هذا كتاب أنيق عرَّف الشعر بأنه "كسر قشرة الأشياء السميكة". أفرده صاحبه لدراسة اللغة والمكان من زاوية افتنان أو "بغضاء" الشعر للمدينة. فالمدن نساء أيضاً ورجال. وهي كائنٌ حي يُورِق كالحبيبة في حنايا الشاعر. ومن أكثر مظاهر أناقة هذا الكتاب تقسيمه للمدن في ولعِ الشعراء إلى طوائف غاية في السداد، فالمدن في افتنان الشعراء هي: *مدن الحنين والذكريات ومنها سنار التي استبكت الشاعر محمد سعيد العباسي، والدامر عند الدكتور عبدالله الطيب، ودنقلا عند أحمد محمد صالح وكسلا عند روضة الحاج وتوفيق صالح جبريل، وبورتسودان عند مصطفى سند، والأبيض عند الناصر قريب الله، وأم درمان عند التجاني. وجمع فيها بين مُدنٍ شَهِدَت مولد الشعراء أو من استبقوا منها ذكريات نابضة. *مدن العشق والجمال ومنها البطانة عند عبد الله البنَّا، وكسلا عند محمد أحمد المجذوب؟؟، والقضارف عند إدريس جماع وحسَّان أبو عاقلة، والخرطوم الخِلاسية عند محمد المكي إبراهيم، والخرطوم عند التجاني يوسف البشير وجعفر حامد البشير ومحمد سعيد الكهربجي. *مدن الحضارة والهُوية: سنار عند عبدالله عبدالرحمن، وحمزة الملك طمبل، وإمام علي الشيخ، ومحمد سعيد العباسي ومحمد عبدالحي. وسواكن عند ضرار صالح ضرار، ومبارك حسن خليفة، وأبو طراف النميري. وحلفا عند صالح داؤود وميرغني ديشاب. *مدن المواجهة: وهي شعر القطيعة بين الشاعر والمدينة يهجو الشاعر بها بلدة ما، كمثل فعل حمزة الملك طمبل بالدويم، ومهدي الأمين بالقضارف، ومحمد المهدي المجذوب ومحمد المكي إبراهيم بالخرطوم. والواثق الخاتم بأمدرمان (ومن خاصموه من الشعراء محبة للمدينة)، وحلفا. *مدن الفكر والقضية: وبالطبع حازت عطبرة ثم أم درمان فمدني بقصب السبق. فعطبرة عند تاج السر الحسن، والزين عمارة، والناصر قريب الله. وأم درمان عند التجاني يوسف بشير، ومصطفى طيب الأسماء، ومهدي محمد سعيد. ومدني عند سيد إدريس أبو عاقلة والهادي آدم. واختص الفنان الخير عثمان مدرسة حنتوب منها. وسَيسْعَد القارئ بهذا التبويب الذي ""يعدل الرأس""؛ لأنَّ دعائمه كانت في قراءةٍ لديوان الشعر السوداني توسَّع فيه المؤلف، وأحسن النظر، وأصاب الهدف. ولا تمنع أناقة التبويب من الخلط وهذا في سُنَّةِ البحث. فكسلا وصالح توفيق وردا في كل من بابِ الحنين والذكريات فباب العشق والجمال، وكذلك الأبيض عند الناصر قريب الله، ناهيك عن تشعب سنار في الأبواب. ولكن التبويب مع ذلك مُرِيحٌ للخاطر وذكيٌ. وانتفعت أنا من الكتاب بوجهين. فقد عقّد الكتاب علاقة ما بين الشيخ الشاعر عبد الله عبدالرحمن، المعلم بكلية غردون، والإرث السودان في ظن الناس. فكتاب الشيخ الموسوم "العربية في السودان" معدودٌ في الرَّأي القائل إنَّ السودان عربيٌ في مقابل مَنْ قالوا بهجنته أو أفريقيته. واشتهر هذا في مقال للدكتور أحمد عبد الرحيم نصر في أول ثمانينيات القرن الماضي. ولم أعرف سوى من هذا الكتاب أنَّ للشيخ رأياً حسناً في الإرث السوداني غير العربي. فوجدت الشيخ يقف بقوة على أطلال الحضارة السودانية من غير فرز. يبكي مُدن نبتة ومروي الكوشيتين وسوبا المسيحية بُكاءهُ لسنار الإسلامية، بل ويبكيها جميعاً بمصطلحٍ عربيٌ مبين. قِفَا بِي عَلَى أَطْلَالِ "نَبْتَةَ" وَقْفَةَ الـ سَّمَؤالِ فِي تَيْمَاءِ بِالأَبْلَـقِ الفَرْدِ فمروي عنده "ذات العماد". وسوبا عنده طيبة الحديث تصغى لها أُذن الإسكندرية سُدَّة بابوية الكنيسة الشرقية: جَرَى مَثَلاَ فِيْهَا الخَرَابُ وأَصْبَحَتْ سَبَأٌ وبِهَا ذُلَّ الأَخِيْرَةِ فِي القَيْـدِ وأَيَامٌ شِــدْنَاهَا بِسَنَـارَ دَوْلَـة تَبَحْبَحَ فِي ظِلٍّ عَلَى النَّيْـلِ مَمْتَدِ وبدا لِي الشيخ سبَّاقاً للتنوع التاريخي الذي دعا له العقيد جون قرن لجمعه إرث كوش إلى المسيحية فسنار الإسلامية الغراء. ولما عُدْتُ لكتاب الشيخ المعدود مانيفستو دُعاة الهُوية العربية للسودان دون غيرها لم أجد فيه هذا الجزم المظنون. فلم يزِدْ الشيخ عن استنكار من قال "أنَّ سكان هذا الإقليم ليسوا بعربٍ حيثُ أنَّ السكان الأصليين بِجة ونُوبة وزنوج". فإن حسُنَت النيَّة حملنا قول الشيخ على أنَّ ثمة عرباً بالسودان. وتوافر الشيخ على إقامة الدليل على ذلك بمضاهاة ثقافة هذا القسم من السودانيين بثقافة العرب في مظانها. فعبارته قاطعة الدلالة أنَّ هناك من أنكر وجود العرب في السودان ببينة أن "سكانه الأصليين" أفارقة. وتراه ميَّز الأخيرين بالسبق إلى البلد من غير سدٍّ للباب في وجه عرب البلاد. أما الوجه الآخر من انتفاعي بالكتاب فبيان مفارقة عجيبة في أدب حمزة الملك طمبل من مجددي الثقافة السودانية في عشرينيات القرن الماضي. فوجدته قد كفر نثره بحاضرة سنار الفونجية المحروسة بينما آمن شعره. فقد اشتهر عنه أنَّه في دعوته المتطرفة للحداثة، أن قال إن سنار، كموروث، ليست بشيء. فخزان سنار، الذي شيَّده الإنجليز في عام 1926م، لم يقم على قبسٍ منها أو إلهام. ولكنه في شعره المجموع في ديوان "الطبيعة" آمن بسنار داراً وعُمراناً وتاريخاً: صَمْدَتْ لِلعِظَاتِ هَذِي الطلُولُ فَاصْغِ يَا صَاحِبِي لِمَا سَأَقُوْلُ رَافِعَاتٌ رُؤُوسُهَا ولَكِمْ دُقَّـتْ عَلَى هِـذِهِ الرُّؤوس طُبُوْلُ بَعْثَرَتْهَا يدُّ الزمانِ فأمْسَـتْ جَـاذِعَاتٍ كأنَّهـن فلـولُ لَمْ تَقـمْ هَذِهِ الخَـرَائِبُ إِلَا فَوْقَ مُلْكٍ عَنْهُ الكَلَامُ يَطُولُ لَيْسَ يَبْقَى عَلَى البَسِيْطَةِ مُلْكٌ لِمُلُوْكٍ عَلَى الضِّعَافِ يَصُولُوا فلكَ أن تعجب كيف كفَّ الشاعر عن ذكر سنار وملكها الذي "عَنْهُ الكَلَامُ يَطُولُ" حين أثنى في نثره على خزان سنار وجرَّد سنار التاريخ من أي فضلٍ عليه. ومؤسف أن الشاعر لم يصغ لقول طلول سنار وعظاتها ومنها أنه "لَيْسَ يَبْقَى عَلَى البَسِيْطَةِ مُلْكٌة . . . لِمُلُوْكٍ عَلَى الضِّعَافِ يَصُولُوا". ومن هؤلاء الصائلين الإنجليز بناة سد سنار. هذا الكتاب إضافة حقيقيَّة لنقد الشعر السوداني من قلم مثابر في جبهة الثقافة. نظر للمدن في وجداننا كما شكله شعراء قدرهم كسر القشرة السميكة للوجود إيغالاً في سحر المدن وجدلها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة