كان الراحل الأستاذ محمد علي جادين عليه الرحمة رئيس حزب البعث السوداني، يردد قبل رحيله مقولة " إن الحل السياسي في السودان يتم بتسوية الضعفاء" و كان يعتقد إن ضعف الحكومة ناتج عن ضعف نخبتها في التفكير العقلاني، الذي يبحث عن مخارج و حلول حقيقية للأزمة، و إذا كانت تملك تلك العقليات المنفتحة، كانت استطاعت أن تفتح منافذ للتواصل مع الآخرين، ليس بشروط حزبية، أنما بشروط وطنية تؤسس لمرحلة جديدة للوطن. و أيضا كان يعتقد، إن ضعف المعارضة ناتج عن طريقة التفكير لقيادة المعارضة، و هو تفكير رغم إنه يدعو في خطابه إلي الديمقراطية و الحرية، و لكنه تفكير إقصائي، تريد المعارضة ذهاب السلطة، لكي تتربع هي علي العرش، و هؤلاء أيضا كانوا سوف يسيرون علي خطي سابقيهم، باعتبار أنهم فشلوا في وضع برنامج سياسي يتفقون عليه و يكون حكما علي أعمالهم. هذا الحديث الذي عجز الأستاذ جادين أيقنع قوي المعارضة أن تتبناه، هو نفسه الذي يشكل عائقا لتحرير العقل السياسي من تراثه، فالنخب السودانية، ليست النخب التي قال عنها الدكتور منصور خالد إنها أدمنت الفشل، بل هي نخب متناقضة، بمن فيهم كاتب " النخبة السودانية و إدمان الفشل" هو نفسه متناقضا في مواقفه السياسية، يدين الديكتاتوريات و العقليات الشمولية، و لم يوظف قدراته الذاتية إلا لخدمة النظم و الأفكار الشمولية، و لذلك نجد إن النخب السودانية جميعها لديها موقفين في مساراتها التاريخية، و ظلت تتوارث هذه المواقف كأن جيناتها ذات تركيبة واحدة، تساند الشمولية و عندما تسقط، دون حياء ترفع الشعارات الديمقراطية و هكذا دواليك. الإنقاذ كانت عملية مركبة بين عقلية إسلامية، كانت شحيحة في إنتاجها المعرفي و الفكري و الثقافي، و عجزت أن تتصالح مع الديمقراطية، و ظلت حبيسة لعقل واحد، هو الذي يفكر نيابة عن عضويتها، دون أن تخوض في نقد هذا العقل، لكي تخلق وعيا جديدا، قائم علي المجهود و الفكري و النشاط العقلي و الفقهي، و صنعت شعاراتها التي تتلاءم مع هذا الخط الفكري، عطل طاقات كبيرة داخل التنظيم، الأمر الذي خلق حالة من التناقض في المنهج بين الممارسة و التطلعات، مما أدي في المدى المتوسط لتشقق داخل التنظيم، و عقلية عسكرية ذات ثقافة واحدة، تؤمن أن تأتي الأوامر من أعلي إلي أدني فقط للتنفيذ دون أية حوار أو تناصح، هذه العقليات كان لابد أن تصطدم مع بعضها البعض، الأمر الذي أدي لفرز لصالح العقلية العسكرية، التي بدأت تبحث عن مناصرين آخرين في المجتمع، فجاءت بعناصر من القوي التقليدية، هؤلاء القادمين الجدد من تيارات سياسية أخرى إضافة للعقلية التنفيذية التي بقيت من الحركة الإسلامية، كانوا في خدمة التيار العسكري، و العناصر التي غادرت أحزابها لكي تشارك في السلطة، لم يغادروا أحزابهم بحثا عن الديمقراطية، إنما كان بحثهم عن تحقيق رغباتهم الذاتية، لذلك لم ينشغلوا كثيرا بقضاء الحرية و الديمقراطية، و كما قال الدكتور الصادق الهادي في ندوة لحزبه " إن المعارضة تعتبرنا انتهازيين و بعض قيادات المؤتمر الوطني تعتبرنا عربة مقطورة" و ذات الدكتور إذا سألته إذا كان هذا القول غير صحيح، ماذا قدمتم؟ لا تجد عنده ردا شافيا إنما يدخل في دوامة التبرير التي أدمنتها النخب السياسية، كأنما تبنت ، إذا المجموعة التي جاءت من تنظيمات أخرى لكي تدعم مجموعة العسكريين، كانت خالية الوفاض، لذلك كانت القاطرة لابد أن تسير علي هدي المنهج السابق. ظلت هناك عقليتان في الساحة السياسية، عقلية في السلطة ترفض أن تتنازل إلا بالشروط التي تفرضها، و يجب أن يقبلها الجانب الأخر، فهو تحالف قائم علي توسيع في الحقائب الدستورية لترضية كل الأحزاب التي تشارك، دون أن يكون لهؤلاء رأي في السياسة الجارية، لأن الاستيعاب تم علي فعل التنفيذ فقط، أي أن تعطل هذه العناصر عقلياتها تماما، بهذه السياسة يحافظ النظام علي طابعه العام، و هذا لا يؤدي لحلول للمشكلة القائمة، و أنما يزيد في تعميقها، و هو الحادث الآن. و عقلية تعتبر نفسها وريث لهذا النظام، و لكنها لم تحدد برنامجها السياسي الذي يخلف الشمولية، لذلك فشلت في تعبئة الجماهير و حشدها، لكي تناصرها في عملية التغيير، فالناتج العقلي واحد، و طريقة التفكير واحدة، رغم تعدد الشعارات و اختلافها في بعض المصطلحات، و لكنها شعارات لا تنزل إلي الواقع، و ليس لأصحابها تصور للواقع، فظلت الأزمة في مكانها دون تحريك، فجاء الحوار الوطني و صدرت مخرجاته، و وضعت بعض المخرجات في منضدة البرلمان، لكي تضمن في الدستور، و لكن ظلت العقلية تسير في منهجها بذات الفكرة القديمة دون أن يحدث هناك تغييرا، حتى أمال المستقبل ظلت محصورة في بعض القيادات، كخطاب يردد دون أن ينعكس في قضايا الحريات و الممارسة الديمقراطية، فالواقع بعيدا عن الأحلام. لذلك ليس غريبا أن يخرج وزير الإعلام الدكتور أحمد بلال، لكي يؤكد في مؤتمر صحفي، إن الحكومة لن تسمح للأحزاب السياسية أن تقيم ندوات و نشاطات خارج دورها، و الغريب في الأمر إن الدكتور بلال من المؤلفة قلوبهم، و لكنه أحد أعضاء لجنة التنسيق العليا للحوار " 7+7" المناط بها أن تكون أكثر العناصر المتمسكة بالمخرجات و تنفيذها، و أولها حرية النشاط السياسي للقوي السياسية، و لكن علمتنا القيادات السياسية أن تمارس الشيء و نقيضه في ذات الوقت، دون أن يكون لها حرجا في ذلك، رغم إن بعض الصحافيين يعتقد إن الدكتور بلال يجب أن يكون استثناء لأية قاعدة، باعتبار إنه يفضل أن يكون ملكا أكثر من الملك، و البعض الأخر يقول إنها رسالة بأنه من المدافعين علي بقاء جوهر النظام، و بالتالي لابد أن يكون عنصرا أساسيا في تشكيل أية حكومة قادمة، هذه أمنيات غدت بعيدة المنال، رغم إن حزبه الاتحادي الديمقراطي قد تعطلت حركته بفعل الصراع الداخلي، و غياب أمينه العام الذي فضل مجاورة السيد الميرغني في عاصمة الضباب، بسبب هذه الخلافات التي لم يجد لها حلا، و فشل في مقابلة الرئيس، حتى يضع حدا لتيار الأستاذة إشراقة محمود عبر قرار بعيدا عن مسجل الأحزاب. فحديث الدكتور بلال بمنع نشاطات الأحزاب خارج دورها تعد أكبر ضربة توجه إلي عملية الحوار الوطني، رغم أن الدكتور بلال ردد في ذات المؤتمر الصحفي، إن 90% من الأحزاب شاركت في الحوار و تدعم مخرجاته، و أيضا قال أن الحوار يجد إجماعا بنسبة 94% من الشعب، إذا لماذا يخاف، إذا كان يمتلك نسبة 94% من الشعب السوداني، و إذا كانت هذه النسبة صحيحة، كان هو الذي يطلب من الأحزاب المعارضة أن تقيم نشاطاتها خارج دورها، لكي يكشف للشعب إنها أحزاب دون قواعد جماهيرية. لكن للأسف كما ذكرت إن الشخص يقول الحديث و نقيضه في ذات الخطاب. و السؤال هل الدكتور بلال بالفعل ينتمي إلي حزب اتحادي ديمقراطي، يعتبر الديمقراطية قاعدة أساسية لمنطلقاته الفكرية، أم أن السلطة لها أثرها في تغيير القناعات؟ حديث الدكتور احمد بلال، يعتبر نموذجا للنخب التي تفشل حتى في التعبير لكي تدافع عن مصالحها الخاصة، كما يعبر عن العقليات التي لا تجد حرجا أن تكون المصالح الخاصة فوق المصالح الوطنية، لذلك لا يفكر في أنه ينقض الغزل الذي نسجه بيده، فالحوار في العرف الدولي بين قطبين يعد نقلة، و الوصول فيه لنتائج، تغير من الوضع القائم، إلي وضع جديد يعبر عن توافق يرضي القطبين، و لكن الدكتور وزير الإعلام ما يزال يتمسك بخطاب ما قبل الحوار، لكي يؤكد إن الحوار لا يغير من الواقع شيئا، لذلك دائما عند انتهاء أية حوار بين مجموعتين مختلفتين في أية منطقة في العالم، يأتي الاتفاق بعقليات مغايرة، هي العقليات المؤمنة بالحوار و نتائجه، لكي تستطيع أن تنفذ مخرجاته دون الرجوع للوراء، أو التأثير بثقافة ما قبل الحوار. هذا من جانب الحكومة و من جانب المعارضة إن العقليات التي تعتقد أن السلاح هو الوسيلة التي تؤدي للتغير هي نفسها عقليات لا تساعد علي عملية البناء و التنمية، لأنها عطلت عقلها في فترة تاريخية، و ستظل تؤمن إن أية تغيير يحدث في المجتمع، لابد أن تدعمه القوة، لذلك ستظل أسيرة لهذه الثقافة، و إذا وصلت لقمة السلطة فليس أمامها غير أن تسير علي ذات المنهج الشمولي، أي أن تعلي من الأجندة الأمنية، فتتبدل الشعارات من شعارات ديمقراطية تنادي بحق الحرية إلي شعارات تنادي بالتأمين الأمني، و تصادر الحريات و تعطل الممارسة الديمقراطية. صحيح في أية مجتمع تتباين المصالح، و يصبح الصراع دائرا علي هذه المصالح، و لكن هناك المصالح الذاتية، و المصالح العامة التي تقوم علي شروط تتفق كل القوي عليها، و تكون في وضع احترام من الجميع، و هذه لا تحصل إلا بتوازن القوة في المجتمع، و لكن أية خلل في توازن القوة سوف يؤثر علي أية اتفاق و احترامه. نسأل الله حسن البصيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة