معلوم أن معظم الأحزاب العقائدية الشمولية تتخذ القوة وسيلة للوصول إلي سدة الحكم ، قليل منها يصبر ليصل عن طريق الإنتخاب ، وحتى عندما يحدث ذلك فعقليتها الآحادية و طبعها الإقصائي لا يتغير حتى وإن جاءت بها الديموقراطية ، ولأن هذه الأحزاب في الغالب لا تمتلك قاعدة جماهيرية عريضة ، فإنها تتخذ من الإنقلاب العسكري وسيلة للإستيلاء على السلطة ، وفي محاولاتها تثبيت أركان حكمها يكون أولى أولوياتها توسيع قاعدتها الجماهيرية من خلال نشر و زرع أيديولوجيتها في عقول الأفراد في قطاعات المجتمع ، ويكون التركيز على قطاعات النشئ والشباب لصعوبة تغيير إنتماءات الكبار الذين يتم تصنيفهم ضمن الأجيال القديمة ، ولتحقيق هذا الهدف تتجه الأنظمة التي تتولد من هذه الأحزاب ، أو الأحزاب التي تصنعها الأنظمة إلي صياغة المجتمع صياغة جديدة بهدف توسيع قاعدة الموالين والمؤيدين ، ونشر الفكر الجديد ، لأن الإنتماءات السياسية القديمة التي كانت سائدة في المجتمع قد لا تتقبل ما تأتي به هذه الأنظمة من تغييرات جديدة ، وعادة ماتنظر هذه الأنظمة لكل ما هو قديم بالريبة ، بل يعتبر القديم بالنسبة لهم أحد العوائق التي تعرقل تطبيق الخطط المبنية على مرجعيتها الأيديولوجية ، وتحد من تمدد الأفكار الجديدة ، فكل النظم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية السائدة من قبل تعتبر مراحل يجب تجاوزها بل يجب أن تهدم ليحل محلها النظم الجديدة التي يأتي بها النظام ، وهكذا فإن التغيير الذي تقوم به الأنظمة العقائدية الآحادية يتم دفعة واحدة دون تدرج ولكل شيء ، وهذا التعجل وعدم الصبر والإندفاع تكون نتيجته تخريب ما كان موجوداً ، من أنظمة إدارية وإقتصادية وبنيات مضت على تأسيسها عقود وأُنفق عليهاالكثير من الجهد والأموال ، وللأسف تفشل تلك الأنظمة فشلا تاماً في تأسيس بديل لها ، وما يؤلم ويؤذي أن يتم ذلك بقصد مبيت وليس صدفة . جاءت الإنقاذ بنفس الطريقة المعتادة التي تأتي بها مثل هذه الأنظمة وسارت في نفس الطريق الذي سلكته من قبلها أنظمة مماثلة لها ، وأعلنت في بيانها الأول أنها جاءت لإنقاذ البلاد مما هي فيه من تدهور اقتصادي وفوضى وتفكك وضعف وغيرها من التهم للنظام السابق التي عادة ما تمتلئ بها بيانات الإنقلابات العسكرية التي تستولي على السلطة . الشعارات البراقة عادة تدمنها الأنظمة العقائدية والإنقاذ منها ، فأطلقت نسختها الأولي من ما أسمته بالمشروع الحضاري الذي لا ينتهي بإنتشال السودان من براثن التيه والجهل الذي أورثته له الطائفية والصوفية والعلمانية ، وتحويل أهله إلي عُباد ورعين يقضون نهارهم في المساجد ويقيمون الليل ، بل يمتد ليعيد للإسلام مجده الذي أفل بسبب الأنظمة الرجعية العشائرية في الجزيرة العربية كما كان يقول المعلق الشهير ، وسيكون السودان الذي كان لا تتعدى ميزانيتة عائدات شهر واحد من بترول أصغر دولة في تلك الجزيرة رأس الرمح فيه ! ! . تقول الحركة الإسلامية في مذكرتها التصحيحية التي قدمت لتصحيح مسار الحركة الإسلامية ، والتي كان يقف خلفها قيادات في الحركة الإسلامية " مّن الله علينا في السودان أن جعلنا من الأقطار التي لها سبق في درب الوصول إلي مجتمع إسلامي تحكمه وتنظم حياته قيم السماء بعد أن غابت عن عالمنا الإسلامي لفترة من الزمان وذلك لهوان المسلمين من ناحية ولإستحكام المؤمرات التي حيكت بظهر الأمة من ناحية أخرى وهو ما جعل العالم الإسلامي في يوم من الأيام يقع في قبضة أوربا المسيحية بعد سقوط الدولة الإسلامية في تركيا ، وغلبة العلمانية ................." ( صحيفة الصحافة 13 / 1 / 2012 ) . أعلنت الإنقاذ أنها جاءت لتطبيق شرع الله ، تأسيسا على إنتماءها لفكر سياسي يتخذ من الدين الإسلامي مرجعية ، وأنها لم تأت للسلطة طلبا للجاه والسلطان إنما لتحيق هذا الأمر الإلهي وهو تطبيق شرع الله وإقامة الدين ، وبناء الدولة الإسلامية في السودان ، لكنها ومنذ البداية ذهبت في إتجاه آخر لا يلتزم بالشعارات التي رفعتها ، فأقصت كل التنظيمات السياسية التي كانت موجودة ، ولم تقبل مشاركتها في الحكم ، ليس ذلك فحسب بل زجت بقادتها ومنسوبيها في المعتقلات ، ولم تسمح لهذه التنظيمات بممارسة نشاطها السياسي وطرح برامجها عملا بمبدأ حرية الرأي ، وبذلك تخلت عن مبدأ الشورى وحرية الرأي اللتان كفلهما الإسلام التي تقول أنه مرجعيتها . المشروع الحضاري للإنقاذ خطط لهدم المشروع الوطني بكل إرثه وتاريخه الذي تأسس منذ أكثر من قرن . فعندما بدأ الإمام المهدي دعوته للثورة على الحكم الأجنبي دعا كل المكونات السودانية من دينية وقبلية وإجتماعية من كل أنحاء السودان من الغرب والشرق والشمال والجنوب وحتي الأفراد للإنضمام إليه في محاربة الغزاة فأنضموا إليه ووحدوا جهودهم وشاركوا جميعا في طرد المحتل ، وهكذا كانت بداية المشروع الوطني ، فقد وحد إرادة الشعب لتخقيق غاية واحدة هي تأسيس دولة وطنية ، وفي فترة مابعد الإستقلال سارت الحكومات الوطنية مع إختلاف إنتماءاتها السياسية على هدى ذلك المشروع ، وحافظت على مقدرات البلاد . أما المشروع الحضاري فهو مشروع مبني على التفرقة بين المواطنين إذ تبنى أطروحات تم بموجبها تصنيف الشعب إلى فئتين : الموالون ، والآخرين من الشعب ، بعبارة أخرى إما أن تكون " معهم " أو " ضدهم " ، وعن طريق مبدأ التمكين فتحت الأبواب للفئة الأولى للسيطرة والإنفراد بكل مفاصل الدولة ، من اقتصاد ووسائل إعلام وسلطة وخدمة مدنية ونظامية ونقابات وإتحادات مهنية وطلابية وأطلقت وحداتها السياسية للعمل في الأحياء السكنية وتم فصل الألاف من العاملين في الدولة ومؤسساتها لهذا الغرض وإحلال منسوبي الإنقاذ مكانهم . هذا التمييز ينتهك الحقوق الأساسية للمواطنة و حقوق الإنسان ، وبذلك المسلك هدم أحد أهم أركان المشروع الوطني الذي يعتبر كل المواطنين سواسية في وطنهم لهم نفس الحقوق والواجبات ، والذي لا يفرق بين مواطن ومواطن بسبب دينه أو لونه أو إنتمائه السياسي ، ويضمن للمواطنين جميعا حق العمل في وطنهم . فحرمان المواطن من حقه في العمل بسبب إنتمائه السياسي أو الديني أو العرقي يعتبرإنتهاكا لحقوقه كإنسان وكمواطن ويتنافى مع مبدا العدالة ويعد إنتهاكا لحقوق الإنسان . المشروع الحضاري ، هو مشروع سياسي يهدف إلي تأسيس نواة لولاية إسلامية لتكون جزء من كيان أكبر يضم عدداً من الكيانات لتكوين الدولة الإسلامية المستقبلية والتي تتكون من ولايات إسلامية تؤسسها الجماعات الإسلامية في البلدان الأخرى التي تحمل نفس التوجه . وهو مثله مثل مشاريع أخرى سياسية تبدأ من قاعدة تمثل نقطة ومن ثم الإنطلاق لتكوين الكيان الأكبر ، ولكنها جميعاً تهمل البعد الوطني . وقد اشار عدد ممن كانوا جزءا من هذا المشروع إلي أن المشروع غير معني بالوطن " الصغير " وأشار الأستاذ حسن عبد الحميد وكان من الأخوان المسلمين جماعة المرحوم الشيخ أبو نارو ، الذين أنشقوا من الجماعة الأم التي يتزعمها الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد في معرض حديثه عن اللقاء الذي تم بين السيد الصادق المهدي والشيخ أبو نارو قبل خروج الأول في عملية تهتدون أنه وبعد عودة السيد الصادق المهدي فيما عُرف بنداء الوطن ، وفي الإحتفال بهذه المناسبة الذي كان فيه حضورا مع الشيخ أبونارو ، سأل أحد الصحفيين الشيخ رأيه في وثيقة نداء الوطن ، فهاجم الشيخ ( نداء الوطن ) بشدة وذكّرهم بأن الأخوان المسلمون قد أصدروا " نداء الإسلام " ( الصيحة ، السبت 7 /1 / 2017 ) مما يشير إلي أن الأحزاب والحركات التي ترفع شعار الإسلام لا تكترث للحدود الجغرافية والسياسية التي تشكل مصطلح الوطن بما فيه من مجموعات بينها روابط إجتماعية ووجدانية . المشروع الحضاري رفع شعارات كبيرة محشوة بالعبارات الفخيمة ذات المحتوى الديني وعند التطبيق اخُتزل الأمر في الجوانب الشكلية وتُركت الأمور الجوهرية ، فأطلُقت الأسماء الإسلامية على بعض المدارس والمنظمات الإجتماعية والمنشآت والشركات وبعض المؤسسات ، وغيرت العملة من الجنيه إلي الدينار ، واسُتبدلت المسميات الإدارية التي كانت سائدة من قبل في الحكم ، بمسميات من نظام الحكم الإسلامي ، فالمحافظات أصبحت تسمى ولايات ، والحكام لهذه الولايات أصبحوا يسمون الولاة بدلا من المحافظين ، وغيرها من الأمور التي يعرفها القاصي والداني . هدف المشروع الحضاري إلي صياغة المجتمع السوداني وفقا للفكر الذي تتبناه الإنقاذ ، وهي صياغة جديدة تستهدف تبني أفراد المجتمع لفكر الإنقاذ السياسي وللثقافة والسلوكيات الجديدة التي يفرزها هذا الفكر دون أن يلزموا أنفسهم بالمبادئء التي يتحدثون عنها .
المشروع السياسي الذي أعلنته الإنقاذ كان ضد المشروع الوطني الجامع لأبناء الوطن وإن إختلفت أفكارهم ومشاربهم ، وإنتماءاتهم ، إذ قسم الوطن بدلا من توحيده ، فانفصل جزء من الوطن ، وتوطنت النزاعات والحروب في أجزاء أخرى من البلاد ، وبرزت القبلية والجهوية بصورة تهدد وحدة الوطن ، بعد أن طغت الروح القومية في ظل المشروع الوطني . كانت الأمانة والصدق والنزاهة خصال متجذرة في المجتمع السوداني حافظ عليها المشروع الوطني ورعاها بالقدوة ، فحافظ المسؤؤلون عن المال العام ، وكانوا قدوة لمن هم في مسئوليتهم من الموظفين ، وكان المعلم قدوة لتلاميذه ، والوزير قدوة لمن هم في إمرته ، ولكنها شهدت تراجعا مخيفا في زمن المشروع الحضاري ، الذي أتى بسلوكيات وأخلاقيات جديدة على المجتمع وبعيدة كل البعد عن السلوك الذي رسمه الدين للمسلم . وفي فترة ما قبل المشروع الحضاري ، وبشهادة الشعوب الأخري حاز السودانيون على مرتبة عالية بين الشعوب في التعامل الأخلاقي والإنساني وشهدت لهم هذه الشعوب بالخلق الحميد والصدق والأمانة والنزاهة والتواضع . الإيمان في العقيدة الإسلامية لا يتجزأ ، فلابد أن يتطابق القول مع الفعل ، فإذا كنت مسلما حقيقيا فلابد من يتطابق فعلك مع قولك ، فإذا وعدت وفيت ، وإذا تحدثت صدقت، فالصدق من صفات خلق المسلم ، والأمانة من أهم صفات المسلم الحقيقي ، فهو صادق أمين ، تقي يحب الخير للآخرين كما يحبه لنفسه ، لا يغتب ولا يكذب ولا يغش ، عادل متواضع ، نزيه ، كريم ، وغيرها من مجموعة الخصال الخيرة التي جاء بها القرآن وأكدت عليها السنة النبوية ، فهل قدم المشروع الحضاري القدوة الحسنة من القيادات التي تلتزم بهذاالسلوك النموذجي الموصوف ؟ للأسف لا ! ! فقد شاع فساد من يتولون الشأن العام ، وبات الإعتداء على مال الدولة كأنه فعل خير يتسابق عليه الجميع وأنه لا يمثل جرماً أو فعلا مشينا ، وأصبحت رعاية المنافع الشخصية مقدمة على مراعاة المصلحة العامة ، وأضحى الكذب والغش من سمات المعاملات عند الكثيرين ، وإنتشرت ظواهر جديدة كانت مذمومة في المجتمع السوداني مثل التفاخر والمباهاة في المناسبات الإجتماعية كالأفراح وبيوت العزاء ، وحتى بالمنهوب من مال الدولة ، وهكذا يتضح لنا أن المشروع الحضاري كان هدفه إنهاء المشروع الوطني ، ولكن إرث عمره أكثر من قرن لن ينهزم وإن حدثت فيه بعض الشروخ أمام مشروع لا يطبق أصحابه ما يقولون .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة