|
امدرمان و المولد … زمان
|
امدرمان و المولد … زمان هلال زاهر الساداتي- مصر تظل ذكريات الطفولة و الصبا ندبة كنسمة منعشة في صهد الهجير , و تلك الأيام الخوالي تشدنا إليها لما فيها من لذاذات العيش و جمال البراءة , و ما زلنا في امدرمان الحبيبة بكل سماحتها و القها و كرمها الفياض , و من المناسبات الحلوة إلى جانب العيدين و التي كنا و نحن أطفال نترقبها بشوق دافق هي الاحتفال بمولد نبينا عليه الصلاة و السلام , وكانت المناسبة تدخل السرور و البهجة في نفوس الكبار و بخاصة الصغار و لها مذاق خاص عن العيدين لأنها تستمر اثنتا عشرة ليلة تعطرها أناشيد الصوفية و مدائح المداح و ذكر الله و تجليات المجذوبين و الدراويش من قلوب عامرة بمحبة الله و رسوله و صادقة في التوجه إليهما … كان المكان و لا يزال جامع الخليفة بامدرمان , وكان يكتظ بالذاكرين و الزائرين عندما كان سكان المدينة يعدون بالآلاف , ولا زال يستوعبهم الآن و قد صاروا بالملايين و كانت هناك طقوس تعد قبل الحدث السعيد , فالطرق الصوفية العديدة تنصب خيامها و صيواناتها و تفرش الأرض بالبروش و تصف الكراسي و تزين الخيمة أو الصيوان بالشرائط الملونة و كذلك الأعمدة و البيارق لها نصيب من الزينة أيضا فيكسونها بالشرائط من كل لون و يرفرف أعلاها أعلام ذات ألوان بهيجة و كذلك تعلق اللمبات الملونة البراقة و تحيط بمساحة مكان الخيمة , والحدث المهم هو يوم وقفة المولد و فيه يتم نصب الصاري , و يأتون به محمولا علي عربة كارو في زفة طويلة ينتظم فيها مريدو الطرق الصوفية و بيارقهم و نوباتهم و أزياؤهم المتميزة , فالختمية بوشاحاتهم الخضراء و إنشادهم الطلي , و الأنصار في زبهم الناصع البياض يسيرون بخطوات عسكرية و يهتفون بأصوات قوية (الله اكبر ولله الحمد) , و القادرية بنوبتهم المدوية رافعين عصيهم عاليا كأنهم سيخرقون بها السماء و الطرق الأخري تصدح بأناشيدها , و المداح يمدحون بالمطارات في أيديهم , و يتقدم هؤلاء جميعا موسيقي الجيش بألحانها الشجية من المارشات العسكرية , وهذا البحر الزاخر من البشر و الألحان و الموسيقي و الجلبة يضمه موكب بهيج يحرسه الإيمان و يحدوه الحب العميق للنبي الكريم .. و كنا نحن الصغار مفتونين بما نري , و ربما شاركنا في الانشاد مع الختمية الذين كان صوتهم أبين و كلماتهم أوضح فنردد معهم (شيء لله يا ميرغني المكي و المدني) و تسير الزفة بشارع الموردة إلى أن تصل إلى جامع الخليفة و في منتصفه تكون هناك حفرة معدة يوضع فيها الصاري و هو عمود طويل من الخشب في أعلاه نجمة في إطار دائري مرصعة باللمبات الكهربائية , و بعد نصب الصاري تضآء أنواره و تظل مضيئة طيلة ليالي المولد و تشاهد من مسافة بعيدة , و تخصص مساحة معلومة داخل الجامع لكل طريقة صوفية , ففي الجانب الشرقي يوجد صيوان الأنصار و الختمية و يتوسطها صيوان الحكومة , ثم خيمة الطريقة الشازلية الخلوتية , و في الجانب الشمالي توجد خيمة الشيخ قريب الله و خيام أخرى , ويليها أماكن يوجد بها أماكن العاب للتسلية مثل (لبس تكسب) و النيشان بالبندقية و (شختك بختك) , وهناك مساحة يحتلها خضر الحاوي الذي كان يقدم ألعابا سحرية و يعزف علي الأكورديون , و في الجانب الغربي توجد خيمة القادرية و طرق أخرى , و كذلك في الجنوب , واما في الجانب الغربي الذي يلي البوابة الرئيسية كانت توجد دكاكين حلاوة المولد فتوضع في مقدمة الدكان علي (الكاونتر) أنواع الحلوى المختلفة من السمسمية و الحمصية و الفولية و جوز الهند و في خلفية الدكان توجد ارفف بطول الدكان موضوع عليها عرائس الحلوى بأحجام مختلفة و كذلك تماثيل من الحلوى للدراجات و الفرسان و الدبابات و الأحصنة , و في وسط المولد حول الصاري يوجد حلقات الطار و المداحين وهنا يضع المداح علي الأرض قطعة قماش أو الكيس الذي يوضع الطار بداخله , و يضع فيه المتفرجون ما يجودون به من قطع نقود خاصة الذين يعرضون علي دقات الطار و مديح المادح . أما خارج الجامع فيوجد في الجانب الغربي و الشمالي المقابل لمستشفي امدرمان ما يسمي (سوق الزلعة) و هي مطاعم شعبية يغلب علي ما تقدمه من طعام الفول و الطعمية و الطرشي, و كذلك يوجد بائعو الباسطة و الحلويات الأخري .. كان المولد يعمر من الساعة الثامنة مساء و إلى منتصف الليل حيث تبدأ حلقات الذكر و تضرب النوبات و يتمايل و يهتز الذاكرون , و يتصاعد أصوات المنشدين , ويدور الدراويش في وسط حلقات الذكر بجبهم المرصعة بعشرات الرقع ذات الألوان المختلفة و حول أعناقهم المسابح المتعددة بعضها فوق بعض , و علي رؤوسهم طراطير طويلة , و كان ما يحيرني فعلا هو مقدرة هؤلاء الدراويش علي الدوران كالمروحة حول أنفسهم لمدة طويلة لأننا كنا نلعب لعبة ( دوري دوري) و كان الواحد يقع على الأرض بعد ثلاث أو أربع دورات بعد أن يشعر بأن الأرض تلف به و رأسه يدور ويصاب بغثيان , كما أن هؤلاء الدراويش يتلفظون بكلمات غير مفهومة و يقولون عن الواحد منهم انه ( ترجم ) .. و يموج الناس و تختلط الأصوات و يثور الغبار و ينتاب الجميع فرح طفولى ينسون معه الدنيا و ما فيها و تذوب النفوس في حب النبي .. كان الشاي يقدم في الخيمة للزائرين و الذاكرين , و كنا نقف عند كل خيمة نتفرج على الذاكرين فنسمع كالهدير كلمات ( حي قيوم ) تهز أركان المكان , أو كلمات ( حي حي ) ترتفع في الجو , أو كلمات ( لا اله إلا الله ) تغمر الهواء بالتوحيد , و كان لكل طريقة أسلوبها في الذكر , و كنت استمتع ولا زلت بذكر القادرية الذين يرفعون عصيهم عالية و يكادون يقذفون بأنفسهم في الجو قافزين و هم ينشدون , و كذلك تعجبني أناشيد الختمية و أنصار الشيخ قريب الله فأصوات منشديهم طلية مطربة تخشع له النفس , و أما إيقاعات ضربات النوبة فإنها تهز الوجدان و تملأ الفضاء و كأنها تسبح بصخب بذكر الله .. و أما خيمة الأنصار و كانت تدعى خيمة السيد عبد الرحمن فإنها كانت فخمة و الكراسي مريحة و تستقطب كبار المداحين , كما كانت خيمة الختمية تدعى بخيمة السيد على ولا تقل فخامة و لكن ينشدون أناشيد الختمية إلى جانب مديح النبي , و كانت مداخل هذه الخيام أو الصيوانات تنصب في مداخلها بواكى أو أقواس من الخشب تزينها اللمبات المضيئة و كتابات دينية بخطوط جميلة . كانت ذروة الاحتفال بالمولد هي الليلة الأخيرة و تسمى الليلة الكبيرة و جرت العادة أن يستمر الذكر حتى قريب الفجر و كان أصحاب الخيام يذبحون الذبائح و يولمون للذاكرين و الزائرين في منتصف الليل و يقدمون لهم الفتة و اللحم و الشاي , و كنا نحن الصغار نفرح غاية الفرح لان الوالد كان يعطينا نقودا لنشترى حلاوة المولد للمنزل و عرائس المولد من الحلوى لشقيقاتنا , أما نحن الأولاد فنشترى الفارس على الحصان أو الدراجة و اذهب مع أخي الكبير للعم عبد الفضيل اشهر صانع حلوى المولد ونشترى منه الحلوى و نضعها في فوطة كبيرة زودتنا بها الوالدة . و كانت هذه الليلة تتميز بشيء آخر وهو زيارة الحاكم العام الإنجليزي للمولد و مكوثه لفترة من الزمن بخيمة الحكومة و كان يزور الموالد الثلاثة في امدرمان و الخرطوم والخرطوم بحري و كانت هذه فرصة للجميع لرؤية الحاكم العام من قريب , كما كان السيد عبد الرحمن المهدى يحضر في خيمة الأنصار , و بعد الاستقلال حافظ الزعيم إسماعيل الأزهري على ذلك التقليد بزيارة الموالد الثلاثة في الليلة الأخيرة . و كان هناك أمر هام آخر و هو السماح للنساء بدخول المولد لأنه كان محظورا عليهن دخول المولد كما كان محظورا دخول العربات إلى ساحة الجامع , و كان لدينا نحن الصبية (بندا) هاما لا تكتمل جولتنا في المولد إلا به وهو تناول الأكل في سوق (الزلعة) و الذي غالبا ما كان يتكون من الطعمية الساخنة و الطرشي .. و مولد النبي عليه افضل الصلاة و السلام هو مولد الهدي و الرحمة المهداة للعالمين , و الضياء الذي بدد غياهب الجهل و الضلال و الشرك , و قد جسد ليلة المولد شعرا الشاعر الكبير المبدع محمد المهدي المجذوب في رائعته التي لحنها و غناها الفنان الكبير المبدع عبد الكريم الكابلي . صلي الله عليك و سلم يا سيدي يا رسول الله و الزمنا هديك و أكرمنا الله شفاعتك يوم أن نلقاه و نلقاك .. هلال زاهر الساداتي [email protected]
|
|
|
|
|
|