(وجدتني في مقدمتي لديوان الفرجوني، الشاعر الفحل والمغني الصيدح، استرد لثقافة الرعاة وغير الرعاة الشفاهية ديباجتها ومقامها من غائلة تكنولوجيا الكتابة. فالكتابة لم تقتحم عوالم الشفاهة فحسب بل أرخصت بها. ووقع مسعاي هذا في شاغل طويل لاستنقاذ الرعاة وثقافتهم من افتراء الكتابة وطغمها الحداثية. فما فكوا القلم حتى عدوا إرث الشفاهة "فولكلوراً" لا غناء منه. وأنشر المقدمة ها هنا كزاوية أخرى للرد على صفوة افتتنت بالكتابة وغوت وعدت ما عداها باطلاً وقبض ريح. وارتكبت بذلك جناية تفريغ أكثر شعبها من ذائقة للثقافة. ولما ارتكبت هذه الجناية عزة بإثم فك الخط سعت لتجريعه، وهو من الفاقد الثقافي، غصص الثقافة. وأنا سعيد أن وفر لي الفرجوني هذا الظعن في عوالم شعره لأتثبت من موقع أقدامي في جدالي الطويل لرد الاعتبار للعقل الرعوي. 1 ليس شاغلي في هذه الكلمة النظر في إبداع بابكر الفرجوني الذي بين دفتي هذا الديوان نظر الناقد الأدبي. فشاغلي خلاف ذلك وهو فحص عقيدة الشاعر من وراء صناعة هذا الشعر وطرائق إعداده للنشر. فالفرجوني، كما لم أر من شاعر قبل، ذو عقيدة وضحاء أن شعره تأليف ذو أصل في ثقافة شفاهية على قدم المساواة مع الثقافة المكتوبة. فشعره عنده ليس "فولكلوراً" في دارج المعنى الذي يجعل لمثله اليد السفلى وللمكتوب اليد العليا في مضمار الثقافة. فإن عده بعضنا فولكلوراً فلن يجدوا فيه عاهة إبداعية تخول لهم هذا الحكم سوى أن بيدهم القلم. وسبق الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد قيترز القول بإن الفلكلور كان ثقافة قبل أن (تسخطه) آلهة أهل الشوكة، فتهبط به من مقام الثقافة إلى درك أدب العامة الذي هو الفلكلور. فليس من مأثور يولد فولكلوراً، وإنما يصبح فلكلوراً بفعل فاعل. فالفلكلور هو ثقافة موطوءة، انفرطت من حول مركزها، وتهافتت بعد أن تسيَّدت عليها صفوة غازية أو وطنية أصبحت ثقافتها هي المعيار وما عداها أضغاث عامة. لقد كفت أن تكون ثقافة بالعنوة. وأفضل من عرض لاستحقاق الثقافة الشفاهية واستقلالها بكينونة هو روبرت أونق في كتاب عمدة هو "الشفاهية والكتابية" (1982). ففي مقال للبروفسير بول آ سوكأب في 2007 بمناسبة مرور 25 عاماً على صدوره قال إن أونق كان ضد الحزازة التي تبخس الشفاهية في الدوائر الأكاديمية. فنظريته المركزية أن الشفاهية والكتابة كونان ثقافيان يفترض كل واحد منهما إطاراً من الفكر شديد الاختلاف عنه في الكون الآخر. وهناك من رأى أن أونق جعل من الشفاهي والكتابي عالمين منقطعين واحدهما عن الآخر بينما مال آخرون إلى أنه رآهما كعالمين معقدين ومشتبك واحدهما مع الآخر بصورة لا فكاك منها. وجوهر مساهمة أونق النظرية هي دراسة كيف صار الناس ذوو الثقافة الشفاهية غير ما هم في تفكيرهم حين حلت الكتابة في العالم؟ كيف صاروا يرون العالم ويفعلون فيه بعد ذلك الحلول؟ وكيف واصلوا نقل خبراتهم إلى الآخرين؟ فالكتابة التي جاءت متأخرة إلى مسرح الثقافة غيرت ببطء، وعبر القرون، الثقافات بتغيير أنماط التعبير. فالكتابة تعيد تشكيل الوعي. فمتى حلت الكتابة في ثقافة لم يعد أهلها يعتمدون بعدها على الذاكرة لحفظ المآثر الثقافية. وصار بوسع الناس بعد الكتابة أن يتذكروا أكثر من ذي قبل وأن يتوافر لهم الوقت ليفكروا في مسائل أخرى. توقف أونق عند صعوبة يلقاها من نشأ في ثقافة الكتابة وهي عجزه عن تصور كيف للأمي الشفاهي أن يعبر عن نفسه بغير خبرة الكتابة. وعليه اتجه إلى اعتبار الصوت (الذي هو مرتكز الشفاهية) وخبرة البشرية معه. فالصوت عنده مباشر، زمني، ونشط. فالكلمات فيه ليست رسماً على الورق ولكنها أسماء، ورُقي لفظية، وحادثات. وساقه ذلك لإعلاء الأداء باللغة، اي الشفاهة. فبينما يرى الكتابي الكلام كمجرد نقل لمعلومات من طرف لآخر نجد أن الثقافة الشفاهية تراه باباً للأداء بمعنى أنه "طريق لفعل شيء ما لشخص ما". وقعّد أونق خصائص الثقافة الشفاهية ليميزها كثقافة مستـأهلة وليست طرفاً أدني في تراتبية هرمية تكون للثقافة المكتوبة اليد العليا وامتياز الوصاية عليها. فالشفاهة عنده تمجد الذاكرة كما يقال في الراعي يمجد البهائم في المرعى الطيب. فيعرف الناس بها فقط ما بوسعهم استدعائه من الذاكرة. ولذا تكتسب فنيات الذاكرة في الثقافة الشفاهية أهمية عظمي تشكل خصائصهم في الحكي وهوية الجماعة. وهذه الأشياء بدورها تؤثر على التفكير وبالنتيجة على الوعي. من جهة أخرى يرى أونق أن الكتابة، كتكنولوجيا، زائفة. فلا سياق لها، وتقع خارج الفرد، سلبية، ومدمرة للنظام الاجتماعي. فقد ترتب على سيادتها تباعد بين الناس من التفاعل المباشر والحي بعضهما البعض وقادتنا إلى الوحشة. فالكتابة تأذن، أو حتى تشجع، التباعد بين الشخص والنص. فتُخْضِع نصها لما لا يخضع له النص الشفاهي. فيمكن للكاتب أن يراجع نصع بعد كتابته، ويصقله، وهذا ما لا يمكن أن يحدث للنص الشفاهي. والشفاهي سليقي وطبيعي بينما المكتوب مصطنع يحتاج المرء دائماً لتعلمه. ومن وجوه اشتباك الشفاهة والكتابة قول أونق ب"الشفاهية الثانية". وهي عودة الشفاهية في إثر الوسائط الديجتال والإلكترونية التي ستسترد للتواصل بين الناس الخصائص المميزة للشفاهية. فيمكنك الآن أن تُضَمن موقعاً بالأسافير نصاً شفاهياً مسجلاً كما ما لا يمكنك عمله في الكتاب. والنص الإلكتروني في الشريط المدمج لديوان الفرجوني الذي بين يديك شاهد على العودة الثانية للشفاهية.
3 فطرة الفرجوني بنسبة شعره إلى صميم الثقافة الشفاهية فراسة عظمي. ووجدته رسم في نثره مسعى ذكي لاسترداد نصه الشعري من غائلة الكتابة. وتجلى ذلك في ثلاث حيل: 1-ردنا إلى الحس أو الصوت متى أردنا تقويم عروضه. فاستنباط عروضه من صورته المكتوبة مباءة خطأ. كنا تواضعنا منذ مقدمة عبد المجيد عابدين والمبارك إبراهيم ل"ديوان الحاردلو" في الخمسينات أن المسدار من بحر الرجز في عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي وبحوره. وشايعهم سيد حريز في "المسادير". واتفق حتى الطيب محمد الطيب معهم في "دوباي". ولكن الفرجوني اختلف ونسبه إلى بحر الهزج. فمن رأيه أن الخطأ في نسبة الفن إلى الرجز مصدرها شغل الدارسين العروضي على النص المكتوب. ففي مثل هذا النص يتوقف القارئ عند شطر البيت الأول قبل أن يأتي إلى شطره الثاني بينما يمزج المنشد للبيت بين المصراعين بما يغير موسيقاه ومن ثم بحره. 2-افترع الفرجوني طريقة لتقييد نصه في الكتابة تصالح فيها مع الإملاء العربي التقليدي كما لم يفعل من قبله. فرتب نهجاً لكتابة النص الشفاهي يأخذ في الاعتبار قواعد الإملاء المعروفة. وحجته أنه طالما تعود القارئ هذه القواعد فستنبؤ في نظره بعض الحيل التي تواضع عليها بعض الدراسين لكتابة الشعر الشفاهي لأنهم مثل من يريد خلق أبجدية ملحقة كمفتاح لقراءته. قالفرجوني لن يكتب "اللنكسر" (الذي انكسر) هكذا كما في دارج العرف بل سيكتبها (ال انكسر) خضوعاً لقواعد الإملاء التقليدية. ف"اللنكسر" شذوذ في عرف الكتابة التي اعتادها القارئ وربما أربكته لأنها تستدعي منه مهارة إضافية لا لزوم لها. ومن ذلك أيضاً أنه سيفرق بين "الثاء" التي إما نطقناها "سيناً" أو "تاء" بكتابتها "ثاء" (سبتك الله-ثبتك الله) في الحالة الأولي و"تاء" (ثاني-تاني) في الحالة الثانية. واعتماده هنا على "فطرة القارئ" أو فطنة القارئ الذي نريد له نقل الأصوات كما تنطق بغير حاجة. ونبه بالدليل إلى أن صور الكتابة الدراجة للكلمات مثل "بي هنا" بدلاً عن ب"هنا"، كما يقترح هو، تختل بوزن الشعر. 3- ولعل ثورة الفرجوني الكبرى على "فلكرة" الإبداع الكتابي هو حجاجه أن الشعراء الشفاهيين شخصيات متفردة في ابداعها لا يواقع الواحد الآخر. وهذا خلاف ما تواضع عليه دارسو الفلكلور الذين يرون الشعر الشعبي يصدر عن تقليد جامع مانع الشعراء فيه قطط سيامية لا فضل للواحد منهم غير إعادة إنتاجه. فنظر في تراث الطيب ود ضحوية، والشيخ أحمد عوض الكريم، والصادق ود آمنة، ومحمد ود الفكي أحمد. وميز بصمة شخصية وبلاغة كل منهما. وأقوى نقاط الفرجوني في هذه الناحية قوله إن تجريد شعراء الشفاهة من البصمة الخاصة هي من نقص في الباحثين الذين لا سبيل لهم الإيغال في معاني هذا الشعر إيغالاً يعطي كل ذي حقه. أثار الفرجوني مسائل لم تشغلنا قبلاً في استرداد الثقافة الشفاهية من غائلة أهل القلم. وهي مما يقع لمثله كرجل جوّاب آفاق، عاشق للفلاة وأهلها، وصناعتهم الإبداعية مما أرهف حسه وذوقه وطبعه بالعدل. ففي مثل دعوته لاسترداد الشفاهة هاجس ديمقراطي من الدرجة الأولى. فقد ظللنا نعد قطاعاً غالباً من أهلنا أميين (آخر إحصاء 9 ملايين) خارج نطاق التاريخ بينما هم أهل ثقافة موازية كما عرفنا من روبرت أونق منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وصرنا ننسبهم للبدائية والتخلف ونجرعهم الحداثة ونتهم "عقلهم البدوي" ونبخس استحقاقهم للديمقراطية مثلاً وكل ذنبهم أنهم لم "لم يفكوا الحرف". لا أكثر ولا أقل.
ضمن ما كتب البروفيسور في مقاله :{ فقد ظللنا نعد قطاعاً غالباً من أهلنا أميين (آخر إحصاء 9 ملايين) خارج نطاق التاريخ بينما هم أهل ثقافة موازية كما عرفنا من روبرت أونق منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وصرنا ننسبهم للبدائية والتخلف ونجرعهم الحداثة ونتهم "عقلهم البدوي" ونبخس استحقاقهم للديمقراطية مثلاً وكل ذنبهم أنهم لم "لم يفكوا الحرف". لا أكثر ولا أقل.}
.
دائماً بروفيسور عبد الله يطرق موضوعات ، لم يطرقها غيره . لم يتحدث عن المقدمات للدواوين مثلما هو معتاد ، لمن قرأ الشعر " مكتوباً "أما عن بخسنا لاستحقاقهم للديمقراطية ، يُذكرني كتيب صغير أعده أحد أهراماتنا الثقافية ( جمال محمد أحمد ) في سبعينات القرن الماضي ، عندما ألحّ عليه بعض الدبلوماسيين أن يكُتب لهم عن الدبلوماسية الشعبية ، وعن إرثنا من نماذج ديمقراطية تشبه أهل السودان ، وأذكر أنه أفرد جلّ الكتيب عن ممارسة الديمقراطية في الأرياف . وهو مبحث لم يتناوله أحد غيره ، ولم تلحق به الدراسات .
إن العلاقة بين الشفهية والكتابة ، هي علاقة وثيقة ، فما من فكرة اختمرت عند صاحبها ، إلا كانت شفهية ، كحال أننا نُفكر باللغة .أما عن الفلكلور وانحياز كل آدابنا وثقافتنا الشفهية ، إليه . ربما هو موضوع جدل . وقد كتبت أنا عن أن المطرب ترباس ، قد نقل ( حقوا لي قولي ولداً زي عُمر أنا ما بهِز فوقي ، نسيبة البِجري )وقد حرفها إلى ( حقوا لي قولي ولداً غيرك إت أنا ما بهِز فوقي ، نسيبة البِجري )، وصار الجميع ينسبها إلى التراث والفلكلور ، مع أن مؤلفتها لم تزل ، ونسأل الله أن يديم عليها نعمة الصحة . وطنها ( قوز الخرطوم ) . وهي جريرة تعديل حق أدبي وحق إبداعي " قطعته " صاحبته في الخمسينات ، لأخيها عُمر ، وكان سُجن 5 سنوات في حادث دفاع عن النفس . وقد سارت بها أغنية " السباتة" في الفتيحاب والقوز ، في الخمسينات والستينات . وهي قطرة في بحر السرقات " عينك يا تاجر "!!هذا ما أراه من نسبة الفلكلور إلى عمل إبداعي له مؤلف معروف . وصدق الشاعر المُبدع " عتيق " حين قال في إحدى اللقاءات :( نحْنَا نَبيت القَوَى والناس تغني غُنَانا وغلط كمان )
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة