل ينهكه ويتهدد مستقبله أتم تهديد. قامت الإنقاذ، ولا تزال تقوم، على ثلاثية القبيلة والأمن والسوق، في إطار معادلة تمكين الإخوان المسلمين. إن أي خلل يعتور هذه المعادلة، سيبطل مفعولها بطلانا تاما. ففي نظرهم، إما هذه المعادلة بتوازناتها المجربة عبر الوقت، أو الموت الزؤام. وكانت مظاهرات سبتمبر 2013م، وما شابها من عنف دموي اجترحته عناصر أمن الإنقاذ ضد الشعب الأعزل، كانت شاهداً لا يقبل الدحض على مدى تشبث الإخوان المسلمين بالسلطة بالغاً ما بلغت تكلفة ذلك على أرواح المواطنين، لا سيما أن شبح المحكمة الدولية يطل برأسه ساخراً على مشهد مأساوي فاجع. معنى ذلك صراحة أن الإنقاذ تسعى لتحسين صورتها في أعين المؤسسات الدولية المانحة ولو كان ذلك على حساب شعب تجاوزت فيه نسبة الفقر 46.5٪ حسب آخر عملية إحصاء رسمي أجريت سنة 2009م، أي قبل إنفصال الجنوب في 2011م. لا شك أن مسعى الإنقاذ لمواصلة تراكم الدين الخارجي، ينطوي على رهن كامل لإرادة البلد في المستقبل القريب. وحالياً يمثل الدين الخارجي 61.4٪ من إجمالي الناتج القومي، وهي نسبة فاحشة فحشاً غير مسبوق في تاريخ السودان، بل وفي تاريخ القارة الأفريقية الموصومة بالتورط في الدين تورطاً أحدث خللا هيكليا في اقتصاداتها. وما يزيد من قتامة هذه الصورة أنها تأتي بعد 27 سنة من دولة المشروع الحضاري التي طالما تبجحت بشعار «نأكل مما نزرع»!!! معنى ذلك أيضاً أن الإنقاذ، ورغم الجعجعة الصاخبة بشأن الحوار والتهليل لمخرجاته، ستمضي في طريق تهميش الشعب السوداني. وهي بذلك لن تعول عليه أدنى تعويل، كما لا تتطلع إلى رفع الإنتاجية نهوضاً بالاقتصاد من كبوته وإخراجاً للبلد من هذه الحلقة الجهنمية التي ظل يدور حولها لأكثر من ربع قرن من الزمان. يكفي الإنقاذ في الوقت الراهن الحصول على قروض من المؤسسات المالية الدولية، وفي غضون ذلك فلربما تحدث «معجزة» من نوع ما!!!!! نعم كانت المعجزة تمثل عقلية الإنقاذ منذ يومها الأول في الحكم. ألم تكن الملائكة تقاتل مع فرسانهم في أتون حرب مقدسة ضد الكفار في جنوب البلاد؟ ألم يتضوع شهداؤهم مسكاً ذكياً في تلك المعارك؟ ألم يحتفلوا بتزويجهم بالحور العين؟ وعقب اختفاء النفط، وهو المعجزة الاقتصادية الأولى التي هللت لها الإنقاذ، لجأت قياداتهم إلى الترويج لموارد غنية سوف تنزل عليهم من السماء أو تتفجر من باطن الأرض أنهارا. فالمعجزة هي الحل في نظرهم! ما يفاقم من خطورة الوضع أن الإنقاذ قد افلحت بصورة تحسد عليها في تدمير المجتمع المدني في السودان تدميراً يدعو لليأس. إذ انتفى ذلك الدور المؤثر للنقابات واتحادات المهن والأحزاب، كما تقزم دور الصحافة كثيراً. فسودان الستينات والسبعينات من القرن الماضي انزوى، يا للأسف، متستراً بأنغام الملاحم والأناشيد الثورية في أكتوبر 1964 وأبريل 1985م. ما هو الحل في ظل هذا الوضع المعقد واليأس المطبق؟ الحل هو أن نستعيد ثقتنا في أنفسنا ونخرج من فورنا إلى الشارع. لا مكان لليأس في نفوس ورثت الشجاعة والمجد والعزة والإباء كابراً عن كابر. نعم ستكون التكلفة عالية من ناحية الأرواح؛ لكن ما البديل؟ من المؤكد أن أي تهاون أمام الإنقاذ سيزيدها جرأة في الاستهانة بالشعب، وستكون العاقبة هي ضياع الوطن من بين أيدينا. لا شك أن التكلفة ستصبح أعلى مما نتوقع فيما إذا تواصلت السلبية لدينا أمام جهود الإخوان المسلمين لتحويلنا إلى فئران تجارب يطبقون عليها وصفات صندوق النقد الدولي بحذافيرها. علماً بأنهم في بداية عهدهم، كانوا يكررون علينا ليل نهار أن حكهم للسودان هو «لله.. لا للسلطة ولا للجاه»، وأنهم لن يقبلوا بالركوع لغير الله. لكنهم، وللبقاء في الحكم، هاهم ينبذون حجج الله، ويتشبثون بما يمليه عليهم الشيطان مهما اتضح ضخامة ما ينطوي عليه ذلك من خوازيق!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة