اليوم الثامن للوفاة.. مازال هنالك بقايا دمع على الماقي.. آخر وفود المعزيين المقيمة لبعض الوقت غادرت المنزل.. احاديث لا تقال ولكن تقرأ في العيون.. كيف سيتم توزيع ميراث المرحوم عبد النور.. آمال البنت الكبرى تسللت إلى محبس أمها لتجمع بعض المعلومات.. ولكنها لم تجدها.. خرجت من الغرفة بين الدهشة والحيرة.. في البهو الأنيق سألت شقيقتها الصغرى سلوان.. البحث عن الأم في البيت المكون من خمسة طوابق لم يكن أمرا سهلا.. تم استنفار جميع اهل الدار. الشغالة الاثيوبية سميرة كانت أول من وصل الى مخبأ الأم.. حاجة نور اختارت ان ترقد على عنقريب الجنازة الذي تم إخفائه في الزقاق الغربي.. تراجعت سميرة من خطواتها حينما سمعت ابتسامة ضاجة من سيدة البيت المدودة على السرير الخشبي.. حينما توقفت كانت تسمع بوضوح حوار من اتجاه واحد.. انسحبت الحبشية مذعورة الى داخل المنزل الأنيق..صرخت في الحاضرين: "ماما بتكلم بابا في الزقاق".. لم تهتم السيدة الحزينة لتحلق بناتها حولها ..حينما ارتفع صراخ البنات الذي يشبه التمثيل طلبت منهن بحسم الانصراف. كانت السيدة نور البقيع تحدث نفسها بصوت مسموع.. كل شيء في هذه الدار مزيف..حتى اسمها نال حظه من التزوير..باتت تسمى السيدة نور..الامر الذي لم يطاله التزييف هو هذا السرير الخشبي..كان المرحوم مهتما بهذا السرير بشكل غريب..يعيد نسجه كل عام.. حينما بدأ السرطان ينهش في عظمه استدعى السرير التاريخي من داخل المخزن.. هجر عبدالنور البيت الأنيق وبات يقضي سحابة يومه تحت شجرة النيم..حينما يأتي الليل يسحب السرير إلى الحوش الأمامي..كان يخاف ان يخطفه الموت من أي مكان اخر..كانت لديه شجاعة ان يلتقي الموت من على هذا السرير الخشبي. لا أحد كان يدرك سر ذاك الارتباط بين الرجل والسرير الخشبي سوى السيدة نور.. كان عمرها نحو ستة عشر عاما حينما تعرفت على هذا السرير.. جاءت من القرية الى المنزل الذي كان يسكنه شباب من العزاب ومن ضمنهم زوجها عبدالنور..أصدقاء الزوج أخلو المنزل لبضعة ايام حتى تعود الزوجة الى ريفها بعد مقابلة الطبيب، لكن ذلك لم يحدث أبدا. منذ اليوم الاول كانت المعادلة صعبة بين مدخول عبدالنور الموظف الصغير بمصلحة الاراضي وطموح زوجته..كانت كل يوم تنظره بقائمة من الطلبات..تصرخ في وجهه "يا اخي اتصرف".. وكان التصرف الاول عائده ثلاث جنيهات.. تلك المرة الاولى التي تطبع فيها نور قبلة على خد زوجها دون ان يصحب ذاك إطفاء النور.. بعد اشهر تغيرت الاوضاع.. كان عبد النور يكسب في يومه ما يكسبه زملاؤه في شهر.. تنحى السرير الخشبي إلى خارج غرفة النوم.. ثم لاحقا تمت إحالته الى المخزن.. بعد عام رحل عبد النور الى حي سكني آخر في بيت ملك. حينما أكمل عبدالنور عشر سنوات في العمل ادرك ان عليه ينصرف..العمل غير المشروع جر عليه أموالا طائلة.. نصحته زوجته ان يترك خدمة الحكومة الى براح السوق.. افتتح عبدالنور وكالة عقارات مستثمرا علاقاته بمنجم الذهب.. ازدادت الاسرة ثراءا ..لكن ضمير عبدالنور لم يكن أبدا مرتاح..ليته صبر على الفقر مثل زميله جعفر الحلفاوي.. الان أولاده يردون اليه التحية.. فكر غير مرة أن يتحلل ولكن نظرات زوجته نور البقيع كانت ترده. حينما انتهى الحوار بين نور البقيع وزوجها ارتفعت دقات قلبها.. شعرت انها تغرق في حبيبات العرق..وضعت يدها على قلبها ثم نادت ابنتها الكبرى امال..ارادت ان تحقق رغبة زوجها في التحلل من المال الحرام..ازدادت دقات القلب.. بات الجسد الضخم اكثر ثقلا..تحرك ذات العنقريب في رحلة جديدة الى المشفى ..قبل ان تغادر ذات السرير كان طبيب الطواريء يخبر الاسرة البقية في حياتكم.. عاد العنقريب الى ذات مكانه السابق وتجددت افراح الاسرة.. حساب الورثة بات اقل تعقيدا بعد موت الام.. تزداد الحسرة حينما يصبح الموت بابا للفرح. assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة