(الوافدون * فى صدر عنوان المقال اعنى بهم الكيانات التى وفدت من غرب افريقيا و شمال السودان و استقرت فى اقليم جبال النوبة فى مراحل مختلفة من التاريخ و اصبحوا ضمن النسيج و التركيبة السكانية للاقليم ، و يشملون مجموعات البقارة ببطونهم المختلفة ، الفلاتة ، الجلابة ، و غيرهم) . ********** تحدثنا فى المقالة الاولى عن عداء الكاتب للحركة الشعبية لتحرير السودان و محاولته دق اسفين بين مكونات شعب الاقليم باعتبار ان قطاع كبير منهم من مناصرى الحركة الشعبية لتحرير السودان ، و قد انطلق من منظور اثنى لتصنيف الوافدين باعتبارهم اثنية مختلفة عن النوبة و ان النوبة نفسهم قسمهم الى نوبة جدد و نوبة مستعربة ، واعتمد على التقسيم اللغوى المعروف للنوبة على انها قبائل . و اول ما يلاحظ المرء هو الخلط فى امر المجموعات اللغوية التى تبلغ العشر و اعتبرها قبائل ثم اسس عليها تصنيفه وقام باضافة مجموعة اخرى و سماها مجموعة الدوليب ولا ندرى على ماذا استند ، مما يشى الى عدم امانته فى النقل . فالدواليب جماعة نوبية استعربت حتى فقدت لغتها النوبية ، وبعض الروايات تقول انهم من الكواليب ، لكنهم فى حقيقة الامر قبائل نوبية مستعربة كانت تتحدث بلغتها النوبية الى عهد قريب لكنها فقدت لغتها الاصلية ، و تستقر فى شمال كردفان كقبائل الجبال البحرية (كاجا ، كتول،ابوطبر، ام دراق، العفاريت ...الخ) ، وكل الدلائل تشير انهم اقرب الى مجموعة (الاجانق) اللغوية. تناولت مقالات الكاتب الجوانب المختلفة لثقافة قبائل محددة من المجموعة التى سماها (بالنوبة الجدد) و هى مجموعة كواليب – مورو (هكذا تكتب) ، مجموعة تلودى – مساكين ، ومن مجموعة تلشى- كرنقو اختار قبيلة كرنقو ، هؤلاء هم النوبة الجدد الذين صنفهم بانهم سند رئيسى للحركة الشعبية لتحرير السودان وان بقية النوبة يدعمونهم فى الميديا . القبائل التى انتخبها لمقالاته هى قبائل كرنقو، مساكين ، اتورو، هيبان ، مورو ، تيرا ، و عشيرتى "لوتى" و "كدنقى" (الهدرا و ام حيطان) من قبيلة الكواليب . وقد تحدث عن زى هذه القبائل و افتخار النوبوى بجسده العارى ، و نظام النسب و التوريث و الزواج و تعدد الزوجات و نظرة النوبة للمرأة ، و تكلم عن بعض التقاليد و العادات المتبعة و ما سماه قصر الذاكرة الجمعية و الولع بالشعوذة و السحر و غيره . الكاتب أقر انه اعتمد على بعض معلومات مقالاته من كتاب "النوبة" للدكتور س. ف.نادل وهى دراسة انثروبولوجية قيمة كان قد اجراها د. نادل بطلب من السير دوقلاس نيوبولد حاكم كردفان سابقا والسكرتير الادارى فيما بعد . بدأ دكتور نادل جمع معلوماته عن النوبة عام 1938 و عند اندلاع الحرب العالمية الثانية انتقل الى الابيض و اتم كتابة البحث بها ، فواضح ان المعلومات التى جمعت ترجع الى ما يقارب القرن من الزمان ، والدراسة مع قيمتها لا تعكس الحقائق الاجتماعية و الثقافية فى مجتمع جبال النوبة الان لسبب بديهى هى ان المسائل المرتبطة بهوية و ثقافة مجتمع ما تتبدل من وقت لاخر فهى مسألة ديناميكية و تتغير على الدوام ولا تثبت مطلقا . اغلب الظن ان كاتب المقالات بريمة البقارى لم يجر بحثا ميدانيا لكى يصل لمعلومات حديثة لكى يستند اليها ، وواضح ان بعضها محض اختلاق من الكاتب (مقالته عن لوتى ،كدنقى). وبينما نجد ان الكاتب يورد من التقاليد و الممارسات والتى يستهزئ بها - قياسا بثقافته و نظامه الرمزى- الا انه لم يتكرم بايراد النتائج القيمة لبحث الدكتور نادل الخاصة بمفهوم التكافل الاجتماعى فى مجتمع النوبة او الفيدرالية القبلية و غيرها من المكارم و الخصال التى تميز مجتمع جبال النوبة . يدعى الكاتب انه يؤمن بالتعدد الثقافى وتنميته للاستفادة منه فى خلق عقد اجتماعى و ان مقالاته محاولة للتلاقح الثقافى ، ولأنه يبطن غير ما يقول و هو فى الحقيقة ينكر ويرفض الاخر ، فيأبى عقله الباطن الا يقذف بما يحاول اخفائه الى الخارج . فانظر اليه عندما ينادى بالتلاقح الثقافى ثم يأتى ليستنفر (القبائل العربية فى جنوب كردفان و الشعب السودانى عامة) للمسافة الثقافية التى تفصل بينهم بما يعتبره (اعتداءا) سافرا على ثقافاتهم ومورثاتهم العربية من قبل النوبة ، ويقول (نرنو الى ان نعرف الاخر و نحترم بعضنا رغم اختلافاتنا الثقافية) ، ويأتى فى الفقرة التى تليها ليقول (ان هذه هى بمثابة فتح بصيرة لابناء النوبة (طبعا يقصد النوبة الجلابة حسب تقسيماته) ليعرفوا ان ما (يحاك) ضدهم بواسطة النوبة الجدد ، وهو (انقلاب حقيقى يحمل سمات ثقافية و دوافع مختلفة) !! هى اذن دق لطبول حرب ثقافية فى الاقليم وانكار للاخر المختلف عنه ، واحتيال منه لتبعيض النوبة ، بعضهم جدد ذوى شر يتربص بالبعض الاخر المستعرب و الخيِّر تبعا لاعتقاده. مقالات الكاتب تفضح ما يجول بخاطره ، فقد وضع ابتداءا حدا فاصلا بين النوبة و اهله البقارة لذلك يبدو مذعورا و مضطربا غاية الاضطراب نتيجة لاوهام يتخيلها ، و ينادى على شيعته ان يتدبروا امرهم للتأقلم مع هذه (الجرعة الثقافية المغايرة ) ، لكنه سرعان ما عاد الى كوابيسه فى ان النوبة الجدد سوف (يكونون حكاما و سوف "يفرضون" نهجهم الثقافى و الاجتماعى) . فيما يتعلق بمسائل الزى ، الزواج و نظام النسب و التوريث و غيرها فانها سمات تبين مدى تنوع و تميز الثقافات بين مجتمعات مختلفة و غير متجانسة كحال مجتمعات جبال النوبة ، ولا يمكن محاكمتها بنظام استعدادات و تصورات ذهنية مختلفة عنها. لكن دعنا هنا نتحدث عن ثلاث امور تكلم عنها الكاتب و هى ما يسميه "بالنجاسة العمرية"، الزنا و الشعوذة و السحر والتى تدلل على التهافت و درجة التحامل فى التناول . فقد تحدث عن مسألة الحيض عند المرأة و نظرة النوبة التى تغاير ما عند قبائل السودان الاخرى وسماها النجاسة العمرية و مرة اخرى ينعتها ب"كرنتينة المرأة الحائض" وان الرجال فى جبال النوبة يعزلون المرأة الحائض و لا تكلف باعداد الطعام و غيرها من مسئوليات المرأة فى المنزل ، و تسائل باستغراب ما هى مشكلة النوبة الجدد مع المرأة ؟ افتراضى هو ان الكاتب ان لم يكن مسلما فتعاليم الاسلام بالتأكيد هى جزء من ثقافته كسودانى كما هو شأن كثير من مسيحيى الديانة و كريم المعتقدات فى السودان ، و بدورنا نسأل الكاتب لماذا يقول القرأن الكريم باعتزال النساء فى المحيض ؟ أليس ذلك لأن الحيض "أذى" ؟ و من كل الاسباب التى يمكن ايرادها الا يمكن ان يرى البقارى تعامل النوبوى بشأن حيض المرأة من قبيل النظافة الشخصية و نظافة البيئة المحيطة به اذا اخذنا فى الاعتبار عدم توفر سبل ووسائل ال hygiene فى ذلك الزمان؟ ان كان هنالك ثمة مشكلة فهى فى ذهن الكاتب وحده ، فلا مشكلة البتة للنوبة مع المرأة و لا مشكلة للمرأة عند النوبة ، فمجتمع النوبة مجتمع ديمقراطى و المرأة فيه محل احترام و تقدير ولها مكانة عظيمة فى النسق الاجتماعى وتشارك الرجل فى كل الشئؤن . و كذلك ألقى الكاتب فى مسألة الزنا بقول ثقيل ، اذ أفتى بانها امر مشروع اجتماعيا فى مجتمع النوبة . و كعادته فى عدم تماسك رواياته قرر ان النوبة يحاربون الزنا "بلعنة الجذام" ، هو هنا يقر بأن النوبة يحاربون الزنا ، فلو كان مشروعا فلماذا يحاربونه اذن ؟ والجذام مرض منفر، وعندما تفشى فى جبال النوبة و كان غير معروف قبل ذلك وكان الناس يفرون من المريض دليل انه مرض خطير ، فالتخويف به كوسيلة للحض على عدم مقاربة الزنا يوضح الى اى مدى كان الزنا محظورا فى المجتمع. والزنا مرض اجتماعى خطيرلم ينج منه اى مجتمع ، وتبتدع المجتمعات طرق مختلفة فى محاربته و الحد من ظاهرته وآثاره و انجع وسيلة للمحاربة هو ما تعلق بالمعتقد و بالمقدس مثل "اللعنة" فى جبال النوبة . الزنا ليس مشروعا فى اى من مجتمعات جبال النوبة لكن الكاتب يثير هذه المسألة فى مواجهة "الاخر" المختلف عنه ثقافيا و اجتماعيا ليدلل على تخلفه و همجيته ، لكن دعنا نأتى بنماذج من ظاهرة الزنا فى المجتمع العربى فى الماضى و الحاضر ليعرف الكاتب ان الظاهرة شائعة فى كل المجتمعات. ونورد هنا المجتمع العربى بالتحديد لانه مركز هوية الكاتب الذى يقيس عليه الاخرين ، ولا يفهمن احد بالطبع ان الزنا مشروع فى المجتمع العربى : • الاستبضاع : هو ان يدفع الرجل بزوجته الى رجل اخر من علية القوم او ذوى الصقات الحميدة ، فيناكح الرجل الغريب المرأة و حين يقع حملها تعود الى زوجها وله المولود مظنة ان يصير مثل والده البيولوجى. • المخادنة: هى المصاحبة ،اذ ان بعض النساء تصادق عشيقا غير زوجها و قيل ان المخادنة لا تصل الى النكاح (المعاشرة)، و يكتفى العشيق من المرأة بالقبلة و الضمة و قيل انه النكاح (المعاشرة) . • البدل: هو ان يبدل الرجلان زوجتيهما لفترة مؤقتة بغية التمتع والتغيير دون اعلان طلاق او تبديل عقد زواج ، و يروى ان الرجل يقول للرجل " انزل لى عن امرأتك و انزل لك عن امرأتى ، و ازيدك". • المضامدة: و هو ان تتخذ المرأة زوجا اضافيا او اكثر غير زوجها ، و الضماد هو ان تصاحب المرأة اثنين او اكثر لتأكل عند هذا و ذاك فى اوقات القحط . • الرهط : هو ان يجتمع عشرة من الرجال و ينكحون امراة واحدة ، واذا حملت ارسلت اليهم جميعا ثم تختار من بينهم من يكون والد الجنين الذى فى بطنها ، ولا يستطيع احد الامتناع عن الاعتراف به . هذا هو انواع الزنا عند العرب قديما ، اما حديثا نذكر منه انواعا وهى شائعة حاليا عند عرب الجزيرة العربية والخليج : • زواج المسفار: هو محدد بمدة السفر فقط حيث يتمتع به الرجل والمرأة وعند انتهاء السفر تنقطع العلاقة . • زواج المصياف : حيث يتزوج بعض رجال و سيدات الاعمال فى الخليج خاصة اثناء عطلات او مهمات العمل فى الخارج . • المصاحبة البريئة و غير البريئة و هى شائعة جدا • وغيره من انواع الزنا كالزواج العرفى و جهاد النكاح ..الخ عن الزنا عند عرب البقارة ارجو من الكاتب الاطلاع على كتاب "الحوازمة" لمؤلفه على حموده كحيل . كذلك تكلم الكاتب عن ما سماه الشعوذه و السحر فى مجتمع النوبة بلا معرفة منه بالسياق الثقافى والاجتماعى لمعتقدات هذه المجتمعات . الشعوذة والسحر مرتبطان عادة بالشر و الحاق الاذى بشخص ما او تحقيق مكاسب معينة ، و هى معتقدات قديمة تحدث عنها التاريخ كما جاء ذكرها فى الكتاب المقدس . ما يحدث فى مجتمع جبال النوبة فأمر مختلف كل الاختلاف عن السحر و الشعوذة و عن كل ما هو شر، بل هى معتقدات دينية بالمفهوم العام لكلمة "دين" بما هو مرتبط بما فوق الطبيعة و بما يفسر علاقة الانسان بالكون . المعتقدات القديمة و الخرافات موجودة فى كل مجتمع ، فنرى دوما فى مجتمع الكاتب نفسه اشخاصا يضعون تمائم و "حجبات" فى اذرعهم لكف الشر عنهم او جلب منافع و غيره كثيرالذى لا نجد غرابة فيه فى زمانه ، فلا ينبغى ان نقيس الناس بمقياس غير الذى فى زمانهم . وما رأى الكاتب فيما نقرأ فى كتاب "طبقات و دضيف الله" من كرامات الاولياء و الصالحين و التى تختلط بالخرافة فى اغلب الاحيان . والاشخاص الذين يقومون بهذه الطقوس فى مجتمعات جبال النوبة والتى يراها الكاتب غريبة هم "رجال دين" فى هذه المجتمعات ، واولياء صالحون ويتصفون بكل مكارم الاخلاق ، فلن تجد "كجورا" يسرق او يقتل او يخون العهد ، وليس غريبا ان تجد "كجورا" يصلى و يصوم و يحج البيت ، اذن لا علاقة لذلك بالدجل و الشعوذة الذى يعنيه الكاتب . هوية السودان منذ ما قبل الاستقلال كانت مدار جدال ونقاش حول ما هى هويتنا؟ ، و قد برزت مدرستان فكريتان حاولت احداهما التدليل ان السودان دولة عربية بينما حاججت المدرسة الاخرى ان السودان دولة افريقية ، ثم ظهرت مدرسة "الغابة و الصحراء" و التى حاولت التوفيق بين مدرستى العروبة و الافريقانية فدعت الى "الافروعربية" ، فى نهاية المطاف انتصر مدرسة ان السودان دولة عربية بدفع من اكبر مناصرى العروبة و هما محمداحمد المحجوب و اسماعيل الازهرى ، فتأسس بذلك دولة اقصائية مشوهة منذ ذلك الحين والى الان . ولأن الهوية الاسلاموعربية التى تبناها المستعربون فى السودان لم تأت نتاج للتاريخ و تطوره الطبيعى وانما كانت نتاج للسياسة فان دولتهم الاقصائية عملت على التعريب و الاسلمة و صممت مناهج التعليم بهدف ترسيخ الهوية العربية و الاسلامية ، وهى الهوية التى تتربع على القمة الهرمية العرقية و ترتب بقية الهويات اسفلها على اساس قربها او بعدها من الهوية "الرسمية". تم كل ذلك بغرض المحافظة على الامتيازات و الثروات التى تراكمت نتيجة تحالف تحالفهم مع الغزاة ، الاتراك و من بعده الانجليز والمصريين ، هكذا كانت الهوية الثقافية شرارة الحرب ووقودها الى هذا اليوم . لذلك فان الصراع قد استمر فى السودان الى ان بزغت رؤية السودان الجديد و التى انبنت فكرتها الاساسية على التنوع التاريخى و التنوع المعاصر والتى تؤكد ان السودان ظل على مر التاريخ متنوعا دينيا و عرقيا و ثقافيا .عمل المستعربون على التزوير ومحاولة استبعاد تنوع السودان التاريخى اذ قاموا ببتر آلاف السنوات من حضارات السودان المتعاقبة و قالوا ببداية تاريخ السودان بدخول العرب الى السودان ، ثم حاولوا و ما زالت محاولاتهم جارية لانكار و محو التنوع المعاصر. السودان يتميز بشتى انواع الهويات كالهوية الثقافية والعرقية والدينية و ليس هناك هوية وطنية تجمع كل اقوام و ثقافات السودان ، و لا يوجد نظام واحد للاخلاق و الاعتقاد يمكن ان يحكم السودان كله . و نسوق المثل بشخصية يعتبرها المستعربون ونخب الجلابة ووكلائهم المحليين رأس مالهم الرمزي وبطلا قوميا وهو الزبير رحمه منصور، بينما هو فى حقيقة امره اكبر النخاسين و رمز للشر تسبب فى مآسى انسانية عصية على الوصف . التنوع حقيقة لا يمكن انكارها فى السودان ، فدعنا نعترف بالتمايز الثقافى و الدينى و الاثنى و حق الاخرين فى ممارسة اختلافهم ، و ندعو المستعربين الجدد الذين هاجروا ووفدوا الينا حديثا الى الاحتفاء بهذا التنوع وان يدركوا ما فيه من ثراء و بهاء . و نواصل ........ كموكى شالوكا (ادريس النور شالو)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة