غالبا ما يقول شيوخ الدين بأن الشريعة الاسلامية صالحة كل زمان ومكان خلافا للقانون الوضعي ؛ ورغم سطحية هذه المقولة الشائعة الا أننا سنسايرها لنعرف مدى صحتها بشقيها الشرعي والوضعي... من ناحية صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان فقد ثبت ومن خلال التطبيق المتواصل لقرون أن الشريعة لم تعد قادرة على مواصلة حبوها الواهن في عالم تجاوز حضارة البداوة ، فعلى مستوى الاحكام الشرعية في الميراث انتهى عهد انضواء المرأة تحت ولاية رجل منذ ميلادها الى أن تدخل القبر .. المرأة الآن صارت اكثر تعليما من كثير من الرجال ، وأكثر عملا ، وأكثر قدرة على قوامة نفسها بنفسها ، فهناك القاضيات والمحاميات والطبيبات وحتى رائدات الفضاء والعالمات وخلافه وبالتالي فكرة النظر إلى المرأة باعتبارها تحتاج الى قوامة دائمة من الرجل تكاد تكون قد انتهت ، عليه فإن كثيرا من الأحكام الشرعية لم تعد صالحة لهذا الزمان ومن ضمنها على سبيل المثال لا الحصر فكرة أخذ المرأة لنصف نصيب الرجل في الميراث ، فقد كانت العلة هي قوامة الرجل على المرأة وهذه العلة انتهت ولم تعد صالحة لتطبيق هذا الحكم. أيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، ومن مفارقات هذا الحكم الشرعي المضحكة أن المرأة التي تعمل قاضية أي لها ولاية قضائية كاملة وهي ولاية عامة تكون هي القاضية وترفض قبول شهادة امرأة واحدة ، وطبعا ذلك من المضحك المبكي لأنها تمنع شهادة امرأة واحدة ثم تقوم هي كقاضية بالبت والفصل في مسألة النزاع ، أيضا هناك مبادئ كثيرة قررتها المجتمعات المتحضرة وهي مبادئ شديدة الانسانية وتنم عن تطور كبير في الضمير الانساني ، كالمساواة أمام القانون ومن ثم المساواة في الحقوق والواجبات بدون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو العرق ، وبالتالي فإن أحكام شرعية كثيرة لم تعد تتفق وهذا التطور ، كفرض الجزية على غير المسلمين مثلا ، ومنع غير المسلمين من تقلد مناصب تمنحهم ولاية على غير المسلمين ، كما ان ذلك التطور الانساني قد وضع مبادئ تحمي الضعفاء في حالات السلم والحرب ، وبالتالي فإن أحكاما شرعية كثيرة ستسقط بناء على هذه المبادئ كسبي النساء في الحروب واستعباد العدو والاستيلاء على ممتلكاته ..الخ ، اما بالنسبة للتجريم والعقاب ، فقد صار علما يدرس وحينما نقول علم فإننا نقصد بذلك أنه خضع لتقييم علمي (عبر التجربة والملاحظة) وصار له أصول ومبادئ يجب ان تراعى ، هذه العلمية أثبتت وبدون أدنى شك أن فكرة العقوبة قد تحولت من ماضيها باعتبارها كانت تعبر عن انتقام وتطهير وتشفي إلى فكرة اعتبار العقوبة هي محاولة لتحقيق الردع العام والخاص وفوق هذا فالمقصود من العقوبة أن تتمكن من إعادة تأهيل الجاني لكي يتمكن من العودة للاندماج في مجتمعه كمواطن صالح ، هذا التطور في مفهوم العقوبة أدى الى تقدم كبير في مجال تحديد نسبة الجرعة العقابية الى النشاط المجرم المقترف ، وبالتالي انتهى عهد وحشية العقوبة كما كان الحال في العصور الوسطى بل وحتى القرن التاسع عشر ، هذه المفاهيم استبدلت العقوبات البدنية الشنيعة بعقوبات أكثر انسانية ، ومن ثم لم يعد بالامكان توقيع عقوبات كقطع اليدين والرجلين من خلاف ولا الرجم بل ولا حتى الجلد ولم تبق من العقوبات البدنية سوى عقوبة الاعدام وهي في طريقها الى الزوال من خلال الجدل الدائر حولها أخلاقيا ومن ناحية مدى تحقيقها للعدالة الجنائية. كذلك تطورت النظرة الانسانية نحو تقرير الحقوق والحريات كحرية المعتقد ومن ثم فإن حكم الشريعة بقتل المرتد لم تعد صالحة البتة لهذا الزمان . فللنتقل اذن إلى النقطة الثانية وهي القول بعدم صلاحية القانون الوضعي لكل زمان ومكان... وهذا الطعن لم يجد له برهانا أبدا ، فالقانون الوضعي يتميز بخاصية المرونة ومواجهة القفزات الهائلة التكنولوجية والثقافية والاقتصادية والحقوقية ، وكل يوم يتم سن قوانين وضعية تنظم حالات جديدة لم تكن موجودة من قبل ..وبالتأكيد فإن هذه المستحدثات لا تنظيم لها داخل الشريعة الإسلامية بأي حال من الأحوال كقوانين التجارة الالكترونية وقوانين الانسجة البشرية الحيوية وقوانين الطاقة النووية وقوانين الفضاء وقوانين البحار والجرائم العابرة للقارات والجرايم الالكترونية...الخ .. ان القانون الوضعي في الواقع صار رأس الرمح لمواجهة تحديان الانسانية في قرننا الحادي والعشرين وألفيتنا الثانية...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة