فى العام ١٩٤٢ اصدر عالم الاقتصاد الليبرالى اللورد ويليم بيفريج تقريراً بمثاب اصداره، تغيرت خارطة ملامح دولة وشعب بريطانيا العظمى وللأبد. في التقرير سرد بيفريج تفاصيل معاناة الشعب البريطانى الاقتصادية اليومية من خلال تقرير مفصل سمى بأسم تقرير التأمينات الاجتماعية والخدمات المصاحبة لها او الشهير بتقرير "بيفريج". رصد التقرير الذى اصُدر تحت رئاسة بيفريج الأسباب الجذرية وراء معاناة الشعب البريطانى والتى تم تسميتها محاور الشر الخمس العظمى وهى الفقر والجهل، العوز، البطالة والمرض. من اهم نتائج القراررصد مستوى الظلم الاقتصادى والاجتماعى ونسبة التفاوت السحيقة فى مستويات المعيشة بين شرائح الشعب المختلفة لا سيما نسبة فى مستويات الصحة البدنية والتعليم والدخل الاقتصادى بين النخبة الحاكمة وطبقة النبلاء وملاك الاراضي وعامة الشعب من العمال وسكان القرى من الطبقات الكادحة. فلقد كان اغلبية الشعب ترزح تحت وطاءة قهر عوامل الشر الخمس بينما كانت تستمتع النخبة والطبقة الحاكمة بثروات اعظم امبراطوريات العالم انذاك، (دولة بريطانيا العظمى). لم يرصد التقرير ملامح معاناة عامة الشعب البريطانى بدقة وحسب بل وضع خارطة طريق لمحاربة اوجة تلك المعاناة من خلال وضع خارطة اصلاح اجتماعى ومؤسسي متكامل ادى الى تكوين دولة الرعاية الاجتماعية والتعليم والعلاج المجانى من خلال التحصيل الضريبي العادل وتسخير أراداته فى خدمة المواطن. لم تحدث تلك الاصلاحات المؤسسية ثورة اجتماعية فى وسط المجتمع البريطانى وحسب، بل انها ساهمت فى خلق ثورات متتالية تعليمية وعلاجية وفنية واقتصادية ادت الى رفعة ونماء الشعب البريطانى وتفجير قدراته ومواهبه فى شتى المجالات والاصعدة. بل و كانت السبب الأساسي وراء ابداعات الشعب البريطانى من ابتكار جهاز الحاسوب الاول الى ابتكار شبكة المعلومات العالمية الويب الى ابتكار افضل نظام عناية ورعاية صحية فى العالم الNHS. وذلك لان ثروة البلاد الحقيقية تكمن فى امكانيات وقدرات ومؤهلات انسانه المبدع والخلاق وليس حصيلة بعض الموارد الغير مستدامة. ولان سياسات الدول المثلى تكمن فى العمل والسعى وراء تفجير مواهب وابداعات شعوبهم وليس من خلال قهره وتبديد مقدراتهم ومواهبهم، بل وطردهم كما فعلت وتفعل الانظمة السودانية المتتالية، والتى يتصدرها انجازات النظام الحالى وهو الأسوأ على الاطلاق، بل هو من الأسوأ على مستوى العالم فى خنق مواهب شعب السودان من خلال ممارسات القهر وسلب فرص التعليم الجيد بتحطيمهم لمؤسسات التعليم وتبدليها باوكار للتجنيد والتجهيل والقهر، وتحطميهم لمؤسسات الدولة ببيعها لاتباعهم والمقربين منهم لكى يجعلوا منها واجهات للمتاجرة بأصول السودان. لا يعد هذا النظام الفاسد الأسوأ على الاطلاق بل ان حصيلة مسيرة الخراب التى اشعلها فى الانسان السودانى حينما حل عليه من خلال انقلابه المشؤوم بان خلق دولة الجوع والمرض والجهل والعوز والركود وذلك لان مؤسساتة التعليمة خلقت شعب تنقصة المؤهلات والتعليم التى كان يستطيع المنافسة بها وسط اترابه عالمياً. فلنتراجع للوراء قليلاً لمعرفة الأسباب والعوامل التى أدت الى اصدار تقرير محاور الشر الخمس ، فالتقرير بالرغم من انه اصُدر تحت رعاية اللورد ويليم بيفريج، لم يكن بيفريج القوة او الدينمو وراء اصدار التقرير والذى بسببه عززت دولة بريطانيا نسبة المساواه المعيشية والاقتصادية والتعليمية وسط شعبهم من خلال مؤسسات الدولة . بل لقد كان الدينمو وراء التقرير هو كتلة عمال الثورة الصناعية الذين نظموا انفسهم وانتظموا تحت لواء نقابات العمال المختلفة انذاك ، مما ادى هذا التنظيم فى صفوف العمال الى تكوين حزب العمال البريطاني الذراع السياسي للكتلة العمالية، والتى كانت وما زالت دينمو التغيير والعدالة الاجتماعية وراعيها وان كان نفوذها قد تضاءل تحت وطاءة السوق المفتوح. لقد كانت الكتلة العمالية البريطانية المطالب الاول للدولة بتحسين اوضاعهم وفرص عملهم ومستوى معيشتهم وتحسين اوضاعهم واوضاع اسرهم وجيرانهم.. خلقت الثورة الصناعية فى بريطانيا بيئة فريدة من نوعها، بحيث جمعت عدد كبير من البشر تجمعهم ظروف اقتصادية ومعاناة اجتماعية مماثلة فى مكان عمل موحد وممتد، خلق ذلك التجمع ارضية خصبة لنمو وازدهار الحركات العمالية المؤثرة من نقابات واحزاب وتعاونات.ساهمت هذة الأرضية الفريدة فى تغيير ملامح عمل الشعب من شعب اغلبيته فقير، ريفي، متفرق، يعمل بالزراعة البسيطة ويسكن فى القرى المنتشرة حول الجزيرة البريطانية الى شعب صناعى، حضرى، يعمل بالمصانع الضخمة، ويسكن المدن، مترابط ومتماسكناً ومتمكناً اقتصادياً وبذلك متمكناَ سياسياً. ساهم امتداد الثورة الصناعية فى اوربا ودول اميريكيا الشمالية فى تغير مجتمعات تلك البلاد وخلق الكتل العمالية الحرجة التى فرضت على حكامها تغيير أسلوب حكمهم الظالم ومهدت الى قيام ثورات متتالية فى العدالة الاجتماعية يتمتع شعوب هذة الدول بنتائجها اليوم. هذة الكتل الشعبية الحرجة والتى تقود الى احداث التغيير والثورات فى المجتمعات المختلفة، تنمو نمواً عضوياً وبسب تاثيرت اقتصادية مختلفة، فى بريطانيا واوربا واميريكيا الشمالية كان نمو تلك الكتل الحرجة نتيجة جانبية للثورة الصناعية اما فى دولة فرنسا، فان الكتلة الشعبية الحرجة والتى تسببت فى الثورة الفرنسية، تكونت بسبب انتشار الوعى بالظلم المجتمعى الذى أشار اليه المفكر السويسرى جان جاك روسو. تختلف الاسباب وتتقارب حول الارضيات والمناخ المختلف الذى يقود الى تكوين كتلة جماهيرية وشعبية حرجة تستطيع فرض ارادتها على شريحة الحكام تطالب بالتغيير المجتمعى الى الافضل من خلال فرض سياسيات تحفظ حقوقها وتحسن اوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والصحية او تغيرهم اذا أرادات -لكن يبقى الدينمو الأساسي للتغير وللمحافظة على مكتسبات التغيير فى اى مجتمعَ -هو تكوين وتمكين كتلة شعبية حرجة تقود مسيرة تغيير شعوبها وتصبح دينمو التغيير والعدالة الاجتماعية وراعيها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة