الصِّراع المستمر في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان (جبال النُّوبة) ومنطقه دارفور هو جزء وحزمة من المشكل الأوسع في السُّودان، الذي نشأ من خلال أزمة الحكم منذ استقلال البلاد العام 1956م. إذ يمكن تلخيص هذا المشكل في التَّهميش الثقافي والاقتصادي والسياسي للشعوب الأصلية في السُّودان. كما أنَّ بوادر الخلاف السياسي المستمر في السُّودان ينبغي تفسيره على أنَّه يرتبط بقضايا الهُويَّة والتنوُّع الأثني وعدم الاعتراف بالتعدُّد الثقافي والديني والتخلف وانعدام العدالة المساواة والعدالة واستشراء الظلم في تقاسم السلطة السياسيَّة والثروات القوميَّة. على أيَّة حال، من الجلي أنَّ تاريخ حسم النِّزاعات المسلَّحة فى السُّودان عن طريق التسويات الجزئيَّة قد يضع نهاية مؤقَّتة للصِّراع المسلَّح من خلال وقف حمام الدَّم، ومنح بعض الأوضاع الشكليَّة للمجتمعات الساخطة من الأوضاع السياسيَّة في البلاد، وقد تؤدِّي لانتشار فترة الهدوء النسبي، ولكنها في نهاية المطاف لا تستطيع إزالة الأسباب الجذريَّة للنِّزاع. إذ أنَّ هذة الترتيبات تشجِّع مناطق أخرى فى القطر على حمل السِّلاح لإبراز ما يتعرَّضون له من تهميش اجتماعي-سياسي وحرمان اقتصادي، حيث أنَّ لغة الحرب قد أضحت الوسيلة الوحيده التى تلتفت إليها السلطات المركزيَّة في الخرطوم. ففي مناسبات عديدة كرر رأس الدولة الرئيس البشير شخصيَّاً القول بأنَّهم أخذوا السلطة بقوة السِّلاح، ومن يرغب في المصارعة على السلطة عليه مواجهتهم عسكريَّاً. قذف المعارضة بقفازات المصارعة وتحديها بتلك الطريقة التعسفيَّة يعني أنَّ النظام يحرِّض على المواجهة الدمويَّة مع مواطنيه من العسكريين والمدنيين على حد سواء. لقد وصلت محنة الشعب السُّوادانى اليوم إلى وضع كارثي من ناحية الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، والتعدِّي على الحريَّات الأساسيَّة، التي تشمل حريَّة التعبير والمشاركة والتجمُّع، والتراجع المريع في المستوى المعيشي، ونقص الخدمات الأساسيَّة، والانتشار الواسع للظلم وسط المواطنين في أقصى شمال السُّودان نتيجة لبناء السدود على نهر النيل، مما تسبَّب في غمر مزارعهم ومنازلهم بالمياه دون إعطائهم أيَّة تعويضات كافية، حتى قادت تلك الأوضاع إلى تجريدهم من سبل العيش الضروريَّة. والأكثر قلقاً هو الاعتقالات العشوائيَّة والتعذيب والمعاملة السيئة للخصوم السياسيين داخل حجرات التعذيب في العاصمة الخرطوم، خصوصاً طلبة دارفور النشطاء. والجدير بالذكر بأنَّه في السابع من كانون الثاني (يناير) 2016م وفى طريقها إلى ميادين المعارك بجنوب كردفان قامت قوات الدعم السريع المبتدعة من قبل الحكومة السُّودانيَّة باغتصاب أكثر من 14 امرأة بمدينة العباسية في منطقة تقلي، وكانت من بين المعتدى عليهن سيدة مسنة تُدعى حواء خميس، وأيضاً قامت هذه القوات بقتل ستة أشخاص وجرح 17 آخرين، وسرقة المحلات التجاريَّة في سوق المدينة ومراكز أخرى للتسوق في الريف. وكذلك حدث ما بين شهرى كانون الثاني (يناير) ونسيان (أبريل) 2015م أن أسقط سلاح الطيران السُّوداني 374 قنبلة على 60 موقع في ولاية جنوب كردفان. منذ العام 2011م قذفت القوات الجويَّة السُّودانيَّة 26 مرفقاَ صحيَّاً (مستشفيات وعيادات ومراكز صحيَّة). ففي العام 2015م كانت هناك فقط مستشفيين تعملان على خدمة 1.2 مليون شخص. وفي كانون الثاني (يناير) تمَّ تفجير مستشفى (م س ف)، حيث ألقت مقاتلات سلاح الجوى السُّوداني 13 قنبلة سقطت اثنان منها داخل مبنى المستشفى، وسقطت الأخريات على السياج. كذلك كان لهذا القصف الجوي تاثيراً على حق التعليم في جنوب كردفان. عندما بدأت الحرب كانت هناك ست مدارس ثانوية بمناطق سيطرة الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان - شمال، وفي العام 2015م تبقت ثلاث فقط صالحة للعمل. وبذلك تراجع عدد أطفال المدراس الثانويَّة بمناطق سيطرة الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال من 3.000 إلى حوالى 300-500، بينما أغلقت 30 مدرسة ابتدائيَّة وتراجعت أعداد المسجَّلين بها إلى 23.000 منذ العام 2011م. ومن جانب آخر، أدَّى القتال المستمر بشكل متقطع فى ولاية النيل الأزرق بين الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال والقوات المسلحة الحكوميَّة إلى تهجير 60.000 مدنيَّاً تقريباً. ففي أيار (مايو) من العام الماضي قادت صدامات مسلحة بولاية النيل الأزرق إلى مقتل 22 مدنيَّاً ونزوح 19.000 نزوحاً داخليَّاً. ومنذ العام 2011م أصبح استخدام القذف والتحليق الجوي فوق القرى والمجمَّعات المدنيَّة ممارسة دائمة للقوات الجويَّة السُّودانيَّة الشيء الذى خلف أثراً نفسيَّاً عميقاً طيلة فترة النِّزاع. لقد أدَّى القصف الجوي خلال شهرى أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2015م إلى إعاقة النشاطات الزراعيَّة قبل موسم الخريف. هذه الانتهاكات الخطيره لقانون حقوق الإنسان العالمي ومعاهدات حقوق الإنسان الدوليَّة، بالاضافة للهجمات الجويَّة والبريَّة الموجَّهة ضد المدنيين وممتلكاتهم، ومنع المساعدات الإنسانيَّة تمَّ تقييدها جميعاً بواسطة منظمة العفو الدوليَّة. إنَّ نقص المساعدات الإنسانيَّة قد أدام انتهاكات حقوقيَّة أخرى، مثل انتهاك حقوق الصحة والتَّعليم والغذاء والمياه الصالحة للشرب والسكن الملائم. لذا أقرَّت منظمة العفو الدوليَّة بأنَّ الحكومة السُّودانيَّة ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيَّة وإبادة جماعيَّة في المنطقتين. وهذا يعد خرقاً خطيراً لمعاهدة جنيف فيما يختص بمعاملة المدنيين العزل فى مناطق النزاعات المسلَّحة. أمَّا في منطقة درافور، فإنَّ قتل المدنيين في الجنينة وانتهاكات حقوق الإنسان عبر الأعمال العدائيَّة المستمرة في جبل مرَّة ما هي إلا نماذج قليلة عن انتهاك الحقوق الأسياسيَّة للإنسان في الإقليم في سياق الحرب الأهليَّة القائمة في السُّودان تحت ذريعة مواجهة التمرُّد. لقد أضحى جليَّا أنَّ النظام في الخرطوم يؤمن فقط في تحقيق انتصار عسكري على الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال؛ كما أنَّه يمانع في وصول منظَّمات الإغاثة إلى المحتاجين في المنطقتين، هكذا يستخدم النظام الطعام كسلاح ضد شعبه. هذا الشيء ظهر بوضوح عند انعقاد الجولة 13 من محادثات السَّلام حينما رفضت السلطات في الخرطوم مطلقاً اتفاق وقف العدائيَّات لأغراض إنسانيَّة أو السماح لمنظَّمات الإغاثة العالميَّة بالدخول إلى المنطقتين. والآن حكومة المؤتمر الوطني في الخرطوم تخطِّط لاستخدام مواد مشعة كان قد تمَّ تخليصها من ميناء بورتسودان لتصنع منها قنابل البراميل، والتي تُقذف من طائرات الأنتينوف الروسيَّة الصنع فوق مناطق سيطرة الجركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال مع النيَّة المتعمَّدة لإبادة المدنيين والاستيلاء على أراضيهم. هذة الحقيقة المأسويَّة قد ظهرت من معلومات سُرِّبت بواسطة أريك ريفز من اجتماع عالي المستوى لقيادات الأمن بالسُّودان بتاريخ 11 تشرين الأول (أكتوبر) 2015م. إنَّ فرض منطقة حذر سلاح الطيران في المنطقتين هو بداية الحل. إذ أنَّه سيجرِّد نظام الخرطوم من عامل تفوقه في استخدم قوته الجويَّة في استهداف متعمِّد للمدنيين العزل والمستشفيات والمرافق المدنيَّة الأخرى، وبالتالي ستجبر السلطات السُّودانيَّة على التفاوض، والسماح بوصول مواد الإغاثة الإنسانيَّة للمحتاجين في المنطقتين ومناطق الحرب الأخرى في السُّودان. محنة اللاجئين من المنطقتين في جمهوريَّة جنوب السُّودان تسبِّب بنفس القدر قلقاً عظيماً. هم يحتاجون إلى إمدادات إغاثة، ومعونات لتعليم أطفالهم، وتدابير للخدمات الصحيَّة. أمَّا فيما يتعلق بمناطق الحرب المنكوبة في السُّودان، بما في ذلك ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، فنحن نناشد عبركم الحكومة البريطانيَّة في أن تمارس الضغط على حكومة السُّودان لإنجاز الآتي: (1) السماح الفوري وعدم عرقلة وصول المنظمات غير الحكوميَّة والوكالات الإنسانيَّة الدوليَّة إلى المناطق المتأثِّرة بسبب النِّزاع في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. (2) ممارسة الضغوط الاقتصاديَّة والسياسيَّة والدبلوماسيَّة على حكومة السُّودان لاحترام وتنفيذ كل الاتفاقيات التي وقَّعت عليها سواء مع الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال أو مع الشركاء الثلاثة تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، بما في ذلك مذكرة التفاهم الموقع عليها في الخامس من آب (أغسطس) للعام 2012م. (3) القيام بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان بواسطة (مؤسسة أو لجنة مستقلة تهدف إلى تحقيق العدالة وتفادي تكرار مثل هذة االجرائم الوحشيَّة)، والتحقيق في استخدام القوات الجويَّة السُّودانيَّة للقنابل العنقوديَّة المحظورة دوليَّاً ضد السكان المدنيين في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. هذا مطلب يدعم ويتطابق مع مبادئ القانون والعدالة الدوليَّة. (4) تصعيد الجهد المشترك للوصول إلى حل سياسي راسخ للنِّزاع القائم في المنطقتين من خلال النظر إلى مستقبل السُّودان السياسي، حيث يجب إزالة قيود التعايش بكرامة عن كل المهمَّشين في السُّودان وضمان مشاركتهم الكاملة والمتساوية في قسمة السلطة والثروة. (5) هناك حاجة للوصول إلى تسوية سلمية دائمة وراسخة مستمرة وشاملة لكل مشكلات أهل السُّودان كافة. إنَّ ما نلحُّ عليه ونطالب به هنا بخصوص بناء عمليَّة السَّلام في السُّودان ليس هو ما تطالب به الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال وحده. فالجدير بالذكر أنَّ حكومة السُّودان – حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال قد وقَّعتا بروتوكول إعلان المبادئ في العاصمة الإثيوبيَّة، أديس أبابا، بتاريخ 28 حزيران (يونيو) 2011م، وقد شمل البروتوكول – فيما شمل – عدداً من النقاط الواردة أعلاه. باسم الإنسانيَّة والكرامة ومبادئ الأخلاق وحقوق الإنسان العالميَّة، نحن نود أن نناشدكم ونتوسَّل إليكم بأن تمارسوا نفوذكم في مجلس اللوردات ومجلس العموم والحكومة البريطانيَّة لإنقاذ المواطنين السُّودانيين من هذه الممارسات المروعة التى ترتكب ضدهم بواسطة حكومتهم التي جاءت لا باختيارهم، بل قسراً وقهراً، وها هم الآن يتطلَّعون إلى المجتمع الدولي من أجل البقاء والعدالة.
الدكتور عمر مصطفى شركيان ممثل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال بالمملكة المتَّحدة وجمهوريَّة أيرلندا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة