|
المعلم الفنان (عبدالله بولا) و آخرين : في نفير لبناء فصل دراسي في مدرسة
|
المعلم الفنان ( عبدالله بولا ) وآخرين : في ( نفير ) لبناء فصل دراسي في مدرسة بنات ( المدينة عرب ) 1975 م
أهلاً بك أيها النهر القديم . الأنجم تتلألأ في صفحة مائك ، والضوء يتكسّر . المساء عندك أهدأ ، والفجر يتلصص عليك ، وأنت لا تنام . تغسل أرواحنا حين نمّد اكفنا نشرب من اللجين . أفتح الآن معي بوابة الذاكرة : هناك على المسرح :ـ تلميذات المدرسة :ـ أهذا أنت بُساط الريح ؟ . أقدمت أنت من الأحلام ؟ . بُساط الريح :ـ نعم ، نعم . تلميذات المدرسة :ـ نِحنا بِنيات الخُدُر الحَفروا الأرِض . دفنوا العَرق أكلوا الحُجار عشان البَكمة تتكَلم ، تفُرش بُساطها دَهب . بُساط الريح :ـ أهلاً حَبابكن يا بنات . أهلاً بنيات البَنوا الواحة الضليلة. رفعوا العِمد رِضوا بالقسمة القليلة. شِن دايرات ؟ تلميذات المدرسة : نبني الفصِل للمدرسة . نطلُب نفير . ما بنشحَد الساس والمِرِق. نصدح بأنغام النشيد. مسرح أكيد تلقونا عاملينو. نسّمعكم كلامنا والراي السديد . مين يقدر يَساعِد ؟ بساط الريح :ـ يا بلدي جيتك ...أطلبك ، واطلُب جناك. وين الرِويحاتم مُكركِرة لي نفيرك ؟. شوف لي مِن ( بَربَرنا ) كَف وساعِد. ومن ( أمدُر) وليد للحارّة قاعِد. ومن شاطي البَحَر البعيد جيب لينا واحِد. الأقصوصة :ـ من المدينة عرب ، استنجد أحد المعلمين من هناك ، وطلب العون لنفير يبني فصلا دراسياً لمدرسة بنات . تشترك فيه معظم تلميذات المدرسة ، في نشاط مدرسي خيري يغري بالمساهمة التي تحفظ الكرامة. حفل غنائي وليلة ساهرة بالمشاركة مع فرقة فنية قادمة من العاصمة ! . (عبد الله بولا ) من بربر ، و(هاشم محمد محمد صالح ) من بورتسودان ، و( عبد الله بيكاسو ( من أمدرمان ، اجتمعوا رغم التباين في سنوات العُمر ودروب المهن ( معلم و طالب سابق في كلية الفنون وطالب جامعي ) . لا شيء يربطهم بالمدينة عرب ، بلغة الانتماء ضيقة الأفق ، من جنس أو عرق أو طائفة أو حزب ، أو النعوت التي تميز الآخرين، مما يصطلح عليه الآن بديناميت الفرقة والشتات ( العرق والدين واللغة والطائفة ) . جلسنا سوياً ذات مساء ، وفاجأنا ( عبد الله بولا ) : ـ بصراحة سوف نشترك جميعاً في ذلك العمل الخيري . و سوف نقدم نحن ( النمرة ) الغنائية . وتحدد الزمان وهو الخميس . ـ ماذا ؟ ـ أنا وأنت و هاشم نكوّن من أنفسنا فرقة غنائية . ـ نعم... نعم !، ( الثلاثي المرِح ) ! . ـ بالمناسبة أنا جاد في كلامي . أنا ضد الميكافيلية ، ولكنني في هذا الأمر أرى أنه استثناء . الغاية أن نجمع مالاً لبناء الفصل . والوسيلة أن نجتهد لينجح العمل مهما كان ضعفه الفني . الحالة الاجتماعية هناك تسمح بالنجاح ، إذ لا توجد منافسة !. ـ و الغناي ؟ ـ إنتَ طبعاً... ونحن حنساعدك .أنا عازف طبل ممتاز وهاشم عازف عود يحتاج لبعض التمرين و لا شيء غير ذلك . غدا نركب الزلط للحصاحيصا ومن هناك يقابلنا صديق معرفة من جماعتنا ناس الفنون ، متفق معانا يا خدنا للمدينة عرب و حنصل العصُر . البروفات قبل الساعة سبعة مساء ، الفواصل النهائية من الحفل لنا ، حتى نستعد . إنت تحفظ البتقدر عليهو ومع البروفة الأمور بتمشي . الموضوع بالمناسبة أبسط مما تتصور . ـ طيب وين النفير في الموضوع دة ؟ ـ تذكرة دخول الحفل خمسة قروش . ـ بصِحَك يا بولا ! ـ ليه لا ؟ ، جننتونا بالوطنية ، أهو دة المحك . أجمل إبداع عملوهو أهلنا ( النفير ) . التلميذات ديل لازم يَقرَن ، ونحن ما عندنا قروش نتبرع . أنا ( الفيني مكفيني ) ، لكن عندي البوصلنا الحصاحيصا . أنا عرفت أنهم مجهزين لينا (عود ) ، وحانبيت هناك و نرجع الصباح . مواصلات الرجعة على ناس المدينة عرب . ـ إنت ما تغني معانا يا بولا ، ما رأيك ؟ ـ إنت داير الناس تسُكنا بالعكاكيز ! ـ قالوا زمان صوتك كان جميل و رهيب . ـ دة التقليد من زمان بوظ صوتنا ، عموماً الموضوع جاد . يا تبقوا يهمكم الإنسان البسيط و تعليمو أو تبقوا كارثة على بلدكم ، وما تستحقوا أي تعليم إندفع ليكم تمنو، زيكم وزي الكلاب السعرانة الحايمة في الشوارع دي . السفر على بساط الريح : ثلاثتنا على سرج سابحٍ في الريح . السماء غطاؤنا ، والطريق يطول إلى الأفق . من يغني للطفولة ؟، ومن يحكي لمجلسها الحكاوي ، حتى تنام على أكتاف المحبة غصناً صغيراً أخضرا ؟ . ركبنا بُساط الريح ، قلنا للبراءة لا تبكي . اليوم نفرش الرمل بأيدينا ، ونكتب الأبجدية الأولى :ـ ( النون ) للنرجس الفواح . ( السين ) للسماء التي تمطر للنماء . ( الباء ) لبسمة المحبة ، أرفدت الجذور و ناطحت السماء . هبطنا المدينة عرب : الحفظ والتمرين كان عسيراً . دوزنة آلة ( العود) كانت العُقدة التي لم نجد لها حلا ، فقد تطفلنا على فن الغناء أيما تطفل ، وتلك هي الحقيقة الصارخة . لا شيء يربطنا به سوى أننا نحبه مثل الجميع . و نحن نعلم أن المحبة وحدها لن تصنع فناً يُقدم للآخرين . تجربتنا محدودة ضمن بعض الأصدقاء ، لن يتعدى عددهم أصابع اليد ، فكيف الحال أمام الجمهرة ، بل الجماهير ، إنها ورطة ! . و سوف نصبح فاكهة المساء لأهل القرية ، أو ربما كارثة المساء !. هل حقاً الغاية تبرر الوسيلة ؟! . طرأت فكرة ، وبدأنا إنجازها دون تفكير . بعد أن علمنا أن القرية عن بكرة أبيها تنتظر البعثة الفنية ، التي هي ( ثلاثتنا ) ! ، فمن شدة التوتر انقلب الخوف إلى ضده وأصبح إقداماً جسوراً في اللحظة الحاسمة . فقد قمنا بتدريب ثلاثة من تلميذات المدرسة ليقمن بدور كورال للفرقة الغنائية ونحن نسابق الزمن ، لنستعيض بهن عن الأوركسترا ، وأشتركن معنا في العمل . وسط التصفيق والصفير ، وجدية عازف الطبل ( عبد الله بولا ) بدأنا نطمئن . للإيقاع سحره ، فهو يلهب إحساس الجمهور، ويخفي المستور . جاء عزف هاشم من بعد ، واكتمل المطلوب ونجحنا . أنجزت المهمة ، شكلاً و موضوعاً . غشت الجميع موجة من هستيريا الفرح . وحق للقرية أن تفرح فقد انبعثت السعادة من دواخل أهلها ، فالنفير جزء متأصل من سلوك أهل القرى . التلميذات وقد أبدعن ، وكل هؤلاء صنعوا النجاح ، وما كان بيدنا شيء سوى عصا قائد الأوركسترا لينجح النفير . أقمنا حفلاً صغيراً قبل النوم احتفاء بالنجاح ، وتحلّق حولنا لفيف من الأصدقاء والرفاق والاخوة من المدينة عرب . التطريب بمشاركة الجميع ، نسيج من الأصوات ، بلحمة تلامس شغاف القلوب . في الصباح غادرنا القرية في هدوء بعد أن تلفحنا بحقائب الكتِف. بعض الأطفال يلوحون لنا بأيديهم في وداعنا ، وكان ذلك هو الثمن ، وما أغلاه من ثمن ، وما أروعه من مشهد . رغم بساطته حمل الوفاء بلا زيف . هذه هي البوابة العتيقة ، الزمن وقد خفف من بريق نقشها . اطرق معي وانتظر ، ترى بيوتاً عامرة بالمحبة ، فلنعُد أدراجنا نلثم عطرها . أين أنت أيها الماضي؟. من يغطس في حوضك يخرج مُشرقاً ، إلا أن الحاضر قد سدّ علينا كل منافذ الرجوع . عبد الله الشقليني 27/05/2004 م
|
|
|
|
|
|