كان المنشور المهدوي خطاباً تعبوياً يعبر عن رؤية الإمام للدين والشريعة، وقد استهدف به أحبابه ومن لا يرهقون عقولهم بالبحث عن التفاصيل، ويطلبون من الفكرة شعارها العريض، فكانت كفايتهم من الثورة أن يقاتلوا تحت (راية مهدي الله)، وليس في ذلك عيب ولا منقصة في حق الإمام الذي قرأ بذكاء مستوى الوعي العام والحالة الثورية، فلم يكن له إلا أن يذهب في هذا الاتجاه ويخاطب الناس على قدر عقولهم. لم يجد الإمام متسعاً لشرح فلسفته المهدوية، بالتالي لا يمكن وصفه قائداً لـ(حركة تصحيح مذاهب التصوف)، لأن الظرف الثوري واضطرار القائد للانتقاء وإعمال الذرائعية قد أيبس محاولات التربية الفكرية، فلم يخرج من معيته تلامذة، بل مقاتلون. استقرت الصوفية العفوية على تبويب الدين بين الشريعة والحقيقة، لكن ما عليه الإمام المهدي كان ترادف الدين والشريعة في معنى أن الشريعة هي الدين، وعدم الدقة في ضبط المصطلح له مسبباته في الحالة الثورية التي فرضت هذا الفهم، مع خروج جزئي عليها في أحاديث الإمام عن الحضرة والهواتف والأحوال والمقامات وغيرها من مفاهيم صوفية لتحلية الرؤية الأحادية السلفية للبرنامج الإصلاحي. تلك الرؤية الأحادية للمهدي تتجلى بصورة قاطعة في فرضه المنشور على اتباعه، أنظر: هنري رياض، موجز تاريخ السلطة التشريعية، ص17. والمنشور يعتبر قانوناً ذا طبيعة خاصة أشبه باللائحة، التي تتضمن أموراً إدارية وسياسية وقانونية ودعائية، إلى جانب رؤى اجتماعية تفضح تشدد الإمام المهدي في قضايا محددة تتعلق بالعبادة والسلوك الشخصي ولا تستوعب التشريعات المطلوبة كقواعد لتحقيق العدالة الاجتماعية. إن فرض المنشور على مجتمع السودان، يدل على أن الشريعة لم تطبق في حقبة المهدية، بل إن إصدار المنشور ووضعه بديلاً لإلغاء المذاهب كان خطوة جريئة باتجاه (نقد الشريعة)، ونقد الشريعة هو الموقف الفكري الذي افترعه الصوفية ــ صوفية عهد الفونج ــ ودرجوا عليه في صراعهم مع الفقهاء طوال عهد السلطنة الزرقاء.لم يصدر الإمام المهدي في منشوراته تشريعات ذات بعد اجتماعي، اللهم إلا في إلغائه الملكية الخاصة للأرض، لكن هذا الإلغاء أُلغِيَّ ولم يصمد تحت ضغط الواقع الاجتماعي لحال كونه صدر تلبيةً لأشراط المهدية كما جاءت عند ابن عربي.. ما خلا ذلك كان الإمام المهدي أقرب إلى مناظير الفقهاء، ولم يبتعد كثيراً في اجتهاده عن محاولات الشيخ حمد ولد أم مريوم في الاسترشاد بالنصوص في استصدار أحكام موازية.من الأمثلة على ذلك (تحديده مقادير الصداق، تحريم الاختلاط، سجن المرأة الناشزة، قتل تارك الصلاة، تحريم التنباك، سلب الخوالف)، وغير ذلك من اجتهادات محدودة في إنزال النص على الواقع، وهي اجتهادات غير مقيّدة في مصادر الشريعة المدونة في كتب المذاهب الأربعة والتي يقول دعاة تطبيقها أن لا بديل لها. والحجة الدامغة على أن الإمام المهدي لم يطبق الشريعة المتعارف عليها في الثقافة الدينية، أن الهيئات التي تمثل الدين الرسمي والتي نبتت عليها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، كانت هي الصوت العالي في تقريع المهدي وتجربته.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة