أعرفه منذ ما يقارب الأربعين عاماً ، في مدني أرض الإبداع والألق والجمال ، كان مُعلماً وتربوياً و رساماً تشكيلياً شاباً تمورُ في أعماقه جذوة الإبداع والعطاء والحماس الذي تدفعه في عروقه دماء الشباب الغضة ، وكان أيضاً حادباً وصبوراً ومُحباً ومحبوباً ، ومهذباً وخفوت الصوت جهور الإبداع وفي ذات الوقت جليُّ الأفكارِ والرؤى ، قَّدم من خلال تلفزيون الجزيرة الريفي حينها البرنامج التلفزيوني الإستثنائي (في محراب الأدب والفنون) والذي أعتبره على المستوى الشخصي طفرةً كبرى لم يتجاوزها أيي برنامج على مستوى الإنتاج التلفزيون حتى زماننا هذا ، فقد كان حداثيُّ الرؤية وبعيد النظرة في فقراته وأهدافه ومدلولاته ، كل ذلك والأستاذ الجليل بابكر صديق لا يراوح مقعد التواضع وإيثار الآخرين على مكاسبه الذاتية ، حينما يتحدث متحدث عن تاريخ الحركة الثقافية والإعلامية في مدني ورغم صغر سنه فلن تتحقق الرؤية بالضرورة العلمية والتاريخية بغير أن يكون بابكر صديق في مقدمة أعلامها من أمثال عبد الحليم سر الختم وطه كرار ومحمد الحاج مجمد صالح وعبد الحميد الفضل ومحمد محي الدين وجمال عبد الرحيم ومحمد عز الدين وعز الدين كوجاك وغيرهم من الكثيرين الذين لن يسع المجال لذكرهم ولا لعطائهم وإنجازاتهم في مجال إزكاء شعلة الثقافة والعلوم والفكر والأدب في مدني الخضراء نهاية السبعينات وحتى منتصف الثمانينات ، ثم وبعد نجاح برنامج (محراب الأدب والفنون) إقليمياً ومركزياً بعد بثه عبر التلفزيون القومي قدَّم الأستاذ بابكر صديق برنامجه الشهير الذي شغل الدنيا في زمانه والمسمى (أصوات و أنامل) ، وهكذا كان الرجل طيلة حياته جذوة إبداعية وفكرية وتربوية مشتعلة وما زال ، وها هو بعد سنوات عديدة من عطائه الثر والذي أسس به مع آخرين اللبنات الأولى لتربع قناة النيل الأزرق على عرش الفضائيات السودانية من خلال إنتاجه لصالحها برنامجه الشهير (نجوم الغد) يضطر للإعتراف (أخيراً) بالحقيقة المُرة التي تفيد أن النيل الأزرق ليست إلا إمتداد لنهج الظلم العام المستشري في هذه البلاد ، وأنها أي النيل الأزرق لن تستطيع أن تخرج من دائرة الكيل بمكيالين في كل حكم تصدره في قضاياها المُلِّحة ، ولما كان برنامج (نجوم الغد) ومقدمه الأستاذ بابكر صديق هو أيضاً قضية (مُلِّحة) على مستوى القاعدة الجماهيرية التي تقف وراءه رغم إختلاف آراء النقاد والمتخصصين حول (البرنامج) ، فإن ذلك يكفل لنا وبلا حرج الدفاع عن مُكتسباته الإبداعية والتربوية ، لأنه إنطلق من مدارس إنتاجية شبيهة بما كان يجري عليه حال الدورات المدرسية إبان مجدها السابق ، بالقدر الذي جعلها شانها وشأن (نجوم الغد) تُخرِّج أجيالاً من المبدعين والفنانين طالما أثروا وجدان الشعب السوداني وساهموا في رفد مسيرة الأغنية السودانية بالكثير من المواعين الموسيقية والأدائية الجديدة (كان من آخر هداياها الفنان المُجدِّد عصام محمد نور) ، أنا شخصياً لم أستغرب أن يصطدم بابكر صديق بالوجه المظلم للنيل الأزرق الذي طالما تفاداه في سنين عديدة مضت بأدواته المعهودة من الأدب والصبر والحياء وإيثار الغير على مصالحه الذاتية ، لكن يبدو أن السيل قد بلغ الزُبى ، وأنا شخصياً شديد التفاؤل بأن بابكر صديق وبرنامجه وأفكاره الإبداعية التي لم تزل مخزونة في فكره الخصيب ، ستستفيد كثيراً من هذا (الطلاق) الذي أرجو ألا يكون هناك سبيل لرجعةٍ فيه ، فما يمتلكه الرجل من طاقات وإبداعات وأفكار لا تمِل ولا تكِل بالفعل تحتاج إلى (بيئة) مؤسسية جديدة تتوفَّر فيها شمائل الإيمان بالفن الرصين وكذا العدالة في الحكم على الأشياء ، هذا فضلاً عن الإحترام المُطلق واللا مشروط لشخص في مقام الأستاذ بابكر صديق .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة