اعتاد المجتمع الدولي على الاحتفاء بالمرأة وتحديد يوم عالمي لهذا الغرض يصادف الثامن من شهر آذار من كل عام للتأكيد من جديد على الاحترام والتقدير الواجبين لذاتها والتذكير بأهمية حقوقها والانجازات التي حققتها على الصعد كافة، وتعود جذور هذا الاحتفاء العالمي إلى العام 1909 حينها قام ما يعرف بالحزب الاشتراكي الأمريكي بالاحتفال بمناسبة الإضراب العمالي لسيدات معامل الملابس في مدينة نيويورك وأعقب ذلك تنظيم مؤتمر في العام 1910 في مدينة كوبنهاغن الدنماركية دعا إليه السيد لويز زيتز ذو الميول الاشتراكية، وتم تكريم عدد من النساء من سبعة عشر بلداً فانتعشت حركات نسوية في العديد من الدول الأوربية، تمثلت بتظاهرات ومطالبات نسوية بالمساواة مع الرجال في التصويت والأجر المتماثل والقضاء على التمييز في العمل على أساس الجنس، فتكللت جهودهن بالنجاح وان كان نجاحاً غير ناجز أو جزئي وعلى مراحل متباعدة زمنياً ما حدى بالأمم المتحدة ومن منصة الجمعية العامة للدعوة إلى الاحتفال في يوم الثامن من آذار من كل عام بوصفه يوم التذكير بحقوق النساء وعلاقة ذلك بالسلام العالمي. والسبب فيما آلت إليه أوضاع النساء من تهميش وإنكار لذاتها وحقوقها هو البعد عن الفضيلة والسير وراء بريق الحضارة المادية التي تجرد الفرد من قيمه الأخلاقية والعقائدية وتجعل منه مجرد سلعة رخيصة، لهذا نجد الدين الإسلامي الحنيف ومنذ اليوم الأول لانطلاق الرسالة المحمدية المباركة أكد على ضرورة تنمية الجانب الروحي والثقافي ونبذ القيم البالية والأعراف الجاهلية وتبني تلك التي تتضمن الجوانب الإنسانية كالشجاعة والمروءة والكرم وحسن الجوار وحفظ الحرمات والمساواة والعدالة في كل شيء حتى مع النفس وتهذيبها للتخلص من أدران الشر والرذيلة التي عانت المرأة منها منذ القدم والتي تمثلت في أشكال متعددة من العنف والتهميش في المجتمع قبل وبعد الإسلام وضلت تحاول على مدى مئات السنين أن توجد لها دور اجتماعي واقتصادي وسياسي معين. بيد إن المجتمعات العربية والإسلامية كانت ولا تزال في جزء كبير منها رجولية بامتياز وتمتهن المرأة وتعتبرها عاراً أو تنظر إليها نظرة دونية على نحو معين، هذا لا يعني عدم إفساح المجال للبعض منهن بشكل من الأشكال بممارسة بعض حقوقها وحرياتها أو تمتع البعض منهن بمكانة اجتماعية واقتصادية وهنالك العديد من الأمثلة على ما نقول إلا ان ما حصل لم يرتق إلى مستوى الطموح ولو أخذنا على سبيل المثال الآيتين (71و72) من سورة التوبة ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))، والآية الأخرى التي تصف العدالة بين المؤمنين والمؤمنات((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))، والآية (35) من سورة الأحزاب حيث يقول تعالى((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا))، والخطاب القرآني المتقدم تصريح بما لا يدع مجالاً للشك بالعدالة التي جاء بها الإسلام الحنيف والمكانة الرفيعة للمرأة التي تتساوى مع الرجل في كل شيء ما خلا بعض الخصوصية في الأحكام التفصيلية التي تأخذ بنظر الاعتبار الأعباء الاجتماعية وفي أضيق نطاق ممكن. لهذا حرص النبي الأكرم على تربية فاطمة وإبراز مكانتها السامية في الأمة الإسلامية حيث ورد في حديثه الشريف عنها ((فاطِمَة شُجْنَةٌ مِنّي يَبْسُطُنِي ما يَبْسُطُها وَيَقْبِضُنِي ما يَقْبُضُها))، وفي مورد الإشارة القرآنية إلى مكانة الزهراء عليها السلام ما ورد في آية التطهير لأهل البيت عليهم السلام وهي مصداق للطهارة والعفة والتقوى إذ يقول تعالى ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً))، فان الزهراء عليها السلام هي المثال للمرأة المسلمة وغير المسلمة فهي المرأة الإنسانة التي جسدت قيم السماء السامية على الأرض في كل الميادين في البيت والأسرة في المجتمع مع الأب فكانت كأفضل ما تكون البنت مع والدها ومع الزوج استطاعت ان تضرب المثل الأسمى للنساء في حسن تبعلها، ومع الابن والبنت أعطت الصورة الناصعة للأم التي غرست القيم والفضيلة والسعادة في أسرتها، ومع الجار كانت تحكي قصة المؤثر للغير على النفس في كل الظروف والأحوال وان كانت النظريات الإجتماعية في التضامن لم تظهر إلا في وقت متأخر فالتأسي بالزهراء وسيرتها العطرة مع جيرانها يكشف مقدار إيمانها بان التضامن أساس بناء الدول الحديثة. فحين يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى إذ قامت عليها السلام بالتطبيق العملي على أرض الواقع لما تقدم، ولها وقفة مع الحاكم أو السلطة السياسية إذ لم ترض بالظلم والجور والقهر وسلب الحقوق فقاومت الانحراف الذي وقعت به الأمة وجاهدت بلسانها وعملها وقلبها وذكرت الجميع بمسؤوليتهم تجاه الدين الحنيف وضرورة التمسك بشرعية السلطة الحاكمة وعدم الانقياد خلف العصبية وحمية الجاهلية التي أمر الإسلام بمغادرتها، وكل الميادين المتقدمة كانت الزهراء عليها السلام متفوقة فيها بامتياز وتعطي الصورة الناصعة للمرأة المسلمة المؤثرة في مجتمعها وأسرتها المرأة الايجابية في كل شيء لا الانهزامية أو المنطوية على نفسها فهي عليها السلام جاهدت وبذلت المستطاع للدفاع عن المستضعفين وعملت على إظهار الحق والعدل ونبذ الظلم والجور وقدمت حياتها ثمناً للمبادئ التي تربت عليها. فحين نتذكر الزهراء عليها السلام ونحيي يوم ولادتها فنحن نحاول إحياء النموذج الإنساني المشرق بكل تجلياته العظيمة والقدوة الحسنة للنساء في كل زمان ومكان وان كان المهتمون بملف حقوق الإنسان يرغبون في إتباع التقاليد الدولية التي سارت عليها الدول والأمم المتحدة في العديد من المناسبات بجعل يوم عالمي لاستذكار بعض العناوين والأحداث أو الأشخاص التي تركت بصمتها على حياة بني البشر كيوم للأم ويوم للشجرة ويوم للعامل ويوم للسلام وأخر للمياه أو الصحافة وغيرها كثير فحق ان نجعل يوم العشرين من جمادى الآخر يوماً للمرأة المسلمة وعيداً لها. فالمرأة المسلمة في وقتنا هذا بحاجة إلى استشراف ماضي الأمة وأخذ العظة والعبرة من الزهراء وغيرها من النسوة العظيمات اللاتي تركن بصمة إنسانية بكل شيء ايجابي علمياً وثقافياً واجتماعياً وعقائدياً لاستحضار المعاني القرآنية العظيمة، فالله سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلاً في الكتاب العزيز عن النساء المؤمنات الصالحات بقوله في سورة التحريم الآية (11) ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))، ويعطينا مثلاً أخر عن النسوة السيئات إذ يقول تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)، ومن هذا نستشف الحاجة إلى قراءة حياة الزهراء كنموذج لحياة المرأة المسلمة الصابرة المؤثرة والملهمة وكيف لا تكون كذلك وهي التي عاشت جل عمرها الشريف مع أبيها تنتهل منه الأخلاق الحميدة والسيرة العطرة فأعطت النموذج الأمثل في ميدان العلاقة مع الله سبحانه وتعالى وحتى في أعمالها العبادية كانت الصفة الإيجابية لا تفارقها والإيثار والكرم يغلب على عملها. إذ يقول الأمام الحسن عليه السلام (رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء فقلت لها يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت بني الجار ثم الدار، وما تقدم غيض من فيض لسيرة عطرة امتدت لثماني عشرة سنة كرست للدين والإصلاح وخدمة الآخرين والنفس الكريمة الكبيرة التي كانت تتعالى عن الصغائر وتنظر للغير بالعطف والحنان وحين نسمي هذا اليوم بعيد المرأة المسلمة. ونحن اليوم نحاول إحياء القيم الإنسانية التي سارت بها الزهراء فارتقت بها المعالي ويمكن لكل نساء الأرض اليوم ان تستلهم منها الدروس والعبر للوصول إلى معنى السعادة الحقيقية في البيت والعمل وفي إطار كل العلاقات الأسرية والاجتماعية وغيرها وتأخذ من هذه السيدة الجليلة معنى الشعور بالمسؤولية تجاه الغير، وبالأخص مجتمعها الذي تعيش فيه وتؤثر أو تتأثر به، فالمرأة العراقية اليوم تحتل مكانة سامية بموجب القواعد القانونية المطبقة في البلد وعلى رأسها الدستور الذي منع من أي تمييز بين الرجل والمرأة وكفل لها تمثيل الحد الأدنى في البرلمان عبر الكوتا النسوية، وبما إن البلد يتجه نحو استحقاق ديمقراطي في شهر أيار القادم لذا ننصح جميع النساء العراقيات بان تكون الزهراء عليها السلام قدوتها واسوتها الحسنة بها وبأخلاقها وبروحيتها المباركة تسمو في الميادين كافة حيث يقول سبحانه وتعالى ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)). وما تقدم من قول المولى عز وجل دعوة للنساء والرجال إلى الأمر بالمعروف سياسياً ونهي عن منكر شاع في البلد متمثل بالفساد السياسي والمفسدين في مختلف المستويات فلا بد ان يكون للمرأة الدور واليد الطولى في التغيير الايجابي والتأثير في القرار ان كانت ناخبة أو منتخبة في البرلمان وتغادر المصالح الضيقة والتفكير قصير المدى المبني على أسس غير علمية أو موضوعية أو وطنية. كما ان الآية المباركة تدعو النساء والرجال إلى ان يلزموا المعروف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بان يغادر الجميع ثقافة استيراد القيم والعادات من الغير والتقليد الأعمى للتصرفات والأعمال التي ستنعكس على البيت وتربية الأولاد والتعامل مع الزوج وزميل العمل للوصول إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة. ..................................... ** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2018 هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات... هـ/7712421188+964 http://ademrights.orghttp://ademrights.org [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة