يوم جئت أحمل مخطوطة الرواية عليها توقيع د. زهير، لتسليمها للجمع الالكتروني في مطبعة دار النشر بجامعة الخرطوم ، كنت أعتقد انني سأتسلم كتابي خلال أيام لكن الشاب اللطيف الذي وجدته في قسم الجمع الالكتروني يعمل على اجهزة أبل جديدة وصلت للدار آنذاك. أشار بفتور الى كومة المخطوطات (المردومة) بجانبه تنتظر مصيرها المحتوم في جوف الجهاز الشيطاني. وحتى لا يترك لي أية مجال للتفاؤل أبلغني ان الانتظار قد يمتد لعدة أشهر وأن هذه هي المرحلة الأصعب في عملية طباعة الكتاب.
أصبحت ازور المطبعة اسبوعيا حين لاحظت أنه لا يعمل في جمع كتابي الا حين أكون موجودا، لأكتشف اننا سنبدأ من نفس (الشولة) التي إنتهينا فيها قبل أيام! بعد أن يكمل بعض الاعمال العاجلة التي يعمل عليها بجانب عمله في جمع مخطوطات الكتب.
نتقدم ببطء! نفس بطء الانقاذ في إنفاذ كل الوعود التي جاءت بها. فكّرت في العثور على مقدمة للكتاب من قاص معروف، وافق بحماس حين طلبت منه ذلك، تركت له صورة من مخطوط الرواية عند احد اقربائه على حسب طلبه، لكنه آثر السلامة و (نكر حطب) انه تسلّم الرواية، حين إشتم فيها روائح النقد (الهدّام) للنظام الانقلابي الوليد! لجات وبنصيحة من إبنة أختى أماني فقيري لدكتور بشرى الفاضل الذي أكرمني بكتابة تقديم للكتاب وبكلمات تشجيع كريمة رغم أنه حذّرني أن وجود اسمه على الكتاب ربما يسبّب مشاكل في طباعتها قياسا على تجربته قبل فترة في طباعة مجموعته الشهيرة: حكاية البنت التي طارت عصافيرها.
لبدت بالمقدمة لحين إنجلاء الموقف، كان الانقاذيون مشغولون آنذاك بالحرب والتمكين وبيوت الاشباح. فلم يتبق وقت للقراءة. في الادارة وجدت شخصا كان يعاملني بحفاوة حكومية، فشعرت انه غير موال للنظام وبالتالي يمكنه مساعدتي في الدفع بالكتاب بسرعة الى المطبعة قبل مراجعته من اية جهة. لكنني فقدت الامل فيه بعد أن رأيته بالصدفة بعد أيام قليلة في مظاهرة عبرت بجانبي في شارع القصر ،كانت المظاهرة تندد بالامريكان الذين (دنا عذابهم) وتساند صدام حسين في حربه في الكويت وتشتم آل سعود. حين عبرت المظاهرة الصاخبة بجانبي رأيت (زولي الما يغباني) الذي كنت اعتمد عليه، وهو يحمل مجسّما من الصفيح لصاروخ الحسين! وكان يسير بحماس دافق يعطي إنطباعا انه لن يتوقف أبدا قبل تحرير القدس!
يبدو أن أسلحتنا الفتّاكة لم تنجح في عذاب الامريكان الذين( ليهم تسلّحنا) بصواريخ الصفيح! فإنتهى الأمر بالنظام الى حرب الوفود والعرائض لاستجداء الامريكان لرفع الحظر الاقتصادي لأن أهل السودان المساكين لايستطيعون إستخدام (الفيزا كارد)! كما أعلن احد السادة الكيزان!
ستلعب الصدف دورا ، الدار مقبلة على مرحلة جديدة وثمة إتجاه للتعجيل بطباعة كل الكتب (المركونة) في اليوم الذي ابلغت فيه ان الكتاب سيدخل المطبعة خلال ايام قليلة، كنت قد وصلت الى المطبعة في كوبر بعربة تاكسي بسبب عدة مواعيد كان علي إنجازها في ذلك اليوم، كان كماسرة الحافلات في ميدان أب جنزير ينادون : نفر نفر أركب عمر المختار. ، فقد تم تغيير اسم الحي للتو من كوبر الى عمر المختار! يبدو كما قيل أن رجال الأمن اعتقلوا بعض الكماسرة الذين لم يهتموا بالاسم الجديد، وواصلوا في ترديد اسم كوبر، وضربوهم ضرب غرائب الابل، حتى بات بعضهم من كثرة الغيظ يصيح: أركب عمر، أركب عمر!
تم (تأصيل) اسم الحي من كوبر الى عمر المختار ربما إكراما للقذافي! إكرام مدفوع الثمن كعادة أهل الانقاذ. لكن يبدو ان اسم عمر المختار لم يعمر كثيرا، مثله مثل مسرحية هدم سجن كوبر أمام نظر العقيد القذافي! حيث هدم جزء من الجدار الداخلي بينما استمر السجن في الداخل في حركته العادية! وإستمرت بيوت الاشباح من حوله في استقبال كل مناوئي السلطة الجديدة. ربما كان العقيد سيحرجهم إن طلب منهم بدلا من هدم سجن كوبر، أن يقوم بهدم أحد بيوت الأشباح! قصة هدم سجن كوبر ربما تكون اوضح دليل على طريقة تفكير الانقاذيين الذين يعتقدون ان بإمكانهم خداع كل الناس، وأن الناس سينسون بسرعة أنهم تعرضوا للخداع! فهل سيصعب على القذافي ان يعرف ان السجن لم يهدم وان اللجان الشعبية التي استخدمتها الانقاذ لوصف وحدات الادارة الشعبية في القرى والمدن لا علاقة لها بأفكار كتابه الأخضر ولجانه الثورية. ألم يسأل القذافي : أين الطريق الثاني؟ حين وجد أن نقوده التي دفعها لبناء أحد الطرق استخدمت لبناء طريق إنقاذي ضيق، يبدو كأنه يكفي لسيارات إتجاه واحد وليس إتجاهين عملا بحكمة (الكلفتة) الانقاذية (لو النفوس إتطايبت الطريق بيشيل عربيتين براحة)!
المهم آثرت رغم الميزانية التعبانة ركوب تاكسي بدلا من (ركوب) عمر بسبب عجلتي! في الطريق تحادثت مع سائق التاكسي فوجدته حزينا جدا، أبلغني بخبر وفاة الاعلامي الموهوب الراحل محجوب عبد الحفيظ، شعرت بالحزن فقد كان ببرنامجه الواحة الوحيدة في صحراء تلفزيون ساحات الفداء وإعلانات البسكويت والعساكر، ما أن تفتح التلفزيون حتى يندلق اللون الأخضر الغامق الى الخارج: لون العسكر، وجوه متجهمة، تكذب تحت أي قسم، يلقون باللوم كله على العهد الديمقراطي الذي لم يكد يلتقط حتى أنفاسه! بينما الخراب والدمار والموت كله أطل مع إطلالة فجر عهدهم الكاذب، عهد الكذب والتضليل والخراب. كان سائق التاكسي أشد حزنا وكان يتمتم طوال الطريق أن الدنيا لا قيمة لها، جنيت ثمار حزنه الفورية، فقد رفض أن ياخذ مني أجرة الطريق.
الآن ومن مكاني هنا في هذه البلاد الباردة البعيدة وعبر السنوات تنهال الى ذاكرتي ذكرى وقائع وصور تلك الأيام. التحية والإمتنان لكل الاصدقاء الذين كان لمساعداتهم القيمة أبلغ الأثر في تخطي كل العقبات التي غكتنفت تلك الخطوة الصغيرة الأولى. التحية لبشرى الفاضل ود. زهير، الى زبير زبير وكمال ومهدي وأماني، الى علي الطاهر، الى عبد الوهاب في قسم التوزيع بدار النشر وللصديق عبدالله الطيب الذي كان يملك مكتبة صغيرة في ميدان أبو جنزير، ساعدني في توزيع الكتاب وكنت اتوقف عنده كلما إحتجت للمال، وكنت أجد دائما أكثر مما اطلب ولابد أنني حصلت منه على مال يفوق كثيرا قيمة ما اعطيته من كتب، تحية الود والامتنان له أينما كان، ولكل الاخوة شكري ومودتي. سمعت أن مكتبات ميدان أبو جنزير أزيلت من الوجود! لابد أن الابراج الشواهق حلّت مكانها! طوبى للأنقياء. وطوبة لمن يهدم مكتبة ويردم مكانها جبلا من الأسمنت.
للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة