إنها الكوليرا، وإنه زمن الإنقاذ بامتياز. فمنذ مجيئها في 1989م كان واضحاً أن الإنقاذ ما هي إلاّ بيضة فاسدة سيتكفل الزمن وحدة بكشف مدى فسادها وتأثير ذلك على حاضر السودانيين ومستقبلهم. وكان من أبرز سمات فساد البيضة إنفصال الدولة الموروثة إلى دولتين لم تفلحا إلاّ بإضافة دولة جديدة لقائمة الدول الأقل نموا. نعم، نحن في زمن الكوليرا. زمن حُصدت فيه أرواح أهلنا الطيبين شرقا وغربا وجنوبا، مرة بالرصاص ومرة بقذائف الأنتينوف ومرات أخرى عديدة بالمرض والجوع والجهل. جرى ذلك بمبررات وبدون مبررات. والإنقاذ لا تأبه لخطل أفعالها التي أوردت البلاد موارد هلاك لا مخرج منها. هذه المرة، جاء الدور على ولاية النيل الأبيض، ستترك الإنقاذ بصمتها هنا دون حياء. فهي لا تأبه لحقائق التاريخ، ولا لمرتكزات الجغرافيا. لا تأبه لحقيقة أن ولاية النيل الأبيض تحتضن بخت الرضا، تلك الأيقونة السامية في وجدان الشعب السوداني، والمنارة السامقة في تربية الأجيال وتعليمهم أن الأخلاق هي قوام نهضة الشعوب، وليست الممارسات اللاخلاقية من فساد ومحسوبية، سواء جاءت كمحصلة للتمكين أو خلافه من مخازي الثلاثين سنة الضائعة من عمرنا. أما التاريخ فيحدثنا أن إنشاء بخت الرضا في 1934م كان بدافع تعزيز التوجه الريفي في نظرة الحاكم وقتها لتنمية المجتمع السوداني. وبعد هذه السنين منذ عهد الاستعمار، من حقنا أن نتساءل: هل يستطيع السودان تحقيق تنمية شاملة بدون استصحاب الريف حيث يقطن 60٪ من إجمالي سكان البلاد؟ ندرك جميعاً أن الكوليرا وباء يعزى في الغالب الأعم إلى تقصير الحكومة في البنى الأساسية لقطاع الصحة في المنطقة كما في توفير الموارد البشرية والمالية اللازمة لنجاعة التصدي للوباء. وحسب منظمة الصحة العالمية، «يعد توفير المياه ومرافق الإصحاح المأمونة أمراً حاسماً لمكافحة الكوليرا وغيرها من الأمراض المنقولة بالمياه». ومع هذا التفشي الحالي للكوليرا، تكون الحكومة قد ضربت إنسان المنطقة في مقتل، وهو ما يعني تحطيمها لمكانة ورمزية النيل الأبيض تحطيما عبثياً يتناقض مزيدا من التناقض مع نواياها المعلنة وخططها المرسومة وشعاراتها البراقة. آية ذلك أن الإنقاذ قد تحدثت كثيراً عن النهضة الخضراء والنفرة الزراعية، وقد رفعت العديد من الشعارات الجوفاء التي لم تعد على الإنسان البسيط بطائل سوى الجوع الكافر واليأس المضني. بالطبع إنهم لا يعبأون كثيراً بعموم السودانيين من غير أعضاء حزبهم الحاكم حيث تسود بينهم عقلية التمكين البغيضة لتفرِّخ الفساد بكمياته وكيفياته غير المعهودتين أبداً في التاريخ. أما الجغرافيا، فتقول إن الولاية، التي تتمدد جيولوجيا على حوض أمروابة للمياه الجوفية، وبمساحة تتجاوز الثلاثين ألف كيلومتر مربع، تضم ستة مليون ونصف مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة يستغل منها حاليا أربعة مليون فدان فحسب. وفوق ذلك فهي ولاية صناعة السكر في البلد، إذ تستضيف مصنع سكر كنانة وسكر عسلاية وسكر النيل الأبيض. وهذه المصانع الثلاثة مجتمعة تمثل ثاني أكبر مخدم للعمالة بعد الحكومة. وهي كذلك موطن لصناعة الأسمنت منخفض التكلفة نسبياً. والولاية أيضاً أكبر منتج للأجبان، بما لديها من ميزة نسبية تؤهلها لمنافسة عالمية جبارة في هذا الصدد فيما لو توفرت المعينات وصدقت النوايا وانتفى الفساد. الآن يزيد عدد ضحايا الكوليرا في ولاية النيل الأبيض بوتيرة متصاعدة. والحكومة لا تهتم بالأمر طالما هي واثقة أن هذا الشعب قد استكان لحكمها ولن ينتفض عليه في المستقبل القريب، على أقل تقدير. ففي زمن يعكف فيه علماء الدين من سدنتها إلى إباحة العلاج بالبخرة والمحاية ولبس الحجاب، فإنهم يعلمون يقيناً أن العلاج خارج السودان قد بات الخيار الوحيد الذي يستعصم به جل المرضى بما في ذلك علماء السلطان أنفسهم. ومن سخريات الواقع أن يتحدث هؤلاء العلماء عن علاج ببخرة ومحاية في وقت يحتفي فيه المجتمع الدولي بتطورات واضحة أحرزها الطب في مجالات شتى تشمل خفض معدل وفيات أمراض القلب بنسبة 40٪ خلال ربع القرن الماضي؛ والتحول التدريجي للسرطان من مرض قاتل إلى مرض مزمن مثلما هو الحال بالنسبة لسرطان الثدي؛ والبحوث الدؤوبة في الجينات وما تنطوي عليه من أمل رحيب بالنسبة للعلاج الوقائي؛ وإطالة عمر المصابين بالإيدز حتى السبعين من العمر. وغير ذلك من تطورات طبية استندت إلى العلم والعقل وانفتاح آفاق البحث انفتاحا لا يعرف الحدود. وبفضل هذه التطورات خرج إنسان القرن الحادي والعشرين مفعما بالأمل في قدرته على الانعتاق من التخلف وسيادة ترّهات اللاعقل وسذاجة القدرة على إبطال الأسباب بالتمني. لقد انتهى ذلك التخلف في كل مكان من حولنا، أما دولة المشروع الحضاري فلا تزال تمتطي صهوة اللاعقل وتحسب أنها تحسن صنعاً. والأدهى والأمر أنها تحسب أن ما تصنعه تمليه عليها الإرادة الإلهية، وليس أمام الآخرين سوى الإذعان وإلاّ غشيهم العذاب الآجل وطالهم الإذلال العاجل. في ظل عقلية حاكمة يستحوذ الهم الأمني عليها استحواذا كاملا، فمن الطبيعي أن يذهب القدر الأكبر من ميزانية الدولة نحو القطاعات التي من شأنها أن تطيل عمر الإنقاذ. بينما القطاعات الحيوية للمواطن، من مياه شرب نقية ولقمة عيش كريمة وعلاج أولي ناجع، فهي كلها لا تهم الإنقاذ في شيء. يبقى أن نقول أخيراً إن الإنقاذ نجحت نجاحاً باهراً في بعثرة عواطف السودانيين تجاه بعضهم بعضاً. أقصد أن ما يحدث في أي منطقة قاصية، لا يهم أهل المناطق الأخرى طالما ظل الذي يحدث مستقراً حيث هو. أهل الخرطوم عموماً، وباستثناءات تثبت القاعدة ولا شك، لا يتعاطفون كثيراً ولا يطول زمن تعاطفهم عادةً، مع قضايا الهامش البعيد وإنسانه المقهور. وما لم نتمترس حول وجدان سوداني واحد، فسوف تضمن الإنقاذ بقاء حكمها دون تهديد من مثقفي الوسط الذين يمثلون عتلة التغيير والعنصر الحاسم فيه. فهل نطمع في تغيير على هذا الصعيد؟ ومن هو المؤهل لقيادته؟ تلك أسئلة سيفضي حسمها إلى تسارع وسهولة حسم أوضاعنا الآخذة بالانهيار شيئاً فشيئاً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة