|
المصريون في عصرنا الحديث ليس لديهم صلة بالحضارة القديمة في مصر بقلم الفاضل سعد مدني
|
أختلف المؤرخين والعلماء الغربيين كثيراً في أصل الجنس البشري الذي انشأ الحضارة المصرية القديمة. وذهب بعضهم – خاصة الذين عاصروا صعود الحضارة الغربية في عصر النهضة الأوربي – الى أن الجنس الذي انشأها ينتمي اليهم ( الجنس القوقازي)، وذهب البعض الاخر الى أنهم من أصول اسيوية او ليبية، و اعترف القليل منهم بانهم من أصول افريقية. اما مؤرخي و كتاب اليونان في العصور القديمة أمثال هيرودوتس و ديودوروس فلقد أشاروا بشكل مباشر او غير مباشر في مؤلفاتهم التاريخية الى حقيقة الأصل الافريقي للشعوب المصرية القديمة التي كونت الحضارة في ذلك الوقت، و هذا ما دعمته البحوث و الكشوفات الاثرية الحديثة.
فعلى الارحج أن المجموعات السكانية التي تعيش اليوم في شمال مصر، و الذين يتميزون بالبشرة البيضاء لم تكن لهم أي صلة بالمجموعات السكانية القديمة في عصر بناء الحضارة المصرية القديمة، و انما يمثلون بقايا الاجناس البشرية التي استعمرت مصر منذ قديم الزمان. ونظرا لموقع مصر الجغرافي على مفترق طرق، وقربها من قارتي اسيا واوربا، شهدت مصر عددا كبيراً من الغزوات الأجنبية خلال العصور التاريخية و الحديثة. فلقد خضعت من قبل للهكسوس، وللميتاني (Mitanni)، والحثيين Hittites)) و شعوب البحر ( Sea People) والليبيين والآشوريين والبابليين والفرس و الإغريق والرومان (أوائل العصور الوسطى)، والعرب والأتراك العثمانيين والفرنسيين والبريطانيين. و بعد غزوات البابليين والفرس، و الإغريق ، والرومان، يعتقد بأن جزءاً مقدراً من سكان مصر القدماء تراجع الي جنوب مصر الحالية و شمال السودان الحديث حيث موطنهم الأول، بينما بقي في شمال مصر- شمال بلاد النوبة - الكثير من هذه الشعوب الغازية، والذين استوطنوا هذه المناطق و صاهروا فيما بعد الجنس العربي، وربما كان بينهم نتاج اختلاط بعض هذه الاجناس مع سكان مصر ذوي الأصول السودانية.
و تؤكد الكثير من النظريات في عصرنا الحديث أن المصريين القدماء هم فرع من السودانيين القدماء ( الكوشيين و النوبة). فعند قيام الحضارات السودانية القديمة، و في تاريخ ما قبل قيام الاسرات المصرية الحاكمة في التاريخ المصري - حيث أن اول نظام ملكي في التاريخ البشري أقامه السودانيون القدماء قبل ظهور الحضارة المصرية القديمة (بويس رينسبيرغر، نيويورك تايمز، 1979) - نزح عدد كبير من السودانيين الي الشمال، و ربما اختلطوا باجناس بشرية قادمة من غرب وشمال آسيا عبر جزيرة سيناء، ونتج من اختلاطهم جنس اسمر اللون، و في بعض الكتابات القديمة يشار الي ان لون بشرتهم أحمر! و من هذا الهجين تكونت الاسرات المصرية الأولى التي أخذت لغتها و ثقافتها الدينية و آلهتها و طرق الزراعة و الري و تربية المواشي من الحضارة السودانية القديمة، و يذكر ستيفانوس من العهد البيزنطي (حوالي 700 م) "كانت إثيوبيا [السودان القديم] اول بلاد أنشئت على وجه الأرض، والإثيوبيين [السودانيين القدماء] كانوا أول من عبدوا الآلهة ووضعوا القوانين". الدراسات الاركيولوجية الحديثة اثبتت ان بقايا أول انسان بشري "Omo Kibish-1" وجد بالقرب من الحدود السودانية – الاثيوبية، وان اول أدوات حجرية وقطع من الفؤوس معروفة للحضارة الإنسانية ، وجدت جنوب مدينة دنقلا، و التي عثر عليها الباحثون بمتحف أونتاريو الكندي الملكي، و يعود تاريخها الى 70 الف سنة. وفي المقبرة 117 قرب وادي حلفا وجد علماء الأثار اقدم ادلة علي وجود طقوس الدفن الجنائزي، والتي يرجع تاريخها الى 13700 سنة، و غيرها من الدلائل، القديمة و الحديثة، حيث لا يسع المجال لذكرها كلها، و التي تؤكد اسبقية الحضارة السودانية القديمة على المصرية بل على كل حضارات العالم.
و تتميز صفات السودانيون القدماء بانهم سود اللون، أصحاب وجوه عريضة وانوف مسطحة و شفاه غليظة، و هي الصفات التي ما زالت حتى اليوم يتميزون بها. و ذكر الكثير من مؤرخي و كتاب اليونان وغيرهم ان معظم هذه الصفات المذكورة أعلاه كانت تنطبق تماماً علي شعوب مصر القديمة. وقد تمت تسمية البلاد الواقعة جنوب مصر القديمة – السودان القديم- بعدة أسماء في العهود القديمة. فعند اليونان تم تسميتها باثيوبيا (Aithiopia) وهي تعني (أصحاب البشرة المحروقة). اما المصريون القدماء فقد سموها كاس "kas" و كش " KSH " او كوش "KUSH"، وهي التسمية نفسها التي نجدها عند العبرايين في التوراة وتكتب كوش "CUSH"، اما مصر القديمة فلقد كان يطلق عليها كيمت (Kemet ) او ( الأمة السوداء)، أي ان سكانها سود اللون، وذلك قبل ان يغير الرومان اسمها الى ايجبت ((Egypt، و بعد ذلك سماها العرب مصر.
هيرودوت (490-425 قبل الميلاد) أول مؤرخي اليونان، وسميّ أبو التاريخ، أوضح أن لون احدي المصريات في العهود القديمة كان أسود اللون، ضمن حديثه عن حادثة اختطاف امرأة مصرية من أجل أقامة الوحي الإلهي في دودون و ليبيا ( مستعمرة يونانية): "إن الدودونيان (Dodonaeans) كان يطلقون اسم الحمائم على النساء، (..) وعن طريق استدعاء حمامة سوداء أشار الدودونيان أن المرأة كانت مصرية. وبالتأكيد اسلوب الشعائر الدينية في طيبة ودودن، مشابه لبعضه البعض". و في إشارة غير مباشرة عند تحدثه عن شعب دولة كولخيس ((Colchis، و هي دولة قديمة كانت غرب البحر الأسود و جنوب اوربا و حتي فلسطين اليوم، ذكر المميزات الجسمانية لكل من المصريين و السودانيين القدماء، و أوضح انهم أصحاب بشرة داكنة و لهم شعر مجعد: "وبالنسبة لشعب كولخيس فهم من المصريين، ولقد عرفت هذا بنفسي قبل أن اسمعه من الآخرين، لذلك عندما نظرت في هذه في المسألة سألت كل على حد سواء؛ وكان الكولخيين Colchians)) [سكان كولخيس] يتذكرون المصريين أكثر من تذكر المصريين لهم، ولكن المصريين كانوا يعتقدون أن الكولخيين كانوا سليلة جزء من جيش سيزوستريس (Sesostris) [قائد مصري قاد حملة عسكرية في اوربا] وانا أظن ذلك ايضاً، ليس فقط لأنهم [الكولخيين] أصحاب بشرة داكنة ولهم شعر مجعد ، ولكن أيضا لأن المصريين والاثيوبيين [السودانيون القدماء] والكولشيين كان أول من مارس الختان قبل جميع أجناس الناس."
المؤرخ اليوناني ديودورس، الذي سافر في جميع أنحاء مصر 60 قبل الميلاد، ذكر في كتابه مكتبة التاريخ أن " الإثيوبيين [السودانيين القدماء]، كما اوضح المؤرخون، كانوا أول البشر والبراهين على هذا البيان، كما يقولون، هي واضحة. لأنهم لم يأتوا إلى أراضيهم مهاجرين من الخارج ولكن كانوا هم السكان الأصليين، وبذلك استحقوا حمل اسم الاوتوكثيس (autochthones) [السكان الأصليين]".واوضح أن اللغة الهيروغليفية، التي يدعي بعض الكتاب المصريين اليوم انها نتاج اسلافهم القدماء، ما هي الا لغة صاغتها و انشأتها الحضارة السودانية القديمة، و بالطبع انتقلت قديما شمالاً الي مصر، حيث يقول "يجب علينا الآن أن نتحدث عن الكتابة الاثيوبية [السودانية] و التي تدعي الهيروغليفية بين المصريين، حتي لا نحذف شيء عند مناقشتنا لآثارهم.....". و يوضح في جزء آخر من كتابه أن المصريين القدماء هم في حقيقة امرهم جزء او فرع من السودانيين القدماء: "يقول [الاثيوبيين] أن المصريين هم فرع مننا وجاؤا الي مصر عن طريق أوزوريس [" ملك الملوك وإله الآلهة "] و الذي اصبح زعيما لهم". بل يتطرق لمعلومة جغرافية تحدث عنها مؤرخين آخرين، و هي في أيام نهضة الحضارة السودانية القديمة، كان شمال مصر بما فيه الدلتا مغطي تماما بالمستنقعات المائية، الناتجة من فيضانات النيل المتكررة، و بالطبع لم يكن مكاناً ملائما لسكنة البشر، او قيام مدنية، و شيئا شيئاً تغطت تلك المستنقعات بالطمي من النيل، الذي تيبس فيما بعد و كون أرض مصر في شمال الوادي، وقد نزح اليها اسلاف السودانيين القدماء و اختلطوا بالقبائل الرعوية القادمة من آسيا، و يقول في هذا الصدد: "انهم يزعمون أن هذا البلد [مصر] كان في الأصل مغطي بالمياه [مياه فيضانات النيل]، وبما أن النيل يسحب معه الكثير من الطمي عندما يتدفق من إثيوبيا، فقد ملأها تدريجياً [بالطين] وجعلها جزءا من اليابسة.. ويضيفون أن المصريين أخذوا منهم ومن مؤلفيهم واسلافهم الجزء الأكبر من قوانينهم."
اما الكونت قسطنطين دي فولني (Count Constantine de Volney)- المؤرخ والمستشرق الفرنسي- الذي زار مصر العثمانية في أواخر 1782 ، قام بالتنقيب و البحث في الحضارة المصرية القديمة، و كتب ملاحظاته في كتابه اسفار في مصر وسوريا ( باريس، 1787 ). حيث أوضح ان المصريين القدماء كانوا سود اللون، و لهم كل الصفات الجسمانية للافارقة جنوب الصحراء، و ان ما يثبت كلامه هذا وجود هذه الصفات في رسومات المعابد المصرية و مجسمات التماثيل خاصة أبو الهول، حيث يقول: "كل المصريين كانت لديهم وجوه ضخمة، وعيون حاحظة وأنوف مسطحة، وشفاهم غليظة - وفي عبارة واحدة، كانوا خلاسيين حقيقيين (mulatto) [خلاسي : ابن ابوين احدهما ابيض والآخر أسود]. وكنت أميل إلى عزو ذلك إلى المناخ، ولكن عندما زرت أبو الهول، ورايت مظهره، اعطاني هذا مفتاح اللغز. عند رؤية رأس ابوالهول، فهو زنجي في كل معالمه". و يقول لاحقاً: " وبعبارة أخرى، كان المصريون القدماء زنوجاً حقيقيين من نفس جنس جميع الأفارقة الآخرين. إن كان الأمر كذلك، يمكننا أن نرى كيف دمائهم، اختلطت لعدة قرون مع الإغريق والرومان، وعندها بالطبع يكونوا قد فقدوا شدة لونهم الأصلي، لكن بالرغم من ذلك بقيت بصمة قالبهم [الافريقي] الأصلية "
المؤرخ و الباحث الانثروبولجي السنغالي الشيخ أنتا ديوب (1923-1986)، في كتابه ( الأصول الزنجية للحضارة – 1974)، يضع عدة ادلة تدعم وجهة نظره القائلة بأن المصريين القدماء كانوا من الأجناس الزنجية، و سوف نوردها بعضها هنا الواحدة تلو الأخرى: أدلة من علم الانثروبولوجي: " تعكس الهياكل العظمية والجماجم لقدماء المصريين بشكل واضح أنهم كانوا من الزنج مع ميزات مشابهة جدا لتلك عند النوبيين اليوم وغيرهم من سكان أعالي النيل وشرق أفريقيا." اختبار الميلانين [ صبغة الجلد السوداء]: " عندما أجري على المومياوات المصرية في متحف الإنسان في باريس اختبار تحديد صبغة الملانين، أشار هذا الاختبار أن هذه البقايا كان جلدها اسود اللون". الأدلة من علم العظام: "ليبسيس كانون (Lepsius canon ) والذي كان يميز نسب هيكل الأجساد البشرية لمختلف فئات المجموعات العرقية، صنف المصريين القدماء بانهم كانوا من أصحاب الاذرع القصيرة التي تميز الاجناس الزنجية حسب هذا العلم". المصريين كما رأوا أنفسهم: "كان المصريون القدماء يستخدمون مصطلح واحد للتعريف بأنفسهم،وهو كمت ((kmt، و هو يشير حرفيا الى الزنوج. وهو اقوى مصطلح موجود في اللسان الفرعوني للإشارة إلى سواد اللون". كما أشار انتا ديوب الي الملامح الزنجية التي لا تختطئها العين في الكثير من رسومات و تماثيل ملوك الفراعنة المصريين، و دعم كلامه هذا بصور لهم في كتابه سابق الذكر، وقد ذكر العديد منهم، نورد بعضهم فيما يلي: الملك نارمر التي طالما اعتبر الفرعون الأول، الفراعنة زوسر وخوفو (فرعون اهرامات الجيزة)، الفرعون منقرع، وامنوحتب الأول، الفرعون سيزوستريس الأول، الفرعون تحتمس الثالث، أبو الهول.
وقد لخص جاستون ماسبيرو ((Gaston Maspero (1846-1916 )، وهو عالم فرنسي من أشهر علماء المصريات، اراء جميع المؤلفين القدماء عن الجنس المصري: "من خلال الشهادة شبه الإجماعية من المؤرخين القدماء، فأنهم كانوا ينتمون إلى الجنس الأفريقي [الزنجي] الذين استقروا أولا في إثيوبيا، على شواطئ النيل الأوسط، ثم وصلوا تدريجيا الى البحر [المتوسط] بمتابعة مجرى النيل،... وعلاوة على ذلك، ينص الكتاب المقدس أن مصرايم، ابن حام وشقيق شس (كوش) الإثيوبي وكنعان، جاء من بلاد ما بين النهرين وأستقر مع أولاده على ضفاف النيل ". (التاريخ القديم لشعوب الشرق- باريس، 1917).
|
|
|
|
|
|