|
الفساد والقهر الجزء الخامس الخطوط الجوية السودانية الحلقة 2 : معاركته عمراً كاملاً في دولة الولاد
|
الفساد والقهر الجزء الخامس الخطوط الجوية السودانية الحلقة 2 : معاركته عمراً كاملاً في دولة الولادة المتعسرة
بقلم: سعيد محمد عدنان – لندن – المملكة المتحدة عندما تحريت مع رؤساء الورديات عن الأسباب التي بها استعملت ترانزأرابيان الرافعة الشوكية الضخمة لنقل بضائعها من وإلى المستودع، وإلى ومن رافعة البضائع (الهايلودر) الملحق في خدمة الطائرة، بدلاً من سحب لوحات تحميل البضائع على عربات البضائع المخصصة لذلك، ذكروا أنهم لايعلمون أين عربات سحب البضائع، فقمت بجولة في المطار بعربة التشغيل فوجدت العربات مكدسة في مستودع ترانزأرابيان من إدخالات دفتر يوميات التشغيل إتضح أن ترانزأرابيان سحبت بضائعها بتلك العربات ولم يكلف عاملوها أنفسهم بتفريغ العربات وتركوها كلوحات تحميل بضائع قمت برفع تقرير لمدير الإدارة إبراهيم الخليل أشكو فيه تصرفات ترانزأرابيان وأقترح بمطالبتهم بدفع 500 ألف جنيه ضماناً لدينا، ومطالبة بمبلغ 1800 دولار أجرة عربات البضائع للأيام التي قضتها عندهم، على حساب أجرة العربة 50 دولاراً في اليوم، لست عربات، لفترة ستة أيام. صادق مدير الإدارة على المطالبة وأرسلت للحسابات، ثم وجهني للإجتماع مع القسم المالي في رئاسة الشركة لاستصدار أمر الضمان، وتم ذلك واتصل القسم المالي بترانزأرابيان واستلم منها مبلغ الضمان، وصار نظاما سائراً.
بعد أيامٍ جاءني في مكتبي محاسب من مكتب المطار وبيده المطالبة، وقد علّق عليها نائب المدير العام المهندس فيصل مختار "لاغية...ويتم شطبها" جاءني معتذراً قائلاً لي أنهم مسرورون أن جئت لأكشف ذلك الفساد، وأنه بالرغم من أن تلك التوجيهات إجراءياً لا تخصني، إلا أنه قرر أن يطلعني، فقدرت منه ذلك الموقف كانت هنالك مناوشات من المدراء من المهندسين الجامعيين، وكنت لا أفهمها، فقد جاءني يوماً نائب المدير، فيصل مختار، وسألني لماذا نصحت بعدم إقتراب التراكتورات التي تجر عربات البضائع أو عربات النظافة، من الطائرات؟ قلت لأن ماكيناتها "مبوشة" وتحرق زيت يتطاير شرراً من مدخنتها كما نراه الآن، فقال هذا شرر ولا خوف منه، فقلت: صحيح لا خوف منه هو، ولكن الخوف من التحول للهب، فقال لي: أعجب، كيف لمهندس مثلك يتحدث عن لهب للزيت؟ الزيت يحترق ولكنه لا يلتهب إلا من خلال جسم إحتراقي مثل فتيلة الشعلة. أنا أعلم أن الزيوت تشتعل ولكنها تلتهب عند وصولها درجة الإلتهاب وهي بالتحديد 250 درجة مئوية ولكن هذا المهندس شككني في الأمر، وفي المنزل فتحت كتاباً يخصني عن خصائص الوقود، ووجدت أنها فعلاً تلتهب. أغضبني الأمر، ولما التقيت مدير الهندسة الفاتح مكي معروف في بقالة شارع 61 أخطرته بما حدث فابتسم وقال "معليش"َ! وكنت قد تقدمت لإبراهيم الخليل للتخلص من العربة البوكس الخاصة بورشة صيانة المعدات الأرضية والتي نستعملها أيضاً في التشغيل لأنها بالية كثيرة التعطل، تضيع منا مجهود كبير في ترميماتها، فأخذ يهزأ مني ويحكي للناس بالمهندس الذي يطالب بمعدات لاتحتاج للصيانة كانت النقابة العامة للخطوط الجوية وقتها تطالب بتصحيح شروط الخدمة والهيكل الوظيفي، واجتمع العميد صلاح كرار بمهندسي الشركة وكان يستنكر أنه في ذلك الوقت كان راتب المهندس القائد 15000 جنيه شهرياً، وأنه هو كمهندس بحري لايمكن أن يستلم أكثر من 2000 جنيه شهرياً، فلم يجد العاملون منه سنداً لأن نظرته كانت مبنية على منطق بسيط، لكن سعيهم أفلح أخيراً في استصدار قرار من مجلس إدارة الشركة أن يتم تقييم كل العاملين بدءاً من الأول من فبراير 1990 بناءاً على نمط محدد: تقييم التأهيل (بدرجاتٍ محددة وثابتة لكل مؤهل)، تقييم الخبرة (بعدد سنوات الخدمة في المجال وبنسب حسب علاقتها بالمجال)، والأداء وهو ما يكون مبنياً على سجل العامل، محاسنه وأخطائه، وتقرير مدير إدارته وكان التنفيذ بطيئاً واصدر مجلس الإدارة قراراً بأن التنفيذ سيتم بأثرٍ رجعي من الأول من فبراير 1990
كان هنالك تعاطف معي سائد في أوساط الإداريين ومهندسي الطائرات نسبةً لعملي الدؤوب الذي اشتهرت به وإنجازاتي، بينما راتبي ضعيف ووضعي الوظيفي في منتهى التهميش، مع عدم تذمري بتاتاً ومعاملتي الطيبة لجميع العمال، بينما كان بيّناً أنني لا أجد تعاطفاً من المهندسين الجامعيين والذين يبدو منهم الضيق تجاهي، وكان ذلك من ضمن أسباب تعاطف الفئات الأخرى معي وكنت قد تم اختياري لأكون ضمن لجنة الدراسات الأستراتيجية في مركز البحوث الإستراتيجية، أحضر معها إجتماعاتها أثناء ساعات العمل متى ما تطلب ذلك عند ما حلّت علينا جبهة الإنقاذ ولم تفصح عن هويتها، لم يكُن أحدٌ سعيد بها إذ لم يكن هنالك ما يبرر قدومها، وقد "طلّق" الشعب السوداني الحكم العسكري "بالتلاتة" بثورتين ليس لها مثيل: أكتوبر وأبريل. لجأ العسكر للتركيز على أنهم جاءوا فقط لإزالة الممارسات الفاسدة وهدر الأموال وتخثر البيئة الإدارية، ولم يكن هنالك من لا يعلم بحالة التدهور البيئي والإجتماعي الناتج من الحكم الطويل لمايو، فسُلِّم لهم في ذلك ذات يوم كان أعضاء مجلس قيادة الثورة في المطار في وداع البشير، قيام طائرته التي كنت أراقب خدماتها، التقيت العميد إبراهيم نايل إيدام، وهو زميل دراسة في خورطقت وصديق جمعتنا سوياً هواية الرماية، وكنا قد مثلنا مدرستنا في مسابقات ضرب النار في زمن حكومة إبراهيم عبود سألته إيضاً عن العميد فيصل مدني مختار زميلي من سنار من مجلس قيادة الثورة، فذكر لي أن من مواطني سنار أيضاً العميد بابكر محمد التوم، منسق اللجنة المالية برئاسة مجلس الوزراء ذهبت للعميد بابكر محمد التوم والذي استقبلني بحرارة، وبعد الونسة وتبادل الأخبار عن سنار، تساءلت لماذا إنقلاب يونيو ذاك، فأخطرني أن البلد وصلت مشارف سيئة سببها الفساد وتدهور القيم لدى الناس، وأن الدولة تعاني وتكاد تفلس، وبما أن الحكومة ليس لها لون سياسي ولا ولاء طائفي، فإنها ستكون المؤهلة لاجتثاث الفساد، وسردت عليه مشكلتي في السودان لما أستغنيت عن الإغتراب كبقية زملائي، من أجل أن أخدم بلدي وأبنيها وكيف انتهي بي الأمر مشرداً فيها بسبب سطوة الفساد والمفسدين، وأنني سعيد ان استطيع أخيراً الأمل في محاربة الفساد فأخطرني أن العميد فيصل مختار له أخ يعمل مديراً لأمن سودانير وإسمه كمال، ووجهني له على أنه سيقدم لي أي مساعدة في ذلك، وسألني أن أوافيه بكل ما أقوم به سمع عني المرحوم الكابتن السر أبو اسكندر والذي كان يقود طائرة الخطوط الجوية السودانية البوينق 707، وعن نشاطي في محاولات إستئصال الفساد، فطلب من أحد عمال التشغيل أن يطلبني للقائه عاجلاً في الطائرة، فذهبت إليه وجلسنا في كابينة القيادة، وشرح لي القصة التالية: "كنت يوماً أقود طائرة الخطوط الجوية السودانية، سفريتها العادية لأثينا، ولما حلّقت فوق مطار أثينا أمرني برج المراقبة بالتحليق حول المطار لحين أمر بالهبوط، ولما مضى بعض الوقت استفسرت من البرج عن الوضع، فقال لي: فقط أنتظر هبوط الطائرة رقم كذا وبعدها يمكنك أن تهبط". قال الكابتن: "أصابتني الدهشة فالرقم يحمل رمز سودانير (إس دي)، وتساءلت إنها طائرة واحدة تسافر أوروبا، مرة لأثينا عن طريق القاهرة، ومرة لروما ولندن عن طريق القاهرة، وهي نفس الطائرة التي أقودها، فقلت (خلاص، ياخبر الليلة بفلوس بكرة ببلاش)"، ولكن لما هبط مطار أثينا، نزل يتمشى بحثاً عن شعار سودانير في الطائرات، ولم يجده، فسأل أحد موظفي الطيران المدني، الذي قاده لمكتبه ثم أخطره أنها طائرة مستأجرة، لاتحمل شعار سودانير، ودله عليها، فوجد طائرةً من بلد أجنبي يقودها طاقم من بلدٍ آخر وتحمل ركاب من بلادٍ أخرى، وبلغة قسم العمليات، هي إيجارة رطبة "وِت شارتر" وتختلف من الإيجارة الجافة "دراي شارتر" بأن الأولى تعني إيجار طائرة بطاقمها، والثانية إيجار طائرة بدون طاقم قال " لما رجعت للخرطوم ذهبت لمكتب العمليات وبحثت عن الطائرة فلم أجدها مدونة، وقمت بفحص السجلات وقانون صلاحيات الشركة في الإستئجار والتأجير للطائرات وللطاقم وللخط، فوضحت لي عملية سرقة كبرى، فكما يحق للشركة تأجير طائراتها وطواقمها يمكنها أيضاً السماح باستعمال الخطوط المخصصة لها لمن يرغب من شركات الطيران على أن تدفع لها شركة الطيران مبلغاً من المال عن كل راكب تقله في ذلك الخط" وسودانير لها نفس الحق في الإستئجار من الشركات الثانية لكن لغياب الرقابة والمراشد السليمة، كان المختلسون يستأجرون الطائرات والطواقم في خطوطٍ مختلفة، خصماً على أموال سودانير، فإذا اتت مربحة، سددوا المبلغ المنصرف لسودانير وترجع الأرباح لهم هم، أما إذا خسرت الصفقة، فتتحملها سودانير على أساس إنها خسارة تجارية" قال (سمعت أنك تستطيع أن تكون "وِيسِل بْلوار" أي "مصيِّح" إنابةً عني وتوصلها للمسئولين) وأنه سيسره الإدلاء بماتوصل إليه كتبت تقريراً بما أفضى به لي المرحوم كابتن السر أبواسكندر لأمن سودانير وسلمته لمديره كمال
كانت الشركة تزمع في عام 1991 شراء طائرتين إيرباص من دولة الكويت، وسافر وفد يتكون من فيصل مختار نائب المدير، كابتن شيخ الدين مدير العمليات، دكتور شمبول عدلان مدير التخطيط، ووقعوا العقد الأولي، وفي شهر يوليو من نفس العام كان مقرراً وصول الوفد الكويتي للتوقيع النهائي وتسليم الطائرات
في ذلك الوقت كان التقرير قد وصل الرئيس عمر البشير والذي أصدر أمراً جمهورياً بتكوين لجنة تحقيق في الأمر برئاسة لواء من الجيش فور صدور الأمر الجمهوري أصدر اللواء رئيس اللجنة أمراً بإيقاف كلٍ من المدير العام مختار عثمان، وكابتن شيخ الدين، ودكتور شمبول وفيصل مختار كان دكتور يس الحاج عابدين نائباً للمدير، فصار مديراً بالإنابة، وجمع مدراء الإدارات ورؤساء الأقسام قائلاً أن إيقاف هؤلاء من العمل سيضيع على الشركة فرصة الطائرات – فذكرت له أن اللواء رئيس اللجنة قد قال إيقاف هؤلاء مؤقتاً من العمل لا يمنع توقيعهم العقد في أي مكان خارج مكتبهم، ولكن المدراء رفضوا التعاون ولكنه قام بالإتصال بالعميد صلاح كرار، رئيس قطاع النقل، لحل المشكلة، وبما أن كرار لا يمكن أن يعطل الأمر الجمهوري أو يطلب من الرئيس مثل ذلك، فقد أصدر أمراً لرئيس اللجنة بتجميد عمله وكنت أرى في الرئاسة الموظفين من الجبهة الإسلامية يضحكون ويسردون كيف أن رئيس اللجنة صار غاضباً "يهرج" لوحده وهو ماشي في طريقه: فكّت منه!
من ناحيةٍ أخرى، إنتظمت ترانزأربيان ضمن طائرات نقل المؤن والجنود للجنوب، فانتهزت تلك الفرصة وشكتني لعضو مجلس قيادة الثورة دومينيك كاسيانو على أنني صف خامس أعمل ضد عمليات الجيش بالجنوب وبأنني أشل حركة تعبئة وتفريغ الطائرة، وأرهقهم بضمان مالي غير معمول به، وأنني عينت سائقاً جنوبياً إسمه أندرو لخدمة طائرات الجنوب وأنه مشكوكٌ في ولائه ، فأمر المدير بالإنابة للتحقيق معي، فواجهني المدير بالإنابة دكتور يس بالتهمة في إجتماعه بالمدراء ورؤساء الأقسام، ووجهني بتقديم ردي لمدير الإدارة قمت بإعداد ردي مشفوعاً بصور من خطاباتي لأمن سودانير ولمدير الإدارة بأخطاء وجرائم ترانزأرابيان، بدءاً من رشوة العمال بما سموه حافزاً وكان دائما يقابله نهبٌ لمعدات سودانير تُستغل فيها غشامة السائق واستحياءه من التمسك معهم، ومصير تلك الممارسة أن تزرع في هؤلاء العمال البسطاء الإرتشاء وعدم الأمانة، ثم سوء استخدام المعدات، وتزوير ساعات التشغيل ثم نهب المعدات مثل قضية حجز عربات الدوالي في مستودعهم، وعدم سدادهم مديونياتهم رفعت التقرير ولم يصلني رد فعل.. فقد تم رميه كبقية التقارير في المزبلة إستدعاني المهندس فيصل مختار في مكتبه ذات مرة، وكان معه مدير ترانزأرابيان، وطبعاً بينهم صداقة فقد كان فيصل يعمل معهم قبيل تحويله حديثاً إلى سودانير، وصاح فيّ فيصل لماذا أعاكس ترانزأرابيان، وصاح فيّ مدير ترانزأربيان يطلب إيضاحاً، فرددت على مدير ترانزأربيان بغضب أن لا حق له في استجوابي، فقال لي فيصل "هل تدري أفضال ترانزأرابيان علينا مامداها؟ إننا ندين لهم بالملايين وليسوا هم من يدين لنا بالملايين" ثم قال لي إذهب واعمل "يور هوم ويرك" – أي راجع واجباتك – قبل أن تتطفل على زبائننا بتلك الطريقة وأنا آمرك أن تقوم بتقديم دراسة لي حول مديونياتنا لترانزأرابيان ومديونياتها لنا ذهبت لرئيس الحسابات في الرئاسة وطلبت منه التفاصيل لإعدادها لي حسب أمر فيصل، ريثما أذهب أنا للجنوب لجمع تفاصيل المديونيات هناك. جاءني رئيس الحسابات وقال أن مديونية ترانزأرابيان لنا كانت مليوني دولار، ولما جاء فيصل قبل منهم سدادها بالعملة السودانية، فسددوا مليون جنيه وتبقى مليون جنيه، وأن التفاصيل سيمدني بها بعد مصادقة المدير المالي سافرت لجوبا وقابلت رئيس الحسابات هناك وأعطاني تفاصيل مديونية ترانزأرابيان في جوبا بما يفوق المليون جنيه، ولما رجعت للخرطوم علمت من رئيس الحسابات أن المدير المالي لم يصادق، ولكنه قابلني به فأخطرني أنه سيتحدث مع فيصل في الموضوع، وكانت نهاية الموضوع برغم ذلك كتبت التقرير والذي أبين فيه مديونيات ترانزأرابيان المتعددة وأنني لن أتهاون معها، ثم أدرج إبراهيم الخليل إسمي في قائمة الموفدين للدفاع الشعبي مع كتيبة الإداريين (!) فقضيت هناك شهرين ثم أمرني إبراهيم الخليل بعدم حضور إجتماعات لجنة البحوث الإستراتيجية هكذا احتدمت الحرب معي، بوكالة المهندسين الجامعيين بالخطوط الجوية السودانية، ثم جماعة الجبهة الإسلامية لاحقاً لما عدتُ، جاءني مهندسو الطيران الناشطون وطلبوا مني الإنضمام معهم في عمليات الإصلاح ووافقت وكانت النقابات قد طلبت إصلاحات في الخطوط الجوية، فوافق المدير بالإنابة وقرر عقد (مؤتمر نهضة الخطوط الجوية السودانية) وطُلب من النقابات تكوين لجنة تسيير، فرشحني المهندسون لأكون ممثلاً عنهم في اللجنة، ووجدتني في مكان يحتاج مني لطاقة هائلة، لأنها فرصة كبيرة لعمل الكثير ولم أكن أحلم بها
البقية في الحلقة القادمة
|
|
|
|
|
|