إن واحدة من أهم إشكاليات المجتمع السياسي السوداني غياب دور المثقف الفاعل، الذي يجمع بين الفكر و المشروع السياسي، و الذي يقول عنه المفكر الفلسطيني عزمي بشارة، ليس المثقف بالضرورة يكون ثوريا لابد أن يكون ناقدا و قال إن المثقفين فئة حديثة ارتبطت بالحداثة في القرن الثامن عشر و التاسع عشر، و صنعة النهضة، و غيابه أحدث فراغا في الساحة السياسية السودانية، أدي لبروز الأزمة السياسية، كان من المفترض إن تدرس الأحزاب السياسية هذا الغياب و الأسباب التي أدت للغياب، و هي ناتجة لسيطرت القيادات السياسية عشرات السنين علي قمة هرم الأحزاب، مع ممارسة الإبعاد عليه في المجتمع، الأمر الذي أغلق الباب أمام الأجيال الجديدة التي تملك الفكر النقدي، و جعل العديد من النخب تحجم عن الأحزاب، هذا الإحجام من المثقفين و المفكرين فتح الباب لدخول المثقف التقليدي التنفيذي، هذا المثقف التقليدي 90% أجندته شخصية، و في فترات لاحقة فتح الباب لناشطين سياسيين من نوع خاص، لا يملكون في المعرف غير أصوات ضخمة معدة فقط للهتاف، و قد بدأ أيضا يبرز بقوة دور هذا الناشط المزيف معرفيا مع ظهور الوسائط الاجتماعية، و الناشط السياسي الذي أعنيه، هو وليد البيئة السودانية الفقيرة في مجال المعرفة السياسية و الثقافة و الإنتاج الفكري، يختلف عن الناشط السياسي الجديد، الذي عرفه المفكر المصري السيد يسن، فناشط السيد يسن لديه القدرة و المعرفة علي كيفية استخدام وسائل الاتصال الحديثة، في عملية التعبئة الجماهيرية، و كيفية استنفار الجماهير في الخروج لكي تعبر عن تطلعاتها، و لديه القدرة لمعرفة اتجاهات الجماهير، إلي جانب قدرته علي استنباط الشعارات من الأحداث، و تغييرها حسب تغيير الأحداث، هذا السياسي الجديد الذي يتحدث عنه السيد يسن، ظهر في ثورات الربيع العربي . فالناشط السياسي السوداني الذي برز بقوة في عهد الإنقاذ، هو ناشط سياسي لم يكتمل بناءه الفكري و المعرفي و السياسي، دفعت به الظروف للساحة السياسية من خلال النزاعات و الحروب في الأقاليم و الصراعات القبلية، و البطالة المتزايدة في المجتمع، فجاء للساحة السياسية لا يملك رصيدا معرفيا، و في ظل الاستقطاب السياسي جاء للأحزاب، و وجدها هي أيضا تعاني من فقر مدقع في المعرفة السياسية و الفكرية، و يسيطر عليها العناصر التنفيذية، و هؤلاء ينتظرون التعليمات، و ليس لديهم قدرة علي الإنتاج الثقافي و المعرفي، فوجدوا أمامهم الأبواب مشرعة، استغلوا الشعارات المرفوعة لتحقيق مصالح ذاتية، باعتبار إن قدراتهم لا تؤهلهم أن يرتبطوا ببرامج وطنية، أو أن يصنعوا برامج سياسية قومية، مما افقد العمل السياسي حيويته و خلق المبادرات الوطنية، وأصًبح هؤلاء الناشطين السياسيين معوقات أمام أية دعوة للإصلاح و التغيير، هؤلاء دورهم الرئيسي، أن يصنعوا وعيا زائفا، لخلق حالة من حالات ألامبالاة وسط الأجيال الجيدة التي من المفترض أن يتم التغيير علي يديها. بعض الناشطين السياسيين، الذين لم يستطيعوا أن يجدوا موطئ قدم في الأحزاب، ذهبوا إلي منظمات المجتمع المدني، لكي يؤسسوا للإمبراطورية التي يريدون، و هؤلاء تسيدوا الساحة السياسية، الأمر الذي جعل الغياب الكامل للمثقف العضوي " حسب توصيف غرامشي" الأمر الذي أثر سلبا علي الساحة السياسية، و غاب البرنامج السياسي، و غاب الفكر، و ظلت الأحزاب تعاني من شح في الثقافة و الفكر. هؤلاء الناشطين السياسيين " نصف كم" استطاعوا أن يفرضوا وجودهم في الساحة السياسية، إن كان في جانب الحكومة، أو في المعارضة، خاصة إن القيادات التي في قمة الهرم،لأنها تريد البقاء علي القمة أطول فترة ممكنة، تفضل هؤلاء الناشطين، الذين يتركون عقولهم جانبا، و يركزون علي قوة الصوت و الهتاف. و إذا نظرنا لتاريخ المعارضة، و بداية تأسيسها كانت تستعين بهؤلاء القيادات، فكانوا الأكثر صوتا و لا تحكمهم مبادئ و لا قيم، كانوا يحاولون التغطية علي ضعف مقدراتهم و شحيح معارفهم بهذا الصوت الصاخب، الفارغ من المحتوي، حالة من حالات التطرف المصنوع، و هؤلاء كانوا سببا في ضعف التجمع الوطني الديمقراطي، لأنهم كانوا يساندون قيادات فقدت قدرتها علي العطاء، و أصبحت تتشبث فقط بالمواقع التي تتبوأها، فاستغلت الحركة الشعبية هؤلاء في تمرير أجندتها، و الآن هي تمارس ذات الفعل، فالعقل المحنط لا يستطيع أن يخلق وعيا و لا واقعا جديدا، و لا يستطيع اتخاذ قرارا بمغادرة الموقع الذي فشل فيه، هذه الحالة من التيبس العقلي، أيضا لم تساعد علي نمو و تطور المجموعات الناقدة، و لا ساعدت أي مجموعات أخري لكي تقدم مبادرات جديد تتجاوز بها ما هو مطروح في الساحة، و تستطيع من خلالها، أن تعيد النظر في الفكر المطروح، الذي أدي لهذا الإخفاق و في فشل المشروعات، و الفشل المتواصل هو تأكيد إن هذه القوي المسيطرة تفتقد للعقل الناقد، الذي يقيم التجربة و يحاول اكتشاف الأسباب التي أدت للفشل، مما يؤكد إن العناصر التي في يدها القرار، هي عناصر تنفيذية، لا تدير بالا للمسألة الفكرية. الغريب في الأمر إن اتفاقية " نيفاشا" التي وقعت بين الحكومة و الحركة الشعبية عام 2005، و هي اتفاقية عليها مأخذ كثيرة من قبل القوي السياسية، و حتى لها ناقدين في السلطة، و لكنها كشفت و فضحت تواضع مقدرات السياسي السوداني. و فضحت أصحاب الأصوات العالية، الذين بدأوا يكشفون عن أجندتهم الخاصة، خاصة وسط المعارضة، و هؤلاء باعوا الشعارات التي كانوا يرفعونها، و هرولوا بحثا عن وظائف في السلطة دون حياء، فسيطرة هؤلاء علي المشهد السياسي، هو الذي أدي إلي تعميق الأزمة السياسة أكثر، و عدم معالجة الأزمة يعود لأن الأغلبية في الساحة هم من هؤلاء الناشطين، و يضاف لهؤلاء إن الاتفاقيات الثنائية التي فرضتها الإنقاذ للحل، خلقت ما يعرف بعقل البندقية، و هو عقل لا يجيد غير استخدامها هذه الآلة، التي أصبحت طريقا للوصول إلي قمة السلطة التنفيذية، هذه الاتفاقيات الثنائية فرضت عناصر ليس لديها خبرات سياسية، و ليس لها خبرات في الوظائف التي تقدم لها، فزادت الطين بله، و يحاول الجميع البحث عن حلول للأزمة السياسية بذات هذه العقليات. فإذا كان في فكر السيد يسن، إن المثقف قد أخلي الساحة السياسية لبروز الناشط السياسي، الذي استطاع أن ينفذ أجندته بقوة عبر وسائط الاتصال، و أيضا هناك من يعتقد إن المثقف قد أخلي مكانه للداعية السياسي منهم الباحث المغربي الدكتور احمد شراك الذي يعتقد إن هناك ثلاثة عوامل قد أثرت في دور المثقف و جعلته يتراجع، أولها الإقالة و هي إقالته من السلطة التي استخدمت فيها العصا و الجزرة مع المثقف الترغيب و الترهيب لكي يتخلي عن دوره الناقد. و الثانية الاستقالة أي التخلي عن دوره و تفضيل العزلة و الانعزال. و الثالثة الاستقلال إنه استقلال عن المشهد السياسي المرتبط بالسلطة، و بروزه في المؤسسة الحزبية. و الملاحظ إن الناشطين الذين بدأ يبرز دورهم في الساحة من الأجيال الجديدة، التي تحمل فكرا جديدا و رؤية جديدة، و إن كان ينقصهم التنظيم، و لكن تخرجوا من بيئة مليئة بالعوائق و الأشواك، و علي الرغم من ديكتاتورية النظام، لكنها بيئة إذا استغلت من قبل هؤلاء المثقفين الجدد سوف تكون كثيرة الإنتاج الفكري و الثقافي، و سوف تحدث تحولات جديدة في مناهج التفكير في المجتمع، أما في السودان إن الناشطين السياسيين، الذين ملئت بهم الفراغات في الأحزاب، هم ناشطين من بيئة فقيرة في إنتاجها المعرفي و الثقافي، الأمر الذي جعل الصراع يدور في دائرة الوصول للسلطة، ففشلوا في خلق واقع جديد، و أصبحوا يغلقون المنافذ لعدم ولوج المثقف الناقد المنتج للفكر لهذه المواقع، حتى لا يكشفوا عن تواضع مقدراتهم، فظلوا يعارضون عمليات التغيير ليس في السلطة و أيضا في المؤسسات الحزبية. إن أية معالجة للواقع، الذي يسيطر عليه الناشط السياسي، بعيدا عن المثقف المفكر، سيظل علاجا مؤقت و لا يقدم حلا جذريا، و لابد من عودة المثقف المنتج للمعرفة لكي يلعب دوره الفكري، و كما يقول ادوارد سعيد في كتابه " المثقف و السلطة" يقول ( أن مهمة المثقف و المفكر تتطلب اليقظة و الانتباه علي الدوام، و رفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق أو الأفكار الشائعة باستمرار) المثقف هو عين الجماهير و التعبير عن حالها و طموحاتها، و لذلك كان دوره دورا نقديا، و الدور النقدي ليس تتبع أخطأ السلطة، بهدف مصارعتها إنما دوره النقدي لكي يستكشف المشاكل التي يمكن أن تعترض مسيرة تنمية و نهضة شعبه، دور نقدي بهدف تحقيق العدالة و تطبيق حكم القانون علي الكل، دوره نقدي لعدم انحراف السلطة و تفشي الأمراض الاجتماعية فيها مثل الفساد و الانتهازية و الوصولية و التضييق علي المتملقين الذين يحاولون تجاوز القواعد و القوانين، دوره نقدي لكي يبين إن الفكر القائم الذي فشل في تحقيق السلام و التنمية لابد من تغييره، و طرح البدائل ليس علي أساس حزبي، و لكن علي أسس علمية، دوره نقدي في فضح الأيديولوجية، و خطورتها علي عمليات النهضة في البلاد و إحداث الشروخ الاجتماعية بين الأمة، و كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري، إن مهمة المثقف أن يلزم جانب القضايا الوطنية، و ينحاز دائما للطبقة الفقيرة في المجتمع، لما لديه من قدرة علي الإنتاج المعرفي الذي يؤهله لتغيير الواقع لمصلحة هؤلاء. فالجابري محق في أن يكون المثقف ملتزما جانب عامة الشعب، و بكل طبقاته و ليس منحازا الانحياز الذي يفقده موضوعيته، و يبين لنا الدكتور علي حرب كيف نخرج من هذا المأزق حيث يقول ( هذا المأزق لا فكاك منه، إلا بتفكيك المثقف لقوالبه المعرفية و آلياته الفكرية، علي النحو الذي من سجونه العقائدية و معسكراته الأيديولوجية، لكي يتعامل مع العالم بعقل مرن و فكر مفتوح علي الحدث) و معروف في مسيرة النهضة السودانية التي بدأت بعد الاستقلال و قد فشلت كل مشروعاتها، يجب أن تخضع إلي الدراسة و معرفة أسباب هذا الفشل، و من هي الجهة التي لها القدح المعلي في أعاقته، حيث إن الناشط السياسي الذي فرضته ظروف غير طبيعية، من خلال صراع المؤسسات، و اختلال توازن القوة، و وضع الأجندة الأمنية في مقدمة الأجندة الوطنية بينما يحدث للأجندة السياسية تغبيش متعمد، بسبب عقلية الناشط السياسي الفقير ثقافة و فكرا، هذا الإعوجاج يعتبر أهم أسباب الأزمات في البلاد. و لكن يبقي السؤال كيف يستطيع أن يأخذ المثقف دوره في التغيير، في ظل هذا الوضع غير الطبيعي، و سيادة الناشط السياسي؟ إن الإجابة تبقي قيد النظر في المقال القادم. و الله الموفق. نشر في جريدة إيلاف الخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة