يُحكى أن كائناً قبيحاً كان يتغذى على الشقاء، أقلق ذلك المخلوق منام النّاس.. أكل لحومهم، شرب دماءهم، واختطف أحلامهم. في ليلة من الليالي اختطف صبية يافعة من خِدر الوطن، أغراه جمالها فأراد أن يقتلها مرتين، صعدَ بها إلى جبل شاهق، لم يأكلها لكنه أسرف بها، وأنجب منها مسخاً، هيئته كالنسر ووجهه وجه إنسان. كان كائناً مخنوقاً بعُصاب الشّر، تفاقمت في دواخله عقدة لا تحلها الأبجديات، ولا تفككها الطقوس، ورث طبائع التعالي والاستبداد وحب الأذى. كان يعتدي ويضرب فريسته ضربة الخوَّاف، كان يقهقه بضحكة المطعون في الفؤاد، ويتلصص هجعة الناس. أهلك الحرث والنسل والمصانع، مسخَ المدارس والجامعات، شرَّد الأسر الآمنة، أشعل النار في الرواكيب البعيدة، أغلق أبواب المستقبل، سدّ طُرق الهجرة على المقهورين، ومن نجا منهم تسلل إلى خلاء النزوح في المعكسرات وفي بلدان الصقيع. تظاهر الناس ضده، فتفرعن. رموه وما قتلوه، حاصروه فجاعوا، استنجدوا بأصدقاء الإنسانية، فزاد عليهم مساحات الحرائق والدمار. حار الناس في أمرهم حيرة كاملة، جف ماء النيل بالأكاذيب والإشاعات، أظلم القمر من الكيد وسوء الطوّية. ذات فجرٍ جاء من أقصى المدينة رجل يسعى.. جاء رجل حكيم بالبشارة. أوصى الناس بالصبر، وبالمزيد من الصبر، أوصاهم باحتمال الأذى، وذكّرَهم بأنّ الله لا يضيع أجر المحسنين. ما أن ظهر الحكيم في دنياهم، حتى بدأ ذلك المخلوق في الذبول، كان يطير فوق الجميع حانقاً وناقماً، يخمش بمخالبه، يتلذذ بالقتل، يستحلِب ويستحِب دموع الضعفاء. صبروا عليه أعواماً وأعواما، والحكيم بينهم يشحذ خيالهم، أن الفرج قريب. علّمهم أن يقتسموا النبقة، وأن يغذوا أرواحهم بالأمل، وأوصاهم أن يتركوا المخلوق لشأنه.. استغرب الناس النصح حين قال لهم الحكيم: كما تُدين تُدان. قال لهم: أتركوه لنفسه.. وقد كان. زاد ذبول المخلوق الغريب. أصبح يصيح في علالي شواهقه.. يكرُف رماد حرائقه.. يضرب بأجنحته جدران الوحدة والوحشة، حتى تنتَّف ريشه وتعرّى. وبجسد هزيل وحقدٍ على الحياة، تضعضع من عليائه، حتى هبط إلى زمان الناس، الذين رآهم يتحلّقون حول الحكيم.. طال عليه الأمد وأصابه الوهن.. جاع من صمت الليالي. زحف من علالي شواهقه بحثاً عن افتراس.. زحفَ وزحفَ وزحف.. زحف أمام الضحايا، حتى أدمى مخالبه التي قتل، وناوش بها الأجساد.. أشاحوا وجوههم عنه، وقد كان غاية ما يتمناه، أن يغرس أحدهم في جوفه عوداً. قال لهم الحكيم: لا تقتلوه.. أتركوه يلاقي ربّه بآلام وأرواح ضحاياه. ظلَّ حياً، دون أن يطير كما كان في أيام البطش والتمكين، ودون أن يموت فيرتاح من عُقدة الجّناح. كان يزحف، ويناوش، ويزحف.. آملاً في الخلاص، لكنه في خضم الزحف سَهَكَ مخالبه. .فقد الريش والرياش. بكى بحرقة أكبر، بعد أن فطن لعاقبة الأمر في خاتمة المطاف.. ظل حياً كميت، وميتاً كحي... لكن القصة لم ولن تنتهي بوصف هذا الحال، الذي تعجز عنه الكلمات! akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة