|
بالحيل يا شوقي بدري...انتو كعبين شديد
|
بالحيل يا شوقي انتو كعبيين بادئ ذي بدء دعني اقول ان تجربة الحلفاويين او قل النوبيين في كلا القطرين السودان ومصر لم تنل حظها او ما تستحقه من اهتمام وتوثيق وتسليط للضوء سواء من السودانيين او من المصريين ولا ادري سببا لهذا التجاهل وإغضاء الطرف عن واحدة من اكبر المآسي ـ التي تسبب فيها الانسان لاخيه في الانسانية ـ في التاريخ الحديث غير الكعوبية التي اشرت اليها ولنشرك القراء في الحكم علي اساس ما سيرد من حقائق وقصص واقعية في مقالي هذا...... اعود لمقالك واقول انك نكأت جرحا غائرا ما زال يدمي ولا يرجي له ان يندمل رغم تعاقب السنين والعقود علي الهجرة المشئومة. لقد مضي ما يقارب نصف قرن من الزمان علي مأساة مهرت بدموع واحزان وآلام النوبيين ...هذه المأساة التي وقعت بين اثنين من اعتي دكتاتوريات ذلك الزمان, ناصر وعبود. الديكتاتورية الناصرية لم يهمها غير شعب مصر وحياته ورفاهيته وعملت علي ذلك علي حساب 120 الف نسمة آنذاك من النوبيين ومدنهم وقراهم وتاريخهم المشرف المشرق التليد ضارب الجذور في عمق التاريخ البشري وشواهد علي هذا التاريخ وآثار وموارد طبيعية حبلت بها الارض النوبية ولم تر النور حتي اليوم ولا ينتظر لها بالطبع ان تراه لانها غمرت بمياه السد ...فأي انانية تلك التي دفعت بالناصرية لإرتكاب كل تلك الجرائم؟ ألا تعتبر تلك الجرائم جرائم حرب وابادة للنوبيين؟ إن اكثر ما يحيرني هو عدم إكتراث الشعب السوداني حينئذ وبعدئذ وحتي الآن بالمصيبة التي المت بجزء عزيز من الوطن الا وهي وادي حلفا ـ التي توصف بأنها كانت عروس المدن السودانية ـ وبأخوة لهم عانوا وما زالوا يعانون الامرين والاغرب من ذلك اننا نجد ان هناك حزبا في السودان يقال له الحزب الناصري.....ماذا فعلت الناصرية بنا وبالسودان لتمجد ولتتخذ برامجها واطروحاتها كحزب سياسي؟ كان زعيما ولكن لبلاده.... كان قائدا ولكن لأهله ....سعي لإسعاد اهله وشعبه ووطنه علي حساب الآخرين.....علي حسابنا نحن!!! فما بال اخوتنا من السودانيين الذين يدعون الناصرية لا يحسون بآلامنا واوجاعنا.....إن كان مرد ذلك هو المناداة بالقومية العربية فالسودانيين تجري في دمائهم الدماء الافريقية الزنجية مثلها مثل الدماء العربية.....فلم نركض خلف العربية والناصرية ونترك الزنجية والافريقية والزعماء الافارقة كمنديلا مثلا.....علي الاقل لم يسبب لنا الاذي كما فعلت بنا الناصرية.
اقول جرائم حرب وإبادة لأن ما حاق بالنوبيين لا يستحق وصفا اقل من هذا الوصف...لقد كانت نسبة الوفيات بين الاطفال وكبار السن من الرجال والنساء مرتفعة جدا وبخاصة بين النوبيين المصريين لأن قري التهجير لم يكن تم إعدادها بالطريقة المطلوبة وكان هناك شحا كبيرا في والاغذية والمأكولات اللازمة لأعداد النوبيين المهجرين اضف الي ذلك الضغط النفسي الرهيب للهجرة والذي كان سببا في حالات الاجهاض التي المت تقريبا بكل النساء الحوامل آنذاك. اما بالنسبة لقري التهجير في السودان والتي سميت زورا وبهتانا بحلفا الجديدة فحدث ولا حرج. هل تعلم يا اخي شوقي ان كل قرية من القري النوبية تبعد عن الاخري وعن المدينة حوالي 5 الي 8 كلم وان هذه القري تنعزل عن بعضها البعض وعن المدينة تماما في فصل الخريف لأنعدام الطرق المرصوفة المسفلته ولأن التربة في ارض البطانة طينية شديدة اللزوجة (لكة) ومن الاستحالة ان يتحرك فيها اي جسم سواء كان بشري او آلي حتي لو كانت سيارات الكيزان ذات الدفع الرباعي ولك ان تطلق العنان لخيالك لتتخيل ما كان يحدث للحمل اللائي تتعثر ولادتهن في هذه الظروف او من وقع لحظه العاثر فريسة للدغات العقارب والثعابين وما اكثر هؤلاء لأن تلك الارض كانت وما زالت عامرة بأعداد لا حصر لها من تلك الهوام والقري ليست بها الا شفخانات تفتقر الي الاطباء والادوية اللازمة ويباشرها باشتمرجي....هل تخيلت الفرق بين رمال بيضاء وحمراء ناعمة ونظيفة وبين تربة طينية سوداء لكة....فتأمل
اما عوامل البيئة الاخري من امطار غزيرة وصواعق وعواصف رعدية وترابية تأخذ معها احيانا اسقف المنازل في مناظر مأساوية فلا يمكن تصديقها الا إذا رأيتها وبدلا ان تكون هذه مدعاة للشفقة ولبذل الجهود لمساعدة هؤلاء اللذين لا قبل لهم بهذه الظروف الطبيعية القاهرة كانت للأسف مادة ومدعاة للتندر والفكاهة علي الحلفاويين من قبل السودانيين ....فتأمل
اما مياه الشرب فتلك قصة اخري يا اخي العزيز...هل تصدق ان مياه الشرب هي نفسها مياه الري التي تجري في الترع ويستحم فيها العرب الرحل وحيواناتهم ويغسلون فيها ملابسهم. ترفع هذه المياه الي صهاريج خارج القري كما هي وبدون اضافة اي مواد كيمائية وبدون اي عملية تنقية او تعقيم او غيرها ومن ثم الي مواسير المنازل للأستعمال الآدمي وإزاء هذا الاهمال المريع من الدولة كان علي الحلفاويين ان يتصرفوا علي الاقل في حدود امكانياتهم للمحافظة علي صحتهم فما كان من ربات البيوت الا ان يضعن قطعا من الشاش في (فم) الزير لحجز ما يأتي مع المياه وهنا ايضا اسألك ان تطلق العنان لخيالك لتتخيل ما يمكن ان يتجمع فوق قطعة الشاش تلك من ديدان حية وميتة واوساخ ومواد لزجة وغيرها مما يشيب له الولدان..... هذا يا بدري بالنسبة للإختلافات الطبيعية من مناخ وتربة ومياه بين ما كان يعيشه هؤلاء المغلوبين علي امرهم من النوبيين وما هجروا اليه غصبا وكرها!!
يا شوقي الهجرة كانت اول تجربة للحلفاويين للإحتكاك بالاجناس والقبائل السودانية الاخري وانت تعلم وقد اشرت الي ذلك بنفسك ان الحلفاويين ناس مسالمين الي ابعد الحدود ولا يجنحون الي العنف وليس في ثقافتهم او ما يدعوهم لحمل السكين كما يفعل بعض اهل السودان وعرب البطانة. هل تصدق انه في اوائل ايام التهجير ان دخل إعرابي مدرسة ابتدائية ونادي علي استاذ وهو يدرس في فصله فلما خرج له الاستاذ بادره بطعنة من سكين كان يحملها اردته قتيلا في الحال امام طلبته اللذين صرخوا وهاجوا وماجوا واتي علي اثر ذلك الناظر وباقي الاساتذة وكان الجميع في حالة وجوم وهلع ورعب وعقدت الدهشة وهول المصيبة السنتهم وهو يشاهدون لأول مرة في حياتهم انسانا يقتل انسانا آخر بالسكين فإذا باحد الاساتذة وهو من الشعراء والفنانين ان نظم قصيدة ما زال يتغني بها الي اليوم ويقول فيها باللغة النوبية ما معناه اننا لا نعرف للسكين مكانا آخر غير المطبخ ولا نعرف لها وظيفة اخري غير تلك الوظائف التي تؤدي بها في المطبخ وما معناه ايضا اي خلاف ذلك مهما بلغت شدته ودرجته ان يكون مدعاة لقتل الآخر بالسكين وهكذا. اوردت لك هذه القصة الواقعية لأدلل لك علي الاختلاف الكبير في الطبائع والعادات والتقاليد بين النوبيين وبين من هجروا اليهم من عرب رحل.
قصة اخري في نفس السياق....بينما كنت احضر الشاي لأبي وعمي رحمة الله عليهم إذا بهم ينادونني ان اترك ما بيدي وأأتي علي عجل فأتيت مهرولة وهم يقولون لي اسمعي لكلام هذا الاعرابي وقد كان يتحدث بكل فخر في إذاعة امدرمان ويحكي ما كان يفعلونه مع الحلفاويين. ذكر الرجل بأنهم يسرقون البهيمة من الحلفاوي ويجرون عليها اي تغيير مثل ان يكسروا بعضا من قرونها او احد القرنين او يجرحون او يقطعون اذنها وبعد ذلك يقومون ببيع البهيمة لصاحبها او صاحبتها ويقبضون الثمن. يحكي كل ذلك وهو في حالة من النشوة والفخر بمكرهم ودهائهم وقدرتهم علي غشي الحلفاويين. كان تعليق الرجلين رحمهم الله وقد كانوا من الاساتذة الاجلاء كيف يمكن لإنسان في الوجود ان يتفاخر بالسرقة والغش واكل الحرام وفي العلن وعلي مسامع كل اللذين يتابعون إذاعة امدرمان ...هذا شئ عجاب!!!! لقد مضي الكثيرون من الاهل والاحباب ممن عاصروا وعاشوا في وادي حلفا الي حيث اللاعودة ....مضوا الي جوار ربهم وفي قلوبهم لوعة وفي اعينهم دمعة من حنين جارف الي مهد طفولتهم ومراتع صباهم .....مضوا وهم ينشدون الحان حزنهم ومرثياتهم ويصورون حياتهم التي فارقوها رغما عنهم في موسيقي واغان حلقت بهم في سموات من نسج خيالهم رفضا لواقع مرير كالعلقم. اما من بقي وامد الله في عمره فما زال يعيش حلم العودة الي تلك البقعة العزيزة علي القلب...لقد ذكر لي عمي وهو الذي يبلغ التسعين من عمره انه لابد ان يعود ويعيش في موطنه ارقين علي الضفة الغربية من النيل حتي لو بقي من عمره يوما واحدا فقط.... فرفعت يدي الي الله ان استجب لهذا الشيخ ومد في ايامه ومتعه بالصحة والعافية حتي يحقق حلمه.....فليس ذلك علي الله بعزيز.
هذا قليل جدا من كثير جدا جدا وإذا اردنا ان نوثق ونلقي الضوء علي تجربة الحلفاويين لما كفتنا المجلدات وعليه اكتفي بهذا القدر ولك اخي شوقي والقراء الاعزاء ان تحكموا من هو (الكعب) ومن هو (السمح). قد يكون لنا لقاء آخر إذا مد الله في الآجال فريدة تفيدة آشا شورة
|
|
|
|
|
|