تحامل الدكتور النور حمد على العرب الوافدين على السودان أو غزاته، إن شئت، وأوزرهم بهدم الحضارة الكوشية كما لم يفعل مع بدو السودان المقيمين ممن سبقوا العرب إلى تخريب تلك الحضارة بصورة أو أخرى مما سنأتي عليه في حينه. فهو يوزر العرب بهدم التقليد الحضاري الكوشي لا مملكة كوش نفسها بالطبع كما تملي ذلك تواقيت التاريخ. فقد جاء العرب إلى السودان في القرن التاسع وما بعده بينما زالت دولة مروي في القرن الرابع الميلادي.
لم يمنع النور من هذه الضغينة على العرب أنه نسب تخريب كوش في مقالاته لعيزانا، أمبراطور مملكة أكسوم الحبشية. فقال إنه كان هو أول من قضى عليها. فنزل عليها من هضبته ليكتسح كوش النوبية. وقال عيزانا في نقشه إن حملته في دولة مروي أهلكت النوبة "السمر" والنوبة "السود". واتفقت للنور هذه التفرقة بين الجماعتين النوبيتين على بينة من هذا النقش (نقلاً عن الدكتور أحمد الياس حسين). فقال إن النوبة السود أحدقوا بالنوبة السمر وأرهقوهم. وكان النوبة السود شوكة في خصر دولة أكسوم أيضاً مما دفع امبراطورها لغزو مروي بنوباها سمرهم وسودهم، ولويدق، في قول النور "آخر مسمار في نعش تلك الحضارة الانسانية الرائدة" أي كوش.
لم يتوقف النور عند بداوة النوبة السود ممن عرفوا في المصادر الرومانية واليونانية ب (Nubai و Nuba و Noubades و Annoubades). وثمة اتفاقاً بين الآثاريين أنهم بدو أقحاح. وقال المؤرخ اليوناني إراتوسثينت إنهم من سكان صحراء غرب النيل من كردفان ودارفور. وثمة اتفاقاً أيضاً بين المؤرخين أنه كان لهم دور ما في هدم دولة مروي التي قدموا إليها في بداية العصر الميلادي، وانتشروا على طول أراضي المملكة. واختلف المؤرخون بين مدرسة ترى أنهم أسقطوها "دز" ومدرسة أخرى ترى أنهم أسقطوها "بريس بريس" بما يعني أن تقاليدها الثقافية استمرت لم تقض عليها جائحة السقوط "دز". أسس لمدرسة سقوط مملكة مروي "دز" الاثاري آى جى آركل مؤلف كتاب "تاريخ السودان من عصور خلت إلى 1921" (1961). فقال إنه تحالف على سقوطها عاملان داخلي وخارجي. فالداخلي هو ما طرأ عليها من ضعضعة لسيادة النوبة الرعاة عليها. وأما الخارجي فغزوة عيزانا الأكسومي. وسنجد من يقول إن عيزانا مجرد جخجاج نسب في نقوشه إلى نفسه مأثرة كذوباً في هدم مروي بينما لم يتعد نشاطه حدوده الغربية. فالنوبة السود الرحل كانوا قد قضوا عليها قبله. وتجد أحمد الياس حسين يشبه استيلاء النوبة الرحل على مروي بما صنعته القبائل الجرمانية بالدولة الرومانية. بل هناك من يرى أن مروى قد أصابها الهرم لقرنين قبل سقوطها بيد النوبة الرحل وعيزانا. ووجدت من بين من قالوا بسقوط مروي بريس بريس الآثاري ديريك ولسبي مؤلف "مملكة كوش" (1996) ديفيد إدورد في كتابه "الماضي النوبي" (2004). وكلاهما افترض دوراً ما للنوبة الرحل في سقوط مروي. فإدورد يعتقد أن سقوط مروي لغز لم يفكك بعد. فليس بيدنا دليل على وقوع كارثة طبيعية أو غزو صريح لنقول إن تغييراً حدث من جراء أنقلاب أنهى المملكة. فالأرجح أن مروي خضعت لتداع تدريجي توزعت به إلى إقليمين او أكثر حفظا لها الاستمرارية. ويقوم بحثه على فرضية هرم المملكة حتى تلاشت مروي كمركز سكاني رئيس في القرن الرابع. فخلت معابدها من المتعبدين ودورها من السكان. وجرى هدم بعض مبانيها عمداً. وخلفتها ممالك مناطقية منها نوباديا في النوبة السفلى في القرن الخامس، ثم المقرة وعلوة في أوائل القرن السادس.
فلا يميل إدورد لتمييز دور رئيس لعيزانا في هدم مروي بما يزيد على هجمات لم تتجاوز حدود أكسوم الغربية. كما تشكك في دور رئيس للنوبة في هدم مروي وأخذ مدنها كما جاء عند عيزانا. فلم تأت نهاية مروي، حسب قوله، بضربة واحدة وإنما بعملية طويلة المدة شملت تمثل للنوبة البادية النازحة بتشجيع من مروي نفسها. فطالما كانت مروي دولة متعددة الأجناس فلربما وجدنا تفسيراً لسقوطها بالنظر إلى جماعة النوبة التي كانت منها وليست هاجمة عليها من الخارج. وإشارة إدورد إلى تشجيع مروي للرحل النوبة بالوفود إليها ربما صدق فيه قول ابن خلدون إن الحضر يتنعمون ويتركون المدافعة عنهم إلى غيرهم. فلربما كان نوبة مروي "مماليك" من نوع ما تمسكنوا فتمكنوا. سبق ولسبي زميله إدورد إلى تأسيس تقويض مروي على فرضية هرم الدولة. فأخذ قول عيزانا إن النوبة احتلوا أرض في كوش في دلالة تدهور المملكة. واستنتج المؤرخون ذلك التدهور من رداءة مادة بناء مؤسساتها وصغرها إبتداء من القرن الأول إلى القرن الرابع الميلادي قياساً بعظمة معمارها في عهدها الأول. ولكن ولسبي يرى التدهور قاصراً على الأسرة المالكة ولا ينطبق على المملكة. فقد أحاط نبلاء أثرياء في ذلك الوقت بالملك الذي تدهورت ثروته. فوجد بعض هؤلاء الأثرياء طريقهم حتى إلى المدافن الملكية بسبب ثرواتهم. وقال ولسبي إنه توافرت دلائل على استيعاب مروي لجماعات من غرب وشرق النيل أهمهم النوبا. ولكنه لم يستبعد إغارة قبائل الصحراء على مصر الرومية وكوش. وكانت كوش في مازق: إما زيادة جيشها لصد العدوان بما يتطلبه من تكلفة لم تعد تطيقها، إما انتظار البرابرة فالاحتلال. وقال إن ذلك كان هو نفسه مأزق الرومان في إمبراطوريتهم. فزادوا عدد جيشهم بما استتبعه من سطوة البروقراطية وزيادة وتائر الجباية. فضاقت القبائل البربرية فخربت عامر روما. واتصلت الحروب بين روما والبرابرة على الحدود بما أثر على حركة التجارة. وزاد ولسبي إننا لا نعلم عن نظم دفاعات مروي ضد غزاة الصحراء. ولكن وجدنا قلاعاً من القرن الرابع للدفاع ضد معتدين ما. كما علمنا أن استخدام البدو خصوم مروي للجمال في حربهم أعانهم على النصر عليها. وقال إن تعديات الصحراويين على كوش قديمة على مر تاريخها وبعضها مدون. وتضمنت نهباً للمعابد. وتساءل لماذا تردت مروي في وقت ترديها بينما الهجمات عليها قديمة حتى في وقت فتوتها؟ وعلق قائلاً إنه ليس الأهم استجداد الخطر على كوش كأن ذلك لم يكن قد حدث قبلاً، ولكن الأهم أن كوش لم يعد بوسعها، وقد تدهورت مواردها، في وضع لصد غزاة الصحراء. عليه يمكن القول بأن سبب تلاشي الدولة مردود إلى تسلل هذه الجماعات الصحراوية للدولة. مهما قلنا عن خلاف الآراء في سقوط حضارة مروي إلا أن الدلائل تشير على دور هادم ل"البرابرة" النوبة عند بوابة تلك الحضارة. فما زالت مروي في القرن الرابع الميلادي حتى خلفتها ثلاثة دول سرعان ما تحولت إلى المسيحية في منتصف القرن السادس. وفعل قيامها على دينها الجديد، في قول ولسبي، ما فعلته المسيحية بالحضارة المصرية القديمة بمصر حين تحولت إلى النصرانية. وقامت لهذه الدول هوية جديدة على أساس لغتهم النوبية بعد تلاشي اللغة المروية التي ما تزال طلسماً. لن تجد في مقالات النور ذكراً للنوبة كجماعة رحل وهو المعني بدورة صدام الحضارة (الأنسية) و البداوة (الوحشية). فكيف غفل عن هذه الدورة الصدامية التي جرت في تاريخ كوشي يعتقد بجدارته ولا يجد غير العرب الرحل من يلومه على هدمه؟ فقال "ثم تدفق الرعاة العرب بعد ذلك بقرون فحولوا السودان من بيئةٍ حضرية، مقتدرة في الفعل الحضاري، إلى بيئة رعوية. فارتدت البيئات السودانية المختلفة من بناء الحجر ذي النسق الهندسي الراقي، إلى أبنية الطين والقش. وبقيت الآثار المعمارية الباهرة للفترة الكوشية، غريبة وسط هؤلاء الذين فشا فيهم العقل الرعوي، فظلوا يظنونها، حتى وقتٍ قريبٍ جدًا، صروحًا من صنع الجن". لو استوثق النور من خبر معمار طبقات أهل النوبة ومنشآتها بصورة أدق لأجزنا قوله ولكنه لم يفعل. ويستغرب المرء إن كان بناء الطين والقش مما جاء به العرب ولم يكن سكن عوام النوبة في حين نهضت الدولة فوق معمار آخر من الحجر. ثم أن أبنية القش هي بالتحديد ما ذكره عيزانا في نقشه كسكن لبعض سودانيّ ذلك الزمان. وذكر أنه هدمها كما هدم أبينة الحجر. أما قوله عن غربة آثار مروي الباهرة بيننا نحن معشر العرب والمسلمين ممن توطنوا في أرض كوش فمردود. فقد ورد أن تلك الآثار الحجرية صارت غريبة في أهلها لقرنين قبل سقوط الملكة. واتسع الخرق بقيام الدول العاقبة لكوش على المسيحية التي، مثلها مثل الإسلام، لا تدين بصنم الوثنية ومعابدها. وربما عدتها، في طهر توحيدها، مثل صروح الجن تماماً مثل العرب المسلمين.
ولم استطرف بحث النور للمعاذير للدول المسيحية ليجعلها بالغصب حلقة من حلقات الحضارة الكوشية التي هدمها العربان الأجلاف. فيعتقد النور أن الدول المسيحية التي أعقبت خراب كوش قد "استُنقذت، هونًا ما،" أقباس من حضارة كوش من الغزو الأكسومي. وهذه الأقباس هي التي قضى عليها التحالف الرعوي للفونج والقواسمة العرب بتدمير "مملكة علوة المسيحية، ومحو بقايا التحضر التي كانت. فجرت تسوية سوبا، عاصمة دولة علوة، بالأرض، وأصبح "خراب سوبا" حادثةً تاريخية يُضرب بها المثل. ولم تستفق الحضارة الكوشية السودانية العريقة، عالية النسق، من حالة فقدان الوعي، إلى يومنا هذا. وهي استفاقةٌ نأمل أن تحدث في المستقبل القريب".
واضح من قول النور أن الدول المسيحية "استنقذت هوناً" اقباس من الحضارة الكوشية أنه يريد لها أن تتعلق بشعرة كوش كيفما اتفق ليخلو له جو تسديد إزراء العرب الجفاة بذنب هدم كوش. ولا أدري كيف استقام للنور إعفاء النوبة السود وأكسوم من وزر خراب مروي وهو القائل إن عيزانا دق "آخر مسمار في نعش تلك الحضارة الانسانية الرائدة" أي كوش. أليس القضاء على اللغة المروية بواسطة بدو النوبة حتى صارت لغزاً علينا جميعاً جريرة كبرى؟ أليس التحول إلى دين توحيدي عن وثنية كوش ضربة في الصميم لحضارتها؟
استثناءات النور للنوبة السود من هدم كوش ليوزر به الأعراب الجفاة تحامل غير سعيد على قوم دون قوم لا أصل له في مهنة البحث. وسنرى كيف استثنى النور دولة الفونج لشبهة العروبة من الإرث الكوشي (الغائب والذي يعتقد في ظهوره المنتظر يوماً ما) خلافاً لما أذاع هو نفسه في يوم فريب ليس هذا، ومصادماً لصفوة آراء مختصين في الشأن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة