سألت دكتور النور حمد في كلمتي السابقة إن كان مقلداً أو أصيلاً في تصويره بالغ السلبية للعقل الرعوي الذي وظفه لتفسير محنة العرب بل ومحن أخرى. ووجدته بعد التحري مقلداً لنظرات الاستشراق حذو النعل بالنعل بما يدنيه من الاستشراق الداخلي. وتعريف هذا الاستشراق الطوعي هو "أن يستبطن الشرقي (العربي المسلم في حالنا) المغلوب على أمره صورة المستشرقين الدونية عنه، ويتبناها، ويحكم بها على تاريخه وعقله ومكانه في التاريخ" كما جاء في كتابي "الشريعة والحداثة". وأسأل هنا إن كان دكتور النور قد اطمأن بأن لا دخل لهويته كعضو في صفوة حداثية حضرية انصرمت علاقتها بالأرياف (بل صار التأفف من عامة أهله طبعاَ سياسياً فيها) في تصوره المبغض للرعاة حتى قال إن نزاعاتهم تقع "بسبب أمور تافهة مثل سرقة بهيمة، أو ثأر". وهذا مما يسوقنا إلى علم تخلق المعرفة (construction of knowledge) الذي "تهد" فيه أضغاننا الاجتماعية على صورتنا للآخر فلا ينقذه (وينقذنا بالأخرى) سوى نهج التفكيك. وهو نهج يفرض على الدراس شفافية يتربص بها بحزازاته ويقعد لها كل مقعد ليتطهر منها فيرى الأخر في شرطه هو واستحقاقه لا في خيلاء الذات. ومدار هذه الشفافية حيال الآخر هو العلم المحيط بالأخر الذي ينقينا من شرور أنفسنا. وتوافر لدكتور النور هذا العلم المنقذ من منطويات الذات في علم أنثربولجيا الرحل السودانيين. فكان بلدنا حاضناً لدراسات انثربولجية غراء عن الرعاة أسس لها الأنثروبولجي البريطاني إيان كنينسون بكتابه "عرب البقارة"، وتلميذه طلال أسد بكتابه "عرب الكبابيش"، وتبعهما تلميذهما عبد الغفار محمد أحمد بكتابه عن عرب رفاعة الهوي ثم عباس أحمد عن عرب النيل الأبيض. وبالطبع سبقهم جميعاً إيفانز يرتشارد إلى رعاة النوير بكتابه عنهم الذي هو العمدة في دراسة سياسات الرعاة القائمة على تحالفات "أنا وابن عمي" الذكية. واستخلص كنينسون خبرته في دراسة الرعاة في محاضرة مميزة القاها بجامعة هل بإنجلترا عنوانها "الرعاة في ستينات القرن العشرين (1976). وتعرض بصورة خاصة لصورتهم كما شكلتها إدارت أجنبية ووطنية تحيزت لوظائفها في الحكم أو لمناشئها الاجتماعية في الحضر مما نتج عنه صورة سلبية لمجتمع الرعاة. وذكر بوجه خاص المنشأ الحضري للإداريين والسياسيين لفترة الاستقلال في الحضر. وهم ممن كان نقدهم للاستعمار نفسه، الذي ورثوا آلياته وحزازته ضمن ما ورثوا حين آلت لهم دولته، نابعاً من مشاغل حضرية مركزية. وهو المنشأ الذي باعد بينهم وبين البادية برغم أنهم سودانيون مثلهم. فخططهم لتطوير البادية صدرت عن مطامح نافية لحياة الرحل الذين تشبعوا بدورهم بالريبة في كل ما يردهم من الحكومة المركزية. وقال كنينسون إنه بدت له الفجوة بين الرحل والإدارة الوطنية في أبحاثه ظاهرة للعيان. فلهذه الإدارات مآخذ شتى على الرحل لبعضها ميزات دون غيرها. وتقع مآخذهم هذه جميعاً في تصوير حياة الرحل كحياة مفارقة لأهداف الدولة الحديثة والعالم الحديث. وأضاف أنه، حتى لو صحت المآخذ، فسيخطيء من اتخذها ذريعة للقول بأن حياتهم خطأ كبير. وجريرة مثل هذا القائل ماثلة في عسر الحكم على مقاصد الأنسان في دنيانا وكيفية قياس الاستحقاق الإنساني. فأنت تسمع من صفوة الحكم جملة اتهامات للرحل من مثل أن الرعاة مضربون عن تلقي العلم في المدرسة، وأن طرائقهم في الحياة نقيض للحداثة، فلا سبيل لبلوغ خدمات الصحة والتعليم لهم. وهم من جهة أخرى أشقياء (خارجون عن القانون في مصطلح الدولة الإسلامية) لا موضع لحياتهم لإنشاء سلطات للشرطة. وأنهم محجوبون عن الولاء الوطني الواسع لتورطهم في الولاءات القبلية الضيقة. وعلق كنينسون إن هذه اتهامات لا غبار عليها برغم نبرة الانهزامية التي تحيط بها. وهي مع ذلك أقل أهمية من ما يثار عن الرعاة في مجال الاقتصاد والبيئة. فيقولون إن اقتصاد رعيهم، الذي يمتد فوق أرض واسعه، مصحر للبيئة. ومن رأي كنينسون أن من يتخذ من هذه المآخذ على البدو سبباً للقول بوجوب تغيير حياتهم إنما يُحَكِم خيارته هو. فلم تطرأ للبدو هذه الحاجة للتغيير. فالدافع للتغيير هنا نشأ بين أناس ليسوا من قبيل الرعاة: أناس تطبعوا بمجتمعاتهم خاصة التي حياتهم فيها قائمة على وجود منظم بصورة ما. ويضيف بأن الإداريين يصرون على مآخذهم بحسن نية كبير. وتطرق إلى الشعار الداوي قي دهاليز الحكومات الوطنية ومنظمة الأمم المتحدة: كيف لنا من استقرار الرحل؟ فمن بين المطروح بصدد الإجابة على السؤال مثلاً أن يتحولوا بالرعاة إلى الاستقرار. ومن رأي كنينسون أن الدوائر الداعية لتطوير الرحل هذه تخطيء لأنها تطرح على نفسها الأسئلة غير الموفقة. فالأحرى أن تسأل نفسها كيف ستدمج الرعاة بصورة وثقى في حياة الأمة ابتغاء منفعتهم وسائر الأمة. وقال إنه متى طرحنا السؤال على هذا الوجه أضفينا على حياة الرحل مشروعية مستحقة لها بلا منازع.. ومع أنه لا يدعو لاستمرار حياة الرحل على ما هي عليه إلا أن هذه الوضع الصحيح للمسألة سيغنينا عن الاندفاع لتغيير حياتهم بليل. وكنينسون هنا لا يصدر عن فكر محافظ كما قال بل عن فكر عملي يتجنب تعريض الرحل لتغييرات عجولة مزلزلة في حياتهم علاوة على انفاق موارد شحيحة على مثل هذا المشروع الطموح الذي يتهدده الفشل. فقد قرأت في أرشيف مجلس ريفي الكبابيش بسودري عن خطة لضابط المجلس الريفي يقترح أن يزود الكبابيش الرحل ب"كرافانات" من نوع ما نرى في الغرب لنقلهم من موضع إلى آخر. فأنظر هذا الإسراف؟ فنهج كنينسون على خلاف من الإداريين العجولين. فهو يريد لنا أن نترك للرعاة أن يفيقوا في وقتهم الخاص على أن حياة الاستقرار أنفع لهم من الترحل. وسنرى في كلمة قادمة أن أستاذنا عبد الخالق محجوب، الذي يضرب به المثل في الاشمئزاز من الرحل بقولته الشهيرة "عنف البادية"، أحسن مقالاً من كنينسون في هذه الناحية. ومن رأي كنينسون أن للانثروبولجيا (وكل الباحثين)، بعلمها الواسع الحقلي عن حياة البادية، دوراً منتظراً في تقريب الشقة بين ثقافة الإدارة وثقافة البادية. قال أحدهم إنه لا ينبغي لكاتب رواية فقير أن يكتب عن حياة الأغنياء لأنه ربما عرف أشياء وغابت عنه أشياء كثيرة. وكذلك ينبغي على أهل الحضر أن يتحفظوا في الكتابة عن أهل الوبر لسوء ظن قديم فيهم. ولن يطهرهم منه إلا العلم الدقيق باستحقاق الرعاة الإنساني كبشر أسوياء. وفي المرة القادمة أعرض عليكم أقباس من زينة عقل الرعاة كما صورها الأنثروبولوجي طلال أسد في كتابه "عرب الكبابيش".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة